البعد الحضاري والثقافي للحج

قيم هذا المقال
(0 صوت)
البعد الحضاري والثقافي للحج

لا شكّ أن التحدّي الأكبر الذي يواجه العالم الإسلامي هو التخلف الحضاري. أي إن المسلمين لا يساهمون المساهمة التي تتناسب مع إمكاناتهم ومكانتهم في صنع الحضارة العالمية.. بل هم في جلّ وجودهم تابعون مقلّدون وأحيانًا مهزومون. التحرك الحضاري يتطلب أمّة مفعمة بالأمل والنشاط والنظرة إلى المستقبل.. يتطلب أمة حيّة.. والحياة بهذا المعنى هو هدف خلقة الإنسان ليمارس دور الاستخلاف.. وهو هدف الإسلام : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ .

 التحدّي الكبير

لا شكّ أن التحدّي الأكبر الذي يواجه العالم الإسلامي هو التخلف الحضاري. أي إن المسلمين لا يساهمون المساهمة التي تتناسب مع إمكاناتهم ومكانتهم في صنع الحضارة العالمية.. بل هم في جلّ وجودهم تابعون مقلّدون وأحيانًا مهزومون. التحرك الحضاري يتطلب أمّة مفعمة بالأمل والنشاط والنظرة إلى المستقبل.. يتطلب أمة حيّة.. والحياة بهذا المعنى هو هدف خلقة الإنسان ليمارس دور الاستخلاف.. وهو هدف الإسلام : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ .

حين بزغ فجر الرسالة في جزيرة العرب حوّل أشتاتًا من القبائل المتصارعة إلى «أمة».. إلى «أمة حيّة» .. «أمة متحركة»، ثم مالبثت هذه الحركة الشاملة أن أنتجت حضارة كان لها الفضل على تبديد الظلام على الساحة العالميّة.

حتى في هذه الأصقاع النائية عن مركز الخلافة ظهر الفارابي والخوارزمي والبيروني وابن سينا ليكونوا أعلامًا عالمية في العلم وفي الحضارة الإسلامية.

وبسبب ظروف معروفة هبطت مظاهر الحياة في الأمة الإسلامية واتجه منحني إنتاجها الحضاري إلى النزول، وساد الانحطاط.

وأمام هذا السقوط اتجهت الأفكار نحو البحث عن علاج لحالة الأمة، ‌فجاء البشير الغربي ليضخّ أمواجًا هائلة فكرية ونفسية تدعو إلى التخلّي عن الهويّة والجذور والأصالة والاندماج بالغرب، وكان خطابه مدعومًا بما حققه من تقدّم وتطوّر بعد أن أبعد الكنيسة عن الحياة.

وانساق إلى هذه الأمواج قطاعات واسعة من الأمة واتخذت لنفسها لافتات متعدّدة تنطق كلّها بلغة واحدة، هي لغة الهزيمة النفسية أمام القوى المتفوّقة الغالبة.

وظهر إلى جانب هؤلاء روّاد يدعون إلى انبثاق مشروع إحيائي من محتوى رسالة هذه الأمة وثقافتها.

كلمة الإحياء كانت مناسبة تمامًا لعمل هؤلاء الروّاد، ولما تحتاجه الأمة الإسلامية على أثر انحطاطها.

هؤلاء آمنوا أولًا بأن مشروع الحياة الإسلامية أو بعبارة أخرى مشروع الحضارة الإسلامية لم ينته كما انتهت الحضارات التي سادت زمنًا ثم بادت، وهو إيمان لا ينطلق من أسس غيبية فحسب، بل من حقيقة موضوعية ترى أن الأمة الإسلامية تمتلك ثقافة ذات عناصر فاعلة.. هذه العناصر فقدت فاعليتها بسبب ظروف قاهرة.. ولو تمّ تفعيل هذه العناصر فإن الحياة ستعود إلى الأمة وستعود الأمة إلى ممارسة دورها الحضاري.

الحج وقوام الأمة

القيام والقوام اسم لما يقوم به الشيء أي يثبتُ، كالعماد والسناد لما يُعمد ويُسنَد (مفردات الراغب، مادة قوم).

من هنا نفهم قوله سبحانه وتعالى: جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ بأن الكعبة هي التي تحافظ على وجود الأمة وتُسند هويتها.

هذه حقيقة نفهمها أكثر ونحن ننظر إلى بلادٍ مثل طاجيكستان التي أريدَ لها أن تفقد هويتها منذ القرن السادس عشر، لكنها لا تزال تحتفظ بهذه الهوية بقوّة، وتقدّم كل مخزونها التاريخي اليوم لتصبح «دوشنبه» عاصمة للثقافة الإسلامية.

أليس هذا عجيبًا أن تكون الشعوب الإسلامية رغم الحدود والسدود القومية والاقليمية والمذهبية والسياسية «أمة» واحدة يشدّها من المحيط إلى المحيط، بل يشدّ ما تفرّق منها في القارات، شعورٌ واحد وعواطف مشتركة وتطلّعات وآلام وآمال مشتركة؟!

لا شك أنّ للحج دورًا هامًا في صيانة «وجود» هذه الأمة وهو الحدّ الأدنى من الحضور على الساحة البشرية.

لعلّ جزءًا كبيرًا من هذا الدور ينهض به الحج لما فيه من وحدة المقصد ووحدة الحركة ووحدة الملبس ووحدة الآمال ووحدة العاطفة. هذه الوحدة التي تجمع ليس حجّاج بيت الله الحرام فحسب، بل كل المتفاعلين مع هؤلاء الحجاج في شتى بقاع العالم من أقارب ومودّعين ومستقبلين ومستمعين لأخبار العائدين.

إلى جانب هذا التوحيد ثمة ظاهرة هامّة أخرى تتميّز بها فريضة الحج تمهّد لحركة حضاريّة في الأمة إنْ توفّرت سائر العناصر الأخرى لهذه الحركة، وهي «الخروج من الذاتيّة».

ولأهمية هذه المفردة في المنظومة الثقافية الإسلامية، ودورها في التفعيل الحضاري أقف عندها قليلًا.

الخروج من الذاتية

دعوة الإسلام تقوم على أساس العبودية لله تعالى وحده دون سواه، وهذه العبودية لها معنى حضاري كبير، فهي تعني ـ كما فهم ذلك المسلمون الأوائل والمسلمون الواعون على مرّ التاريخ - الحركة نحو التخلق بأخلاق الله والسير على طريق ما رسمه الدين الإلهي من كمال للإنسان لكسب رضا الخالق سبحانه، وإزالة كل العوائق التي تقف على طريق هذه الحركة، وهي الآلهة السرابية.

دعوة التوحيد تعني التحرر من الركون والسكون في أوحال نزعة «الطين» في الإنسان، والاتجاه نحو تفعيل «نفخة روح ربّ العالمين» فيه.

وبدون هذا التحرر يبقى الإنسان راسخًا في أغلال الأهداف الصغيرة التافهة التي يسميها القرآن «الهوى» أرأيت من اتخذ إلهه هواه أو على أفضل الأحوال يتحرك نحو آلهة سرابية يحسبها الظمآن ماءًا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِندَهُ..

البقاء في خصلة الطين أو ما أسمّيه بالذاتية هو أساس كل تخلف في البشرية، وأساس بقاء الإنسان يراوح في مكانه دون أن تكون له تطلعات مستقبلية. من هنا فإن الإحيائيين سعوا أول ماسعوا إلى وضع الأمة أمام أهدافها الكبيرة، وتفعيل شعورها وطاقاتها للتحرك نحو هذه الأهداف.

سفر الحج يوفّر بدرجة وأخرى فرصة للتحرر من الذات الفردية والقومية والإقليمية والعشائرية والطائفية ليجعل الإنسان المسلم جزءًا من الأمة الاسلامية بعظمتها وبآمالها وآلامها.

من هنا نرى فيما كُتب وأُنشد بمناسبة الحج كلامًا عن هذا التحرر من الذات، ومن الطبيعي أن ترتبط درجة هذا التحرر بدرجة يقظة الشعور لدى الإنسان المسلم.

غير أن هذه الصحوة بعد الخروج النسبي من الذاتية لا تؤتي أُكُلها كاملة دون فهم لرموز مناسك الحج ودون استثمار فرصة الحج للتواصل الحضاري. وأقف عند مناسك الحج بنظرة حضارية، ثم عند التواصل الحضاري.

مناسك الحج بنظرة حضارية

كل العبادات هي تركيز على ارتباط الإنسان بالمثل الأعلى المطلق الحق سبحانه، ومن ثم فهي توجِّهُ الإنسان نحو حركة تكاملية غير محدودة، وتزيل من طريقه الآلهة المتعملقة التي تُحدّ مسيره أو تقطع عليه الطريق.

غير أن فريضة الحج فيها من المنهج ما يشكّل مدرسة للحركة ونقف عند بعض معطيات الحج في صياغة الجماعة المتحضرة والإنسان المتحضّر.

1 - الارتباط بالمطلق يحتاج إلى تعبير عملي وسلوك حسّي يعمق الارتباط بالمثل الأعلى الحق ويوجهه الوجهة الصحيحة المنسجمة مع سائر احتياجات الفرد والمجموعة البشرية.

العبادات عامة والحج، بما فيه من مناسك حسيّة، ينهض بدور هام في توثيق الارتباط بالمطلق الحق.

فالحج وفود على الله، ومناسكه تلبية لنداء الله وطواف حول بيت الله وسعي ووقوف ورمي وتضحية في سبيل الله. ومناسكه تلبية لنداء الله. وتوثيق الارتباط بالله له الأثر الكبير في دفع المسيرة نحو الكمال المطلق وإزالة كل العوائق التي تقف بوجه المسيرة.

2 - العمل الفردي لا يمكن أن يتحول إلى عمل اجتماعي ذي آثار على المسيرة البشرية إلا إذا تعدّى حدود عامله، أي أن يتجاوز الذات، ويدخل في حياة الآخرين.

والعبادات تربي الإنسان على تجاوز الذات، ومناسك الحج فيها العطاء التربوي الكثير في هذا المجال. القدوم إلى بيت الله الحرام من كل فج عميق، وعلى كل ضامر، والتضحية بالمال وبذل ألوان الجهود كلها تنهض بدور تربية الإنسان على الإيثار وكسر الأنانية.

الأحاديث الشريفة التي تحذر من الرياء في أداء فريضة الحج ومناسكه، إنّما تؤكد على حقيقة تجاوز الذات في حركة الإنسان ونشاطه، وتربي الإنسان على العمل المساهم في دفع عجلة المسيرة التاريخية نحو كمالها المنشود.

3 - الشعور بالمسؤولية هو الإحساس الداخلي الدافع للإنسان على الالتزام بالمسيرة وضبط النفس على مواصلة الطريق، وفي مناسك الحج تعليمات كثيرة تربي هذا الإحساس بالمسؤولية، وتمرّن الإنسان على الانضباط الدقيق أمام المطلق الحق ورقابته الغيبية. وتتجلّى هذه التعاليم بوضوح فيما يجب ويستحب ويكره ويحرم على الإنسان المحرم في موسم الحج، كما تتجلى في الآية التي تتحدث عن عطاء الهدي، حيث تنفي أن يكون الهدي تكريسًا لذات الله سبحانه وتعالى، كما تفعل الآلهة المتفرعنة في أوامرها لأتباعها، وتؤكد أن الهدف من الهدي هو (التقوى)، أو الانضباط على خط المسيرة: لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (الحج:37).

4 - الحج تربية للامة على (الحركة) في طريق المطلق الحق. ولعل فريضة الحج أكثر فرائض الله احتفالا بالحركة من طواف وسعي وإفاضة. وهذه الحركة المستمرة إشعار للموحدين على أن الارتباط بالمطلق الحق لا ينفك عن الحركة على سبيله، وتأكيد على أن الخمود والجمود يعني الانحراف عن الطريق الذي أراده الله للأمة المسلمة.

5 - حركة المسلمين في إطار مناسك الحج تتميز بالجماعية والتنسيق وزوال الفوارق. وهي تجسِّد المسيرة الصحيحة نحو الإله الواحد الأحد. فهي مسيرة جماعية تتجه فيها المجموعة البشرية نحو هدفها التكاملي، وليست مسيرة هذا الفرد أو ذاك. كما أنها ليست بالمسيرة المبعثرة المتفرقة المتشعبة، بل منسّقة تتجه في كل منعطفات التاريخ اتجاهًا منسقًا موحدًا كما أن المسيرة تتميز بزوال الفوارق الطبقية العنصرية.

جميع هذه المظاهر اللازمة للمسيرة البشرية على طريق الله نشهد مظاهرها في حركة الحجاج المجردين من كل مظاهر الزينة والتفاخر والموحّدين في الملبس والمتّجهين بنسق واحد في حركة الطواف والإفاضة.

6 - التحرك الواعي على طريق المسيرة. فالوعي والتفتح أو «استماع القول واتباع أحسنه» بالتعبير القرآني من صفات المسيرة المتجنبة للطاغوت، والمنيبة إلى الله.

هذه الصفة تتجسد في حركة الحجاج من خلال تأكيد الإسلام على عدم الوقوف عند الشكل الظاهر من الشعائر، بل تجاوز الظاهر للتوغل إلى عمق الشعائر.

الجهل في تاريخ البشرية ينطلق من قاعدة واحدة على مرّ العصور وهي عدم التوغل في مظاهر الحياة المشهودة وعدم التعمّق في كنهها. وعلى العكس من ذلك العلم، فهو ينطلق دومًا من ذهن ألِفَ الانتقال من المظاهر إلى الأعماق. كم من إنسان شاهد على مر التاريخ سقوط تفاحة من الشجرة وهو غير مبال بهذا السقوط المألوف العادي. لكن الذهن المتفتح انتقل من هذا السقوط العادي إلى اكتشاف قانون الجاذبية.

مشكلة الجهل هذه قائمة حتى في المجتمعات المتطورة في العلوم المادية اليوم، وتتمثل في افتتان الإنسان الغربي بما اكتشفه من معادلات وقوانين، فحوّلها إلى مطلق لا يرى وراءها المطلق الحقيقي، «وأصبح يقدم للعلوم المادية فروض الطاعة والولاء، ويرفض من أجلها كل القيم والحقائق التي لا يمكن قياسها بالأمتار أو رؤيتها بالمجهر».

7 - التحرك المثمر. وقد ذكرنا أن الحركة على طريق المطلق الحق مقرونة دومًا بالعطاء وعطاء الحج نموذج مصغّر لذلك.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن الإسلام ترك للأمة المتحركة، بوعيها على متطلباتها الحياتية، أن تشخص المنافع التي تجنيها من موسم الحج، ولذلك جاءت كلمة (منافع) الحج في الآية بصيغة النكرة، لتؤكّد على مطلق المنافع التي تراها الأمة الواعية السائرة على خط الله مقومة لوجودها.

وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (الحج:27ـ 28)

جدير بالذكر أن هذه المنافع لا تتحقق إلا عندما تكون هناك (أمة)، وتكون هناك(حركة) على طريق الله، عند ذاك تكون الحركة مقرونة بالعطاء ومقرونة بالمنافع بما في ذلك حركة الأمة في موسم الحج. أما عندما تطوف بالبيت مجموعة بشرية راكدة هامدة كالذي كان يفعله الجاهليون قبل الإسلام، فلات حين عطاء، ولاتَ حينَ منافع. لأن هذه المجموعة البشرية لا تستطيع أن تفهم سبلَ الاتجاه نحو العطاء: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (العنكبوت:69). إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (البقرة:218).

8 - الهدم والبناء عمليتان ترافقان كل حركة اجتماعية تكاملية.

حينما تكون الحركة على طريق الله، يتوازن الهدم والبناء فيها بشكل ينسجم وطبيعة واقع التحرك البشري، دونما إفراط في الهدم ووقوع في الفوضوية، ودونما إفراط في الاتجاه نحو البناء وإهمال عملية الهدم والوقوع بالتالي في عملية المراوحة خلف الحواجز والسدود.

عمليات بناء الإنسان المتحرك والمجموعة البشرية المتحركة على خط الله استخلصناها في معطيات الحج المذكورة آنفا، وهنا نشير إلى اقتران هذه العمليات بالهدم اللازم لاستمرار الحركة.

رمي الجمار الكبرى والوسطى والصغرى مرات في مناسك الحج يرمز إلى جانب هام من جوانب حركة الإنسان المتمثل في صراعه لكل العوامل المضادة التي تقف في طريق حركته.

الجمار ترمز إلى الشيطان كما جاء في الروايات الإسلامية، والشيطان يمثل كل عوامل صدّ الأمة عن مسيرتها نحو الله. ورمي هذه الجمار يرمز إلى مقارعة هذه العوامل المضادة بالقوة وعلى الحاج أن يتجهز مسبقًا بسلاح الرمي من المشعر الحرام، فيلتقط منه حصياته، ويتجه إلى منى للرمي.

تقديم الأضحية في سبيل الله يشعر أيضًا بأن الروح السلمية الوادعة التي يحملها الحاج حين الإحرام حتى بالنسبة للبهائم وحشائش الأرض، ينبغي أن تقترن بروح التضحية لأن المسيرة التكاملية نحو الله تتطلب ذلك.

9 - المسيرة المتصلة، القرآن الكريم يفيض في شرح قصص الأنبياء والأمم السابقة ليخلص منها إلى نتيجة واحدة هي إن السنن الحاكمة على مسيرة التوحيد واحدة على مر التاريخ وهكذا السنن الحاكمة على خط الشرك واحدة أيضًا لا تتغير.

هذه النتيجة توضح للأمة المسلمة أنها تسير على خط عريق تمتد جذوره إلى أعماق التاريخ سار عليه كل الأنبياء والصالحون في التاريخ، وهو خط له سننه الخاصة وقوانينه التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا يخفى مالهذا الاستشعار من عطاء ثَرّ يؤصّل إيمان الأمة المسلمة بطريقها ويفسح لها فرصة الاستفادة من تجارب الرهط الكريم الذي سبقها في موكب الإيمان.

الحج ينهض بدور هام في التأكيد الحسي على هذا الاتصال. فالأمة المسلمة تطوف حول نفس البيت الذي وضع قواعده إبراهيم وتسعى وتهرول على نفس طريق المرأة الصالحة هاجر، وتضحي استشعارًا لتضحية إسماعيل. وبذلك تنشدّ الأمة المسلمة بمسيرة التوحيد التاريخية العريقة بكل ما تتطلبه المسيرة من صبر ومعاناة وتضحيات واستقامة ومواصلة».

10- زمزم رمز للعطش ثم السعي ثم انفجار ينابيع الحياة.

لقد «عطشت» هاجر، و«سعت» بين الصفا والمروة وكانت نتيجة سعيها أن انفجرت زمزم لتتحول إلى ينبوع يسقي العطاشى على مرّ التاريخ.

هذا «العطش» له مفهوم حضاري كبير، فهو وراء كل تطور في تاريخ البشرية، وما لم يكن هناك عطش فلا تجد سعيًا، وما لم يوجد السعي لا يتحقق الانفجار المعرفي ولا الرواء الحضاري.

التواصل الحضاري

التواصل الحضاري هو بالتعبير القرآني «التعارف» والتعارف من باب التفاعل ويعني التبادل المعرفي. إذ ليس هو أن تعرفني في ظاهري وأعرفك في ظاهرك، بل هو عملية أخذ وعطاء معرفي. وإذا كان الهدف من خلقة الإنسان هو تكامله المادي والمعنوي فإن هذا التكامل لا يتحقق إلا بالتعارف: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ.

والتبادل المعرفي ليس بالأمر الهيّن، إذ يحتاج إلى جوّ حضاري تنزاح منه عوامل تكامل الإنسان أو ينزاح منه «الطاغوت» بالتعبير القرآني ـ وأفظعه طاغوت النفس أو الذاتية ـ ليتحقق هذا التبادل. وحين ينزاح الطاغوت تنفتح منافذ تلقي المعرفة عند الإنسان، عندئذ يسمع، ويختار الأفضل، وتسود حالة الحوار المعرفي بين الفرد والآخر.

القرآن يوضّح هذه الحالة الحضارية إذ يقول:

وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إلى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ إذ البشرى خاصة بالذين اجتنبوا موانع كمال الإنسان.. اجتنبوا الطاغوت..

وما هي البشرى؟ إنهم يستمعون القول فيتبعون أحسنه

والتواصل الحضاري كان على أشدّه يوم كانت الحركة الحضارية قائمة في أمتنا الإسلامية. فقد تواصل العرب والفرس والهنود والترك، بل حدث التواصل مع الحضارة اليونانية، فكان أرسطو المعلم الأول والفارابي المعلم الثاني.

وكان الأخذ والعطاء قائمًا عبر حركة الترجمة، والحوار والتدريس والمناقشة وسَفَر العلماء لتلقي العلم بين خراسان في المشرق والأندلس في المغرب.

أما حين غابت الحركة الحضارية أصبح الكل يتحدث عن نفسه دون أن يكون هناك سامع. ونرى حتى اليوم في الفضائيات ما يسمى بالحوار بين اثنين أحدهم يتكلم بلسانه والثاني يتكلم مع نفسه ليردّ على الآخر لا ليسمعه ويتلقى منه الكلام ويتبع أحسنه.

ما نراه اليوم من حواجز وسدود وحدود إقليمية وطائفية وقومية و... إنما يعود إلى نوع من هذا الطاغوت الذي يحول دون التواصل بين أبناء العالم الإسلامي.

قراءة 1982 مرة