إنّ القضايا الثقافيّة اليوم متروكة في البلد. الجميع يعتقد أنّهم رجال ثقافة، والجميع يسوّقون للقضايا الثقافيّة ويُظهرون اهتمامهم بها في بياناتهم وإعلامهم، إلّا أنّ العمل الثقافيّ في البلد لم يكن متناسبًا مع تقدّم وتطوّر الثورة في المجتمع. واليوم، هناك الكثير من الأعمال الثقافيّة التي كان ينبغي القيام بها ولم نفعل، وهناك الكثير من البرامج التي كان ينبغي علينا التخطيط لها ولم نقم بذلك. وفي الواقع أنّ أيدينا فارغة من الكثير من الأعمال، سواء داخل البلد أو خارجه، لذلك ينبغي معالجة المسائل الثقافيّة بنحوٍ من سعة الصدر والاهتمام والإحساس العميق المترافق مع الخبرة والمعرفة. كلّ الأعمال ينجزها الخبراء، فلماذا لا يتولّى الخبراء الأعمال الثقافيّة وتُترك ساحة العمل الثقافيّ لكلّ وارد يريد أن يدلي بدلوه؟
ما يؤسف أنّ العديد من الأشخاص الذين يمكنهم القيام بأعمال ثقافيّة مشغولون بأعمال تنفيذيّة أو سياسيّة، وحتّى الذين يحملون عناوين ثقافيّةً، مشغولون بالأعمال السياسيّة في الباطن.
قبل سنة أو سنتَين، التقيت بإحدى هذه المجموعات التي تمّ تأسيسها في إطار النوايا الحسنة. في تلك المرحلة، قلت لهم أوصيكم أن لا تشتغلوا بالعمل السياسيّ. هناك الكثير ممّن يتصدّون حاليًّا للعمل السياسيّ – الشارد منهم والوارد. ولأنّه عمل سهل فإنّ الجميع يردونه، وسريعًا ما يصبح هؤلاء سياسيّون! قلت لهم إنّ هذا العمل له أتباع وزبائن وحُماة، أمّا أنتم، فبمقدار حيطتكم اذهبوا وانهضوا بالعمل الثقافيّ.
إنّ وصيّتي هذه لا تعني عدم بذل الجهود في سبيل تنمية أذهان الناس على المستوى السياسيّ. كلّا، لأنّ هذا الأمر من واجب الجميع، وهو بحدّ ذاته عمل ثقافيّ، حيث يسعى الشخص ليوصل الناس إلى الوعي السياسيّ والقدرة على التحليل والرؤية الصحيحة. وعندما يمتلك الإنسان البصيرة السياسيّة فسيتمكّن بنفسه من تحديد الصحيح من الخطإ. ينبغي إيجاد القدرة على رؤية الحقائق السياسيّة بين الناس حتّى لا يضطربوا عند مواجهة الأحداث والمجريات السياسيّة.
إنّ الضامن لهذا البلد وهذه الثورة هو قدرة الناس على التحليل. ينبغي أن يمتلك الناس القدرة على إمعان النظر في كلّ حادثة تجري في أيّ مكان، بحيث يفهمون ماهيّة القضيّة، وهذا أمر غاية في الأهمّيّة. غير أنّنا اليوم، وللأسف، إمّا أنّنا نفتقد ذلك، وإمّا أنّه قليل الوجود. إنّ كلّ ما أدّت إليه الثورة وأحداثها القاسية، من إدخال الناس والسير بهم في المنعطفات، محفوظ في محلّه، إلّا أنّنا وشرائحنا المختلفة لم نبذل الجهد الكافي. في بداية الثورة، ولعدّة سنوات، حصلت بعض الأعمال دون شكّ، وسعت بعض المجموعات إلى تطوير الناس في موضوع الرؤية السياسيّة، إلّا أنّ ذلك غير موجود اليوم، وهذا عمل ثقافيّ بحدّ ذاته.
كنت أوصي تلك المجموعة أن لا تتعاطوا الأعمال الحزبيّة والتنفيذيّة السياسيّة، بل صبّوا اهتمامكم على القضايا الثقافيّة التي تعاني الغربة. والآن، أوضح لكم أيّها السادة أنّ العمل الثقافيّ هو عمل هامّ حقيقةً، وهو أهمّ من العمل السياسيّ. ينبغي أن يُولى أهمّيّة عندكم 12/10/68.
إنّنا لو دقّقنا النظر في الكثير من المشاكل التي تواجهنا في المجالات الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، وحتّى السياسيّة، لوجدنا أنّها تعود إلى المشاكل الثقافيّة. وعلى الرغم من أنّ نظام الجمهوريّة الإسلاميّة قام في الأصل على أساس ثقافيّ، وأنّ قائده ومؤسّسه هو شخص مثقّف قبل أيّ شيء آخر، وإنّ مسؤولي هذا النظام كانوا، تقريبًا، دائمًا على هذا النحو. إلّا أنّه يجب الاعتراف أنّنا لم نؤدِّ ذاك العمل المطلوب والمتوقّع على المستوى الثقافيّ. وبشكل عامّ، نحن مقصّرون في المجالات الثقافيّة وعلينا الاعتراف بهذا حقيقةً 19/9/69.
هذا الهاجس الذي أحمله في ذهني هو هاجس ضياع ثقافة الحرب والثورة، وفي الحقيقة روحيّة الثورة التي أوجدت في الحرب ساحةً للتطوّر والتكامل. طبعًا يجب التوكّل على الله تعالى والأمل في المستقبل، وإنّني مفعم به وأراه مشرقًا في أكثر الآفاق. في كلّ الأحوال، هذا الهاجس موجود 25/4/70.
فهل تحقّق، بناءً على فكر الثورة وروحيّتها، ذلك التحوّل الضروريّ في ثقافة المجتمع؟ إذا قلنا نعم، فإنّ الذي يدقّق في المسألة سيجد من الصعوبة قبول ذلك منّا. نعم هناك الكثير من التحوّلات التي وُجدت، ولكن لا يمكن الادّعاء بحصول تحوّل ثقافيّ كامل.
قد يحتاج هذا التحوّل إلى ثلاثين، أربعين، أو خمسين سنةً – ليس البحث هنا – لكنّ الحركة يجب أن تتوجّه نحو ذلك. نحن اليوم يجب أن نكون كالسائر الذي إذا نظر إلى حركته في الساعة الخامسة للزم أن يكون قد قطع أكثر من الساعة الأولى، وإذا نظر إليها في الساعة العاشرة للزم أن يكون قد قطع أكثر من الساعة الخامسة. وإذا وجدتم أنّ تقدّمًا ما لم يحصل، فذلك يدلّ على وجود خلل في العمل. علينا أن نقترب يومًا بعد يوم من ثقافة الثورة تلك في جميع الشؤون.
وإذا وجدنا أنّ هذا التحوّل لم يحصل، فينبغي الاستنتاج أنّ العمل والجهد الثقافيّ لم يُنجز بشكلٍ جيّد وكامل وسليم في مجتمعنا الثوريّ، بل هو ناقص وعلينا أن نرفع نقائصه. ينبغي أن نكون كباقي الشعوب التي إذا وَجدت نقصًا في عملها، تقوم بإعادة النظر في نفسها وأدائها، ثمّ تبحث عن طرق جديدة تفهم من خلالها العيوب وتقوم بعلاجها. يجب أن ندرك ما هي مشكلاتنا، وأن نحدّد العيوب ونقوم بعلاجها. علينا إيجاد طريق جديد، وإذا وُجدَ طريق مختصر نسلكه، نزيد السرعة إن وجدناها بطيئةً 19/9/69.
كما ويجب أن تصبح المسألة الثقافيّة بكلّيّتها المسألة الأولى في هذا البلد. وإذا تمكّنا من تقوية ثقافته بأسس محكمة وقويمة ومؤسّسات صحيحة وفعّالة، فستتحرّك عجلة الأمور بشكل صحيح وسنضمن تقدّم البلد في جميع المجالات مورد البحث. وأمّا إذا لم نبادر إلى إصلاح الثقافة، فالاحتمال الأقوى أن تبقى خططنا بتراء، أي إنّنا سنسعى لمدّة معيّنة ونبذل جهودًا، لكن لن نكون مطمئنّين لوجود نتائج قطعيّة وراء ذلك20/9/75.
الهواجس الثقافيّة، شرح مَزجيّ لإحدى الخطب المحوريّة التي تفضّل بها الإمام الخامنئي حفظه الله