Print this page

الحج في القرآن

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الحج في القرآن

 عبدالله جوادي آملي

لماذا سميت مكة ببكة؟

قال تعالى: (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) وقد قيل: إنّ المقصود بـ"بكة" هو مكة، إذ تبديل الميم إلى الباء يحدث أحياناً نظير "لازب ولازم". بيدَ أنّ تعليل ذلك لا يكون بالتبديل، وانما: "لأنّ الناس يَبُكُّ بعضهم بعضاً" أثر الازدحام والكثرة عند اجتماع الناس فيها.

و"بك" تأتي بمعنى التحطيم، فهي بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة والبغاة إذا بغوا فيها، فتدفعهم.

 

معنى مباركاً:

يقول تعالى في وصف بيته الذي بمكة: (مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 96). والمعنى انّ البيت منشأ الوفير من البركات، وهو وسيلة هداية للناس. وتطلق "البرك" على المال والشيء الثابت، فما له ثبات ودوام فهو مبارك.

من هنا اطلق على تجمعات الماء في الصحراء انها "بِركة" لما تتسم به من ثبات، ولأنها تحفظ الماء من الهدر فيدوم.

وبتعبير الشيخ الطوسي فانّ الصدر يسمى "برك"؛ لأنّه المكان الذي تحفظ فيه العلوم والأسرار والأفكار وتثبت. وكذا يقال "بَرَك" لوَبَر البعير من جهة صدره.

وذات الله مباركة لجهة ثبات خيرها ودوامها.

أما بالنسبة للبيت فلانه ينعم بالخير والثبات أكثر من الأماكن الأخرى فهو يكون "مباركاً"؛ أي وفير الخيرات دائمها. أما كون الكعبة وسيلة هداية للناس كافة، فمرد ذلك إلى أنّ جميع العباد والسالكين يقصدونها؛ ومنها صدعت دعوة الحقّ إلى البشرية جمعاء؛ إذ مِنها انطلق نداء نبينا (ص): "لا إله إلّا الله" إلى أرجاء الدنيا.

فهي إذاً محضن الحقّ، تتوفّر على وسائل كثيرة أخرى لهداية الناس. وفي مكة آيات لله لا تحصى. (فيه آيات بينات).

 

مقام إبراهيم:

يقول تعالى: (مقام إبراهيم) لقد ذهب البعض للقول: انّ إبراهيم (ع) كما "كان أمة واحدة" فإنّ مقامه أيضاً بمنزلة "آيات بينات"؛ أي انّ المقام في آثار أقدام الخليل (ع) وفير بالمعجزات، حتى أضحى المقام بمنزلة "أمة واحدة" في باب الإعجاز، كما هو شأن الخليل نفسه.

والسؤال: كيف أضحى "مقام إبراهيم" آيات بينات بصيغة الجمع، في حين انّ السياق يقتضي التعبير بالمفرد، فيقال: آية بينة؟

ثمة في الجواب عدّة احتمالات، نشير للأول منها من خلال ما يلي:

أوّلاً: لقد تحوَّل الصخر الصلد إلى عجين لين، وذلك في حدِّ ذاته آية ومعجزة.

ثانياً: ثمة مكان محدَّد من الصخرة هو الذي لانَ دون البقية.

ثالثاً: انّ لين الصخرة حصل لعمق وبشكل معيّن ثمّ عادت الصخرة – فيما عدا ذاك – لصلادتها.

رابعاً: لقد بذل الأعداء جهوداً محمومة لمحو هذا الأثر، بيدَ أنّه بقي يتطاول على الزمان محفوظاً من عبث الطغاة.

خامساً: ثمة قوى مولعة بخطف ما يقع بيديها من آثار قديمة في بلاد المسلمين تتسم بطابع فني، أو تحمل خصائص مقدَّسة، ومع ذلك بقي هذا الأثر دون أن تفلح هذه القوى بنقله إلى خارج العالم الإسلامي.

 

كيف تشكّل الأثر في مقام إبراهيم؟

هل تشكّل الأثر في مقام إبراهيم حين وقف (ع) على المكان – الصخرة – أثناء بناء الكعبة؟ أو انّ الآية حصلت حين عادَ إبراهيم للمرة الثانية فطلبت منه زوجة ولده إسماعيل أن ينزل لتغسل له (رأسه أو رجله) إلّا انّه لم ينزل وانما وضعَ قدمه على الصخرة فتركت هذا الأثر؟ أو الأثر انطبع على الصخر حين اعتلاه الخليل ليؤذّن في الحج امتثالاً لأمر الله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا...) (الحج/ 27).

يمكن أن يكون الأثر قد حصل في جميع هذه الحالات، أو في إحداها.

فجميع هذه الوجوه محتمل الوقوع. بيد انّ ما يهمنا التأكيد عليه هو أنّ الخليل (ع) وضع قدميه على الصخرة فانطبعت آثارهما، وبقيت الآثار حتى اللحظة. أما في أي حالة من الحالات آنفة الذكر تمّ ذلك، فالأمر مُناط للروايات الخاصة التي تتكفل إضاءة المسألة وبيانها.

إنّ هذه الخصيصة التي حصلت لإبراهيم (ع) كانَ لها ما يناظرها في سيرة داود (ع)، حيث يحدثنا (سبحانه) في سورة سبأ، بقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) (سبأ/ 10). ليس هذا وحده، وانما عُلِّمَ داود صناعة الدروع، حيث يقول تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ) (الأنبياء/ 80)، لقد كان الحديد البارد الصلد يلين بين يدي داود (ع).

وما ينبغي الانتباه انّ القرآن استعمل (ألنّا) في مسألة الحديد، في حين استعمل (علّمناه) في صناعة الدروع. والسر انّ صناعة الدروع هي جزء من العلوم الحرفية الصناعية التي يمكن تعلّمها واكتساب المهارة فيها، وبالتالي يمكن انتقالها إلى الآخرين. أما إلانة الحديد فهي ليست مسألة مهنية تدخل في إطار العلم والتعلّم، وبالتالي لا يمكن أن تنتقل إلى الآخرين، ولذلك لم يعبّر عنها بـ"وعلّمناه إلانة الحديد".

قد يقال: إنّ من الممكن إلانة الحديد عبر تذويبه في صهاريج الفولاذ، إلّا أنّ الآية لا تتحدث عن هذا النمط من الإلانة والتذويب الذي يقع في مجال العلم، وانما تتحدث عن فعل إعجازي، حيث كان داود (ع) يمسك الحديد الصلب بين يديه ويشكّله كيفما شاء، تماماً كما يمسك الإنسان العادي الشمع بين يديه ويعيد تشكيله بماء يشاء.

ومقام إبراهيم (ع) هو من هذا القبيل، مع فارق بين الاثنين حيث لانَ الحديد لداود، والصخر لإبراهيم، والتقدير "والنا له الحجر".

لقد أضحى الصخر ليناً ناعماً بين قدمي الخليل، حتى ترك أثرهما عليه، مُضافاً لذلك انّ الصخر أضحى بمثابةِ "المحفظة" لقدم الخليل (ع) كما الحديد بالنسبة لداود (ع).

والآن عودة إلى بدء. فقد انطلقنا من السؤال التالي: كيف يكون مقام إبراهيم لوحده – بصيغة المفرد – دالة على (آيات بينات) وهي بصيغة الجمع؟

ذكرنا حتى الآن أحد احتمالين – حيث لاحظنا انّه هناك عدد من الآيات المعجزة في المقام يشكّل مجموعها: آيات بينات – والاحتمال الأوّل هذا ذهب إليه الزمخشري.

أما الاحتمال الثاني ففحواه (آيات بينات) تنطوي على عددٍ كبير – من الآيات والمعجزات – احداها (مقام إبراهيم)، وثانيتها: (وَمَن دخله كانَ آمناً).

 

الأمنان التكويني والتشريعي لبيت الله الحرام:

إنّ للكعبة أمناً تكوينياً، إذ دأب الكثير من الطغاة على التعرض للبيت في محاولة للقضاء عليه، ولإلحاق الأذى بأهل مكة، إلا أنّ الله سبحانه حفظ البيت وجعله في أمان. يقول تعالى: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 4). ويوم لم يكن ثمة أثر للتشريع والأحكام، كان أهل مكة وهم مشركون يتمتعون بأمن خاص. ثمّ هناك الأمن التشريعي، ومؤدّاه: (من دخله كان آمناً)، بل انّ الطبري نقل في تفسيره للآية (97) من سورة آل عمران، انّ المجرم الجني كان في الجاهلية إذا لجأ إلى الكعبة لا يتعرض له أحد بسوء.

وهنا لا نحتاج للتكلّف فنحصر (آيات بينات) في خصوص "مقام إبراهيم" أو خصوص ما للبيت من أمن إلهي مجعول. فبئر "زمزم" و"حجر إسماعيل" و"الحجر الأسود" هي أيضاً آيات بينات.

بل إنّ البيت بنفسه هو معجزة وآية بينة، بدليل ما حلَّ بأصحاب الفيل الذين همّوا بهدم الكعبة، فواجههم (سبحانه) بجيوش إلهيّة، كما تحكي لنا ذلك سورة الفيل: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (سورة الفيل). إذاً، ليس ثمة ما يدعونا للقول: انّ "مقام إبراهيم" هو وحده بيان لآيات بينات، وانما خُص بالذكر من باب ذكر الخاص بعد العام.

يقول تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة/ 125). لقد ذُكر في بحث مفصَّل انّ "البيت" مرجع للناس كافة وملاذ لهم، وهو محاط بأمن تكويني وأمن تشريعي. فإذا أراد أحد التعرّض للبيت بهدف الهدم والإفناء فإنّ الله (سبحانه) يكون بالمرصاد.

أما الأمن التشريعي فمن مصاديقه، انَّ الإنسان إذا كان عليه حد ولجأ إلى الحرم، أمن إقامة الحدود عليه طالما مكث بالحرم؛ إلاّ أن لا يراعي حرمة البيت، فيحنئذٍ يشمله القصاص. يقول تعالى: (.. وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ...) (البقرة/ 194). بمعنى انَّ الإنسان إذا تعرض لحمرة الكعبة والمسجد الحرام وعموم الحرم والشهر الحرام، فسينزع عن نفسه الأمان، ويكون عرضة للقصاص والحد.

فإذا اجترح الإنسان جناية في الحرم أقيم عليه الحد حتى وهو داخله. اما إذا ارتكب الجناية خارج الحرم ولجأ إليه أمن الحد وأمهل حتى يخرج منه. ولكن يضغط عليه حتى يلجأ إلى خارجه؛ فلا يبتاع منه ولا يُطعم ولا يُحسن إليه.

ثمة غير الآية التي نتحدَّث عنها، آية اخرى تشير إلى ما يتحلى به الحرم من أمن، حيث يقول – تعالى – في سورة العنكبوت: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت/ 67).

والسر انَّ ما من أحد يتعرض إلى البيت بقصد الإِفناء، ولأهله بقصد الاستئصال، إلاّ وكان الله له بالمرصاد، فيذيقه العقاب بلا إمهال: (.. وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج/ 25).

ثمة رواية ينقلها المرحوم ابن بابوية في كتاب "من لا يحضره الفقيه" مؤدّاها: إذا كان البيت يتحلى بحرمة خاصة، وإذا كان (سبحانه) قد أرسل (طيراً أبابيل) على جيش أبرهة حين قصد الكعبة؛ فلماذا لم تشمل الحماية الإلهيّة ابن الزبير حين تحصَّن داخل الكعبة، حيث قام الحجاج بن يوسف برمي الكعبة بالمنجنيق من على جبل أبي قبيس – بأمر من عبدالملك – فهدّمت الكعبة وأعتقل ثم قتل؟

نقل عن الإمام (الذي يبدو هو الإمام السجاد (ع) انَّ الزبير لم ينصر إمام زمانه سيّد الشهداء الحسين (ع) حتى استشهد مظلوماً، وحينما آلت الإمامة إلى الإمام الذي يليه (الإمام السجاد (ع) لم ينصره ولم يدع إليه. لذلك لم ينصره الله ولم يدفع عنه حتى وهو يلوذ بالكعبة ويلجأ إلى داخل البيت، كما حصل في جيش أبرهة حيث أرسل (سبحانه) (طيراً أبابيل) في حين لم يحصل الشيء نفسه حين رمى الحجاج الكعبة بالمنجنيق.

لذلك انتهى الأمر باعتقال الأمويين لابن الزبير – وهو رجل فاسد – فقتلوه ثم أعادوا بناء الكعبة دون مشكلة تُذكر. أما بالنسبة لأبرهة فالأمر يختلف تماماً، إذ كان هدفه إفناء الكعبة وتحويل قبلة الناس إلى جهة أخرى، لذلك لم يمهله سبحانه.

بمعنى آخر، انّ تصرّف الحجاج بن يوسف لم يشكل نقضاً للآية: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج/25)، ولا يتعارض معها. ولا زال الأمر يشكل حالة مطّردة، فلو افترضنا انَّ هذه الديار تتحوَّل إلى ديار ظلم، فالله (سبحانه) لا يتدخل لقمع الظالم واستئصال الظلم إن لم يكن أهل الديار على الصراط المستقيم؛ وانما يمكن أن نفسِّر أمثال هذه الوقائع على أساس: (.. نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا...) (الأنعام/ 129)، – أي انَّ الوقائع تتحرك على مسار قانونٍ آخر –.

انَّ الفكرة المحورية التي ينبغي أن ننتبه إليها، هي انَّ على المسلمين أن ينهضوا بتكليفهم، ويضطلعوا بواجباتهم، ثم ينتظروا الوعيد الإلهي: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج/25).

 

نسبة "البيت" إلى الله والناس:

ثمة في مطلع الآية – مورد البحث – ما يؤكد الفكرة التي نبحثها، ويدل عليها، حيث يقول تعالى: (انَّ اوّل بيتٍ وضع للناس...).

لقد نسب الله (سبحانه) البيت إلى ذاته المقدّسة كما نسبه إلى الناس، ولكن مع فارقين أحدهما أدبي والآخر معنوي. أما الأدبي فيتجلى في نسبه البيت إليه (سبحانه) من دون "لام" حيث قال: (أن طهّرا بيتي) أما حين النسبة إلى الناس فقد دخلت "اللام" حيث قال سبحانه: (.. وضع للناس). والمعنى المراد: أنَّ الكعبة هي بيت الله، وليست بيتاً للناس، بيد انها وضعت للناس ومن أجلهم.

أما الفارق المعنوي فهو يتجلى في انَّ إضافة البيت إلى الله (سبحانه) هي التي منحته الشرف والرفعة. وذلك على عكس الحالة الثانية، إذ اكتسب الناس الشرف والرفعة بإضافتهم إلى البيت.

فشرافة "البيت" من نسبته لله تعالى؛ وشرافة الناس من نسبتهم إلى البيت.

قوله تعالى: (وُضِعَ لِلنَّاسِ)، الوضع هنا تشريعي، والمقصود: انّ البيت معبد وقبلة ومطاف للناس؛ جميع الناس دون أن يكون من إختصاص فئة دون أخرى. والطريف الذي يلاحظ انّ التعبير جاء بصيغة "وضع للناس" لا بصيغة "بني" للناس.

 

الكعبة هي القبلة لوحدها:

لنفترض انّ الآية الكريمة أشارت إلى الأرض التي تحيط الكعبة، فمع هذا الافتراض، تكون الإشارة من باب انّ هذه المساحة تشكل منطقة الحرم. أما ما هو مهم، فهو البناء الخاص؛ أي الكعبة.

وما يقال – على سبيل التقرير – من انّ الكعبة قبلة، فذلك في مقابل مَن ذهب للقول: انّ الكعبة قبلة للقريب؛ ولأهل مكة يكون المسجد الحرام قبلة، أما البعيد فقبلته الحرم المكي برمته.

فهذا الرأي خطأ؛ والصواب أنّ الكعبة هي قبلة الجميع سواء منهم القريب والبعيد. والفارق الذي يقال إنّما يصدق على جهة الاستقبال.

لقد حث الإسلام النبي والآخرين، على أن يقولوا في كلِّ الحالات: "والكعبة قبلتي" حتى أضحت هذه الجملة ذكراً يردّده الجميع.

إنّ لجميع الأموات والأحياء شأناً مع الكعبة، فالمحتضر يستقبلها، والميت يدفن باتجاهها. بيد أنّه ليس لأحدٍ من هؤلاء شأن مع المسجد الحرام أو الحرم بنفسهما. اما قوله تعالى: (شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) (البقرة/ 144)، فهو من جهة: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) (البقرة/ 144)، فالقبلة المتمثلة بالكعبة هي المقصد.

ثمّ إنّ الذي يولي وجهه شطر المسجد الحرام حتى يكون قد إتجه إلى الكعبة؛ فالاختلاف إذاً في جهة الاستقبال لا في القبلة نفسها. فالقريب يتوجه نحو البيت ويستقبل بوجهه "جرم الكعبة". أما البعيد فهو يُولي نحو الحرم، إلّا انّه يتوجه إلى الكعبة.

وبالنسبة لقوله تعالى: (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة/ 144)، فإنّ المقصود هو استقبال المسجد الحرام، لا إتخاذه قبلة. فالمسجد الحرام ليس قبلة بنفسه، ولا الحرم المكي، وانما تقتصر القبلة على الكعبة نفسها كما اثبت ذلك المضطلعون بالدراسات الإسلامية (الفقهية).

ومن طريف ما يمكن ان نشير إليه هنا، ما ذهب إليه بعض الأكابر من العلماء من انّ الكعبة بنفسها ليست قبلة أيضاً؛ بل القبلة ماثلة في حيّز الفضاء الخاص الذي تشغله. ورحم الله استاذنا المحقق الداماد الذي كان يكرّر هذه الجملة بدأب: ليست الكعبة هي القبلة، إذ يمكن لهذه "البُنية" أن تنهدم أو تنهار في يوم من الأيام أثر سيل أو غيره؛ فهل يبقى المسلمون يومئذٍ دون قبلة!

لذلك قالوا: إنّ القبلة هي ليست هذه البناية والجدران المضلعة، بل هي الفضاء الخاص الممتد "من تخوم الأرض إلى عنان السماء". واستدلوا على ذلك بأنّ المصلي إذا صلى في مكان منخفض أو مرتفع عن مستوى سطح الكعبة وبنائها، فهو يتوجه إلى الحالتين إلى الفضاء الممتد من تخوم الأرض إلى عنان السماء، وكون هذا الفضاء قبلة لا يطرأ عليه أي تغيير أو تبديل.

ومن الطريف أن نختم هذه الفقرة بكلمات للفخر الرازي في فضل الكعبة وشرفها انتقلت من بعده إلى كتب الآخرين؛ حيث قال: "ليس في العالم بناء أشرف من الكعبة، فالآمر هو الملك الجليل؛ والمهندس هو جبريل؛ والباني هو الخليل؛ والتلميذ إسماعيل (ع) وكفى بذلك فضلاً وشرفاً".

بيد انّ مثل هذا الشرف والفضيلة لم يثبتا لبيت المقدس.

 

مصاديق "آيات بينات":

ثمة آيات بينات في هذه الديار المقدسة، هي بجموعها دلالة واضحة على الغيب. انّ الآية معناها العلامة، وهي بالاصطلاح القرآني علامة صدق الأنبياء، فيما يدعون إليه من ربوبية الخالق وعبودية المخلوق.

لقد توفّر الفخر الرازي في تفسيره على ذكر علامات (آيات) كثيرة تدل على خصوصية الكعبة وكيفية بنائها، وهي تتحرك إجمالاً في نطاق هذا المحور، وفيما يلي نستعرض بعض هذه الآيات – العلامات –:

 

1- انبثاق زمزم ودوام فوران مائها:

ثمة الكثير من الآيات البينات في خصوص بئر زمزم، فماؤها شفاء، وهو لا يفسد حتى لو طالت عليه المدة. ثمّ انّ بئراً يبقى ماؤها يفور منذ آلاف السنين، في أرض تفتقر إلى الأمطار الغزيرة ولا تكاد تسقط فيها الثلوج إلّا نُزراً، هو بحدّ ذاته معجزة وآية من الآيات الإلهيّة البينة.

أما لو كانت هذه البئر في أرض تغزر فيها الأمطار ويتكاثر سقوط الثلوج، لأمكن تفسير دوام انبثاق مائها على أساس: (فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ) (الزمر/ 21).

ثمّ انّ في مائها بركة خاصة، حتى كان رسول الله (ص) يطلبه هدية من القادمين من مكة.

وبئر هذا منبثقها؛ وهذا دوام فوران مائها، وفي مائها البركة والشفاء، بحيث لا يفسد ماؤها ولا يُصاب بالعَفَن، لهي حقاً محفوفة بالمعجزات، بل إنّ ماءها وحده هو تجلي لـ"آيات بينات".

 

2- المشعر الحرام:

في أطراف مكة (المشعر الحرام، عرفات، ومنى) علامات تتجلى فيها آيات بينات. فرغم انّ تلك المنطقة بعيدة عن مدار السيل، إلّا انّه يكثر فيها الحصى وأجزاء الصخر المفَتَّت إلى قطع صغيرة، كتلك التي تتركها السيول حين تدهم منطقة صخرية جبلية.

فالحصى هناك كثير، ويكفي أن نتصوّر كثرته بما يحمله كلّ حاج بمفرده، إذ يحتاج كحدٍ أو أدنى إلى سبعين حصاة؛ ومع ذلك لا زال الحصى وفيراً لم ينفذ، وفي ذلك وحده معجزة. يقول الفخر الرازي في تفسيره الكبير: "وقد يبلغ من يرمي في كلِّ سنة ستمئة ألف إنسان – كلّ واحد منهم – سبعين حصاة، ثمّ لا يرى هناك إلّا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير. وقد يقال الآن: انّ المسؤولين في الحجاز هم الذين يتولون عملية رفع الحصى المتجمع وتسطيح الأرض مجدداً، ولكن ماذا بالنسبة لذلك الزمان؟.

 

3- رعاية الحيوان لحرمة الكعبة:

تسعى الطيور أن لا تحط في أعلى الكعبة كي لا يتلوث المكان بفضلاتها؛ وإذا كانت في حالة انحدار من الأعلى نحو الأرض، فإنها تبتعد عن الكعبة بزاوية معينة. وفي ذلك وحده علامة على آية بينة.

وما ينبغي أن نشير إليه، انّ عم تلويث الطيور للمشاهد المشرفة والعتبات المقدسة، هو ظاهرة مشهودة أيضاً، وإن كان الأمر يختلف بالنسبة إلى الكعبة في تلك الزاوية التي ينحدر بها الطير بعيداً عن الكعبة.

لقد تحدّثوا بمثل هذه الكرامة لحرم الإمام أمير المؤمنين (ع) فقالوا: انّ الطير تراعي هذا الأدب من باب: "ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير".

وقالوا عن الحرم المكي أيضاً: انّ الوحوش لا تعتدي على بعضها البعض وهي في الحرم، ولا تلحق الأذى بالحيوانات الأليفة.

وما نخلص إليه: انّ ثمة الكثير من الشواهد الظنية التي تُفيد انّ هذه المنطقة ليست عادية، فالحيوان فيها آمن، والإنسان يتحلى بأمن نسبي ملحوظ (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (قريش/ 4)، في حين كان من حولهم (.. وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت/ 67).

 

4- مقام إبراهيم:

يحتل مقام إبراهيم (ع) موقعاً خاصاً في صلاة الحاج وطوافه، كما ينص على ذلك القرآن. وللمقام حرمة خاصة كونه مصداقاً للآيات البينات.

يقول تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة/ 125). هل تجب الصلاة خلف المقام مُباشرة أم أنها تكفي عند المقام؟ ثمة أقوال انتهى إليها البحث الفقهي وُفق اختلاف المدرك (الرواية)، إذ احتاط بعضهم فذهب إلى وجوب الصلاة خلف المقام مُباشرة؛ فيما عدّ البعض الآخر الصلاة عندَ المقام كافية.

 

تقابل "اللام" و"على":

يقول تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) (آل عمران/ 97)، انّ (على الناس) في الآية هي في حقيقتها (للناس) أي: لنفع الناس وفائدتهم، لا لضررهم وعليهم. كما انّ "اللام" في (لله) لا تفيد معنى النفع والاستفادة، وانما معناها: انّ هذا الأمر هو من قبل الله ومن جهته إلى الناس.

فالتكليف الإلهي يقترن دائماً بالخير، نظير قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (البقرة/ 216)، وإذا كان الشيء خيراً فلا يكون بضرر أحد.

لذلك نخلص إلى أنّ "اللام" و"على" حين يكونان في مقابل بعضهما البعض، فإنّ التقابل علامة على أنّ الأمر أو الشيء يكون حكماً من أحد الطرفين، وجعلاً وواجباً على الطرف الثاني، ولا يمكن أن يدل (التقابل) على الضرر.

 

فضيلة الحج على سائر العبادات:

لا يبدو من ظاهر آيات القرآن الكريم، انّ ثمة عبادة غير الحج جاءت في صيغة (لله على الناس) إذ لم نجد نظير هذا الأسلوب في عبادة مثل الصلاة والزكاة، وبالتالي لا يقال "لله على الناس إقامة الصلوة" أو "لله على الناس إيتاء الزكاة".

وهذا التمييز يُعدّ في حدّ ذاته على خصوصية فريضة الحج وما تنطوي عليه من عظمة من بين سائر العبادات.

فعن الصلاة جاءنا الخطاب القرآني بصيغة (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (البقرة/ 43)، أما الحج فتميَّز وانفرد بصيغة: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ...).

 

"الحج" لغة:

الحج مصدر، وقد ذهب البعض إلى انّه اسم مصدر، ومعناه قصد بيت الله الحرام.

انّ "حج البيت" هو عبادة مألوفة منذ عصور قديمة؛ وبالذات منذ عصر الخليل إبراهيم (ع). وقد اعتادوا أن يعدّوا السنين بالحج، وفي ذلك يقول نبيُّ الله شعيب لموسى الكليم (ع): (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) (القصص/ 27).

ويقال في لغة الشهور "ذو الحجة" لوقوع "حج البيت" في هذا الشهر، ويعبر أربع حجج بدلاً من أربع سنوات وهكذا.

هناك في الآية: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...) الكثير مما ينبغي التأكيد عليه؛ من نظير:

1- يتضح من ظاهر آيات القرآن أنّ الحج هو العبادة الوحيدة، التي عُبّر عنها بصيغة (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ).

2- لقد قُدّم "لله" على المبتدئ المؤخّر، لكي يفيد السياق معنى الحصر، ويدل على انّ العبادة (الحج) لله وحده.

3- لقد بينت الآية الأمر بصيغة البدل، والإبدال يفيد التكرار كما يقال، إذ لم يقل سبحانه: "لله على المستطيع.." وانما قال: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ).

4- انصرفت الآية وهي في معرض بيان من يشمله التكليف من "الناس" للتعبير بصيغة بيان "البعض من الكل" فقالت: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا)، وهذا الأسلوب بمثابة التفصيل بعد الإجمال والتبيين بعد الإبهام: وهو يفيد التكرار والتأكيد.

ولو جاءت الآية بصيغة "لله حج البيت على المستطيع" أو "لله على المستطيع" أو "على من استطاع إليه سبيلاً حج البيت" لما أفهمت المعنى آنف الذكر.

المقصود من "البيت" هو (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ)، والاستطاعة تنقسم إلى استطاعة عقلية واستطاعة شرعية، وكلاهما تتضمنهما الآية.

فمن الناحية العقلية يستطيع كلّ إنسان "مستطيع" أن يتشرف بالحج "ولو متسكعاً" وإن كان الحج مستحباً بالنسبة إليه، ليس بواجب؛ وإن لم يكن مستحباً فيحمل على معنى الزيارة ويدخل في المعنى العام لقوله تعالى: (مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) فهو مصدر هداية وبركة للجميع المستطيع وغير المستطيع، وحاجاً كان أو معتمراً؛ واجباً أدّاه أو ندباً.

إلّا انّ الحج الواجب لا يجب إلّا على المستطيع. وفي البحث الفقهي ثمّة آراء؛ فهل تلزم الاستطاعة "إليه" فقط؛ أم انّ الاستطاعة "إليه" و"عنه" كلتيهما لازمتان؟.

 

المصدر: مجلة ميقات الحجّ/ العدد 1 لسنة 1415هـ

قراءة 802 مرة