الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، الفعال لما يريد، خلق فسوّى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين والأنبياء، محمد -صلى الله عليه، وعلى آله وسلم- وعلى أصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فكثيراً ما نسمع من بعض المصلين في بعض مساجد صنعاء من يقول للناس بعد الصلاة: الفاتحة نهدي ثوابها إلى روح آبائنا وآبائكم، وأمهاتنا وأمهاتكم، وكل من له حق علينا، بأن الله يُسكنهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأن يُدخل عليهم البهجة والسرور، والضياء والنور من يومنا هذا إلى يوم النشور، وأن يغفر لنا ولهم... وكذا نسمع مثل هذه العبارات في مآتم الأموات، وكذا عند زيارة المرضى، ومثله عند زيارة المقابر... وغيرها من المواضع.
وقد وُجد من الناس من يُنكر مثل هذه الأفعال، ويقول بحرمة إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الأموات، وأن ذلك مما لا ينفع الميت، وأنه لا يصل إليه، ويعتبر أن مثل هذه الأفعال من البدع المنكرة، التي لا بد من اجتنابها، كما وُجد فريق آخر يقول: إن ذلك من الأمور الجائزة، وأنه مما يجوز فعله، وأنه مما ينفع الميت، وأنه يصل إليه؛ ولذا فقد أحببت أن أبحث هذه المسألة من خلال ما قاله فقهاء المسلمين، وما قال علماء التفسير، وسيكون سير البحث على النحو الآتي:
-1. تمهيد.
-2. إهداء ثواب قراءة القرآن للميت.
-3. الأدلة على أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى.
-4. الأدلة على أن القراءة يصل إهداء ثوابها إلى الموتى.
-5. تأويل المجيزين لأدلة المحرمين.
-6. الخلاصة.
-7. الراجح.
ولذلك أقول مستعيناً بالله تعالى، وهو حسبي، ونِعم الوكيل:
تمهيد:
أجمع العلماء على أن إهداء أجر الصدقة إلى الميت جائز، وأنه يصل إلى الميت، وأنه ينفعه، ومثله الدعاء للميت. قال ابن كثير: "فأما الدعاء والصدقة، فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما"(1). ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به»(2)، فهذه الثلاثة -في الحقيقة- هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه »(3)... وثبت في الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً»(4). وقال في فتح الوهاب من كتب الشافعية: "وينفعه أي الميت من وارث وغيره صدقة ودعاء، بالإجماع وغيره"(5). وقد نقل هذا الإجماع أيضاً ابن قدامة الحنبلي في الشرح الكبير، حيث قال: "وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك، أما الدعاء والاستغفار والصدقة وقضاء الدين وأداء الواجبات فلا نعلم فيه خلافاً إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة"(6).
وقال النووي: "وأما ما حكاه أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الفقيه الشافعي في كتابه الحاوي عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب، فهو مذهب باطل، قطعاً وخطأ بيِّن، مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا التفات إليه ولا تعريج عليه"(7(.
كما أجمعوا على أنه لا يصلي أحد عن أحد. قال القرطبي: "وأجمعوا أنه لا يصلي أحد عن أحد"(8(
ومثله الإيمان والتوحيد، لا يمكن للعبد أن يهبه لغيره. قاله القرافي المالكي.(9(
واختلفوا في إهداء ثواب ما سوى ذلك من الأعمال، ومن هذه المسائل إهداء ثواب قراءة القرآن للميت وذلك على النحو الآتي:
إهداء ثواب قراءة القرآن للميت:
وقع بين فقهاء المسلمين اختلاف في إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، هل يجوز له ذلك؟ وهل يصل ذلك إلى الميت؟ وهل ينفعه؟ واليك بيان ذلك على حسب مذاهبهم كالآتي:
- مذهب الحنفية:
يرى الحنفية أن إهداء ثواب قراءة القرآن للميت جائز، وأن ذلك ينفعه، وأنه يصل إليه، وهو ما نص عليه في تبيين الحقائق من كتبهم.(10(
- مذهب المالكية:
يذهب الإمام مالك إلى عدم جواز إهداء قراءة القرآن للميت، وأن ذلك لا ينفعه، ولا يصل إليه. وقال بعض أصحابه: إن ذلك ينفعه، ويصل إليه. قال في منح الجليل: "قال القرافي: القربات ثلاثة أقسام:
- قسم حجر الله تعالى على عبده في ثوابه، ولم يجعل له نقله إلى غيره، كالإيمان والتوحيد.
- وقسم اتفق على جواز نقله، وهو القربات المالية.
- وقسم اختلف فيه، وهو الصوم والحج والقراءة، فمنعه مالك والشافعي، رضي الله تعالى عنهما...
ثم قال: فينبغي للإنسان أن لا يتركه، فلعل الحق هو الوصول، فإنه مغيب، وكذا التهليل الذي اعتاد الناس ينبغي عمله، والاعتماد على فضل الله تعالى"(11).
ونقل في منح الجليل أيضاً عن ابن رشد قوله في فتوى له عن معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، قال: "إن قرأ وأهدى ثواب قراءته للميت، جاز ذلك، وحصل أجره للميت، ووصل إليه نفعه إن شاء الله تعالى؛ لحديث النسائي عنه -صلى الله عليه وسلم-: «من دخل مقبرة وقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]. إحدى عشرة مرة، وأهدى ثوابها لهم، كتب الله له من الحسنات بعدد من دفن فيها»(12).
ونقل الدسوقي عن ابن رشد هذا القول أيضاً، ونقل مثله عن ابن هلال، ونسب هذا القول للأندلسيين، حيث قال: "وقال ابن هلال في نوازله: الذي أفتى به ابن رشد وذهب إليه غير واحد من أئمتنا الأندلسيين: أن الميت ينتفع بقراءة القرآن الكريم ويصل إليه نفعه، ويحصل له أجره إذا وهب القارئ ثوابه له، وبه جرى عمل المسلمين شرقاً وغرباً، ووقفوا على ذلك أوقافاً، واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة"(13). وهذا هو مذهب المتأخرين من المالكية، كما نص عليه الدسوقي، حيث قال: "لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر، وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر، إن شاء الله"(14).
وقد ذكر المالكية قولاً ثالثاً في هذه المسألة، وهو: حصول ثواب الاستماع للميت، ولكن لا يصح منه ذلك؛ لانقطاع التكليف عنه.(15) ولعل مقصودهم بهذا القول هو عدم وصول ثواب الإهداء للميت، ولكنه ينتفع بهذه القراءة من جهة سماعه لها.
وقد علَّق في منح الجليل على انقطاع التكليف عنه، فقال: "والظاهر حصول بركة القراءة؛ لحصولها بمجاورة الرجل الصالح، ولا تتوقف على التكليف، فقد حصلت بركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخيل والدواب وغيرهما، كما ثبت بالجملة"(16).
- مذهب الشافعية:
للشافعية في هذه المسألة أقوال:
- فالمشهور عن الشافعي: عدم جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، وأن ذلك لا ينفعه، ولا يصل إليه.
- وقال الكثيرون من أصحابه: يجوز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، وأن ذلك ينفعه، وأنه يصل إليه.
قال النووي: "وأما قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي، أنه لا يصل ثوابها إلى الميت، وقال بعض أصحابه: يصل ثوابها إلى الميت"(17). وقد علَّق في فتح المعين على كلام النووي هذا فقال: "وحمل جمع عدم الوصول الذي قاله النووي على ما إذا قرأ لا بحضرة الميت، ولم ينو القارئ ثواب"(18)، ونقل في فتح الوهاب عن السبكي قوله: "الذي دل عليه الخبر بالاستنباط، أن بعض القرآن، إذا قُصِد به نفع الميت نفعه"(19). وقد نقل في فتح المعين أن القول بالجواز، هو ما اختاره كثيرون من أئمة الشافعية.(20)
وقال في نهاية المحتاج: "وفي القراءة وجه -وهو مذهب الأئمة الثلاثة- بوصول ثوابها للميت بمجرد قصده بها، واختاره كثير من أئمتنا... قال ابن الصلاح: وينبغي الجزم بنفع: اللهم أوصل ثواب ما قرأناه. أي: مثله فهو المراد، وإن لم يصرح به لفلان؛ لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي، فما له أولى"(21).
- مذهب الحنابلة:
وللحنابلة في هذه المسألة أقوال أيضاً كالمالكية، وهي كالآتي:
- جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت وأن ذلك ينفعه ويصل إليه. وهذا هو المشهور عن أحمد.
- عدم جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت وأن ذلك ينفعه ويصل إليه. ونسبه البهوتي إلى الأكثر.
- وقيل: الثواب للقارئ، ولكن الرحمة تُرجى للميت بها.
قال ابن قدامة: "وأي قربة فعلها، وجعل ثوابها للميت المسلم، نفعه ذلك"(22). وقال البهوتي: "وكل قربة فعلها المسلم، وجعل ثوابها أو بعضها، كالنصف ونحوه، كالثلث أو الربع، لمسلم حي أو ميت، جاز ذلك ونفعه، ذلك لحصول الثواب له، حتى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكره المجد، من بيان لكل قربة تطوع وواجب، تدخله النيابة، كحج ونحوه كصوم نذر، أو لا تدخله النيابة، كصلاة وكدعاء واستغفار، وصدقة وعتق وأضحية وأداء دين وصوم وكذا قراءة وغيرها. قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير؛ للنصوص الواردة فيه، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرءون ويهدون لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعاً"(23).
وقال بعضهم: إذا قرئ القرآن عند الميت، أو أهدي إليه ثوابه، كان الثواب لقارئه، ويكون الميت كأنه حاضرها فترجى له الرحمة.(24)
وقال البهوتي: "وقال الأكثر: لا يصل إلى الميت ثواب القراءة وأن ذلك لفاعله".(25)
الأدلة على أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى:
استدل من قال من العلماء بعدم وصول إهداء ثواب قراءة القرآن للموتى، وبأن ذلك لا ينفعهم، بأدلة منها:
- قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] (26)، ووجه الدلالة من الآية هو أن القراءة للأموات ليس من عملهم ولا كسبهم؛ ولهذا لم يندب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء.(27)
- وقوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134]،(28). فقد دلت الآية على أن الإنسان يؤاخذ بفعل نفسه، ولا يؤاخذ بفعل غيره.
- واستدلوا أيضاً(29) بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له». فقد دل الحديث على انقطاع العمل عن الميت، إلا هذه الثلاث المذكورة في الحديث، وليس إهداء ثواب القراءة منها.
- واستدلوا أيضاً بقياس القراءة على الصلاة في عدم الوصول؛ لأن كل منهما عبادة بدنية.(30)
- واستدلوا أيضاً بأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يُهدُون ثواب القراءة للأموات، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.(31)
- واستدلوا أيضاً بأن باب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء.(32)
- واستدلوا أيضاً بأن ثواب القراءة هو الجنة، وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلاً أن يجعلها لغيره.(33)
- واستدلوا أيضاً بأن نفع القراءة لا يتعدى فاعله، فلا يتعداه ثوابه.(34)
الأدلة على أن القراءة يصل إهداء ثوابها إلى الموتى:
استدل من قال من العلماء بوصول إهداء ثواب قراءة القرآن للموتى، وأن ذلك ينفعهم، بأدلة منها:
- قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ [غافر: 7،8]، ودعاء الميت لهم؟ ليس من عمل الأموات بل ذلك من عمل الغير وقد نفعهم.(35)
- وقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10](36). ودلالته على المراد كسابِقِه.
- وقال سبحانه: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19](37). فقد أمر الله نبيه أن يستغفر للمؤمنين، فدل ذلك أن الاستغفار يصل إليهم وينفعهم. قال في تبيين الحقائق: "وروي عن أبي هريرة قال: يموت الرجل، ويدع ولداً، فيرفع له درجة، فيقول: ما هذا يا رب؟! فيقول سبحانه وتعالى: "استغفار ولدك". ولهذا قال تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19]، وما أمر الله به من الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم"(38).
- واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الطور: 21]، فقد دلت الآية على أن الله سبحانه يُلحق الأبناء المؤمنين بآبائهم المؤمنين، وهذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بسعي غيره.(39)
- واستدلوا أيضاً بحديث(40): «من مر بالمقابر، فقرأ إحدى عشرة مرة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، ثم وهب أجره الأموات، أعطى من الأجر بعدد الأموات»(41).
- وبحديث معقل بن يسار(42) رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقرءوا يس على موتاكم» رواه أبو داود.(43) فقد أمر -صلى الله عليه وسلم- بقراءة سورة يس -وهي من القرآن- على الموتى، وهذا دليل على أن القراءة تنفعهم، وإلا لما كان في الأمر لهم بقراءة يس فائدة.
- وعن عائشة وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحى بكبشين سمينين عظيمين أملحين أقرنين موجوئين، فذبح أحدهما، فقال: «اللهم عن محمد وأمته، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ»(44). أي جعل ثوابه لأمته، وهذا تعليم منه عليه الصلاة والسلام أن الإنسان ينفعه عمل غيره، والاقتداء به هو الاستمساك بالعروة الوثقى.(45)
- واستدلوا أيضاً بحديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: لما أصيب عمر -رضي الله عنه- جعل صهيب يقول: وا أخاه! فقال عمر -رضي الله عنه- أما علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الميت ليعذب ببكاء الحي»(46). فإذا كان البكاء يضره فالقراءة تنفعه، والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه، ويحجب عنه المثوبة.(47)
- واستدلوا أيضاً بإجماع المسلمين على جواز ذلك؛ فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون، ويقرأون القرآن، ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير.(48)
قلت: نقْلُ الإجماع في هذه المسألة غريب؛ لأن الخلاف في المسألة مشهور.
- والقياس على الصدقة والحج، فإنهما تصلان إلى الميت بالإجماع(49)، وبالنصوص الشرعية الدالة على ذلك، كحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا رسول الله! إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: "نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى»(50). وعنه أيضاً -رضي الله عنهما- أنه قال: كان الفضل بن عباس -رضي الله عنهما- رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءته امرأةٌ من خثعم، تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. قالت: «يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع»(51). وعنه أيضاً -رضي الله عنهما- أن رجلاً قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-:«إن أمه توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم»(52)، فقد دلت هذه الأحاديث على أن الميت ينتفع بحج الحي عنه، وكذا تصدقه عنه، ويقاس عليه القراءة، فيقال: إن الميت ينتفع بقراءة الميت له. قال ابن قدامة: "وكلها أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب؛ لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار كلها عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها، مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ يس وتخفيف الله عز وجل عن أهل المقابر بقراءته، ولأنه عمل بر وطاعة، فوصل نفعه وثوابه كالصدقة والصيام والحج الواجب"(53).
- واستدلوا أيضاً بالقياس على الدعاء(54) الذي ورد في مشروعيته للميت نصوص كثيرة، منها حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده عن عبد الله ذي البجادين، الذي هلك في غزوة تبوك أنه هلك في جوف الليل، فنـزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفرته، وقال لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-: «أدليا إلي أخاكما، فلما وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في لحده قال: اللهم إني راض عنه، فارض عنه فقال أبو بكر: والله لوددت أني صاحب الحفرة»(55). فقد دل الحديث على مشروعية الدعاء للميت، وهو دليل على انتفاعه بهذا الدعاء، والدعاء ليس من عمل الميت، مع أنه ينتفع به. ومثل هذا يقال في الأحاديث الواردة في الدعاء على الجنازة(56)، كحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي على الجنازة؟ فقال: قال: «اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإِسلام، وأنت أعلم بسرِّها وعلانيتها، جئنا شفعاء، فاغفر لها»(57). وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقال: «اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه، وعافه، وأكرم نزله ووسِّع مَدخله، واغسله بماءٍ وثلج وبرد، ونقِّه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدَّنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقِهِ فتنة القبر، وعذاب النار»(58). وغيرها.
تأويل المجيزين لإهداء ثواب قراءة القرآن للموتى، لأدلة المحرمين:
أوَّل المجيزون لإهداء ثواب قراءة القرآن للميت أدلة المحرمين لذلك بالآتي:
- أما قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، فأوَّلوه بالآتي:
- قال القرطبي: "ويحتمل أن يكون قوله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ خاص في السيئة، بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بحسنة، ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها، لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة»(59).
- وقال أبو بكر الوراق: ﴿إِلَّا مَا سَعَى﴾ إلا ما نوى، بيانه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم»(60).
- ونقل عن ابن عباس قوله: إن قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ منسوخ بقوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور: 21](61).
- وقيل: هي خاصة بقوم موسى وإبراهيم؛ لأنه وقع حكاية عما في صحفهما عليهما الصلاة والسلام، بقوله تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 36،37](62). قال عكرمة: هذا في حقهم خاصة بخلاف شرعنا؛ بدليل حديث الخثعمية.(63).
- وقيل: أريد بالإنسان في الآية: الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى أخوه.(64) قال في كشاف القناع: "أو أنها مختصة بالكافر أي: ليس له من الخير إلا جزاء سعيه، يوفَّاه في الدنيا، وماله في الآخرة من نصيب"(65).
- وقيل: ليس للإنسان من طريق العدل إلا ما سعى هو، وله من طريق الفضل ما سعى غيره به له.(66)
- وقيل اللام في (للإنسان) بمعنى على، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7], أي: فعليها، وكقوله تعالى: ﴿لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ [الرعد: 25] أي: عليهم.(67)
- وقيل ليس له إلا سعيه، لكن سعيه قد يكون بمباشرة أسبابه؛ بتكثير الإخوان، وتحصيل الإيمان، حتى صار ممن تنفعه شفاعة الشافعين.(68)
وقد رام بعض العلماء الجمع بين قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، وقوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور: 21]، ومن هؤلاء الإمام الشنقيطي، حيث قال: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ يدل على أن الإنسان لا يستحق أجراً إلا على ما سعيه بنفسه، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات، لأن قوله: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ قد دلت اللام فيه على أنه لا يستحق، ولا يملك شيئاً، إلا بسعيه، ولم تتعرض لنفي الانتفاع بما ليس ملكاً له ولا مستحقاً له"(69).
وقال أيضاً: "الآية (يقصد آية النجم) إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره، لأنه لم يقل: وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى، وإنما قال: وأن ليس للإنسان، وبين الأمرين فرق ظاهر، لأن سعي الغير ملك لساعيه، إن شاء بذله لغيره، فانتفع به ذلك الغير، وإن شاء أبقاه لنفسه...
الثاني: أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم، إذ لو كانوا كفاراً لما حصل لهم ذلك. فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين، كما وقع في الصلاة في الجماعة، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفرداً، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير، سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى: ﴿واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾.
الثالث: أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد، ليس للأولاد، كما هو نص قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: 39]، ولكن من سعي الآباء، فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه، بأن رفع إليهم أولادهم؛ ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم. فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها؛ لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد، فانتفاع الأولاد تبع، فهو بالنسبة إليه تفضل منَّ الله عليهم بما ليس لهم، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين، والخلق الذين ينشؤهم للجنة. والعلم عند الله تعالى"(70).
- كما إنهم أوَّلوا قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 134](71). بأنها تدل بالمفهوم على أن المرء لا ينتفع بعمل غيره، ولكن منطوق الأحاديث التي استدلوا بها قد دلت على خلافه، وإذا تعارض المفهوم والمنطوق قُدِّم المنطوق.(72)
- وأما حديث «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» فقد أوَّلوه، بأن الخلاف في عمل غيره لا في عمله هو. ولا يضر جهل الفاعل بالثواب؛ لأن الله يعلمه.(73) قال ابن قدامة: "ولا حجة لهم في الخبر الذي احتجوا به؛ لأنه إنما دل على انقطاع عمله، وليس هذا من عمله، فلا دلالة عليه فيه، ولو دل عليه كان مخصوصاً بما سلموه، فيتعدى إلى ما منعوه، وما ذكروه من المعنى غير صحيح، فإن تعدي الثواب ليس بفرع لتعدي النفع، ثم هو باطل بالصوم والدعاء والحج، وليس له أصل يعتبر به"(74). وقال في تبيين الحقائق عن هذا الحديث: "لا يدل على انقطاع عمل غيره، والكلام فيه، وليس فيه شيء مما يستبعد عقلا؛ لأنه ليس فيه إلا جعل ما له من الأجر لغيره، والله تعالى هو الموصل إليه، وهو قادر عليه، ولا يختص ذلك بعمل دون عمل"(75).
الخلاصة:
اختلف العلماء في إهداء الحي لقراءة القرآن للميت، وهل يصل إليه ذلك وينفعه؟ على ثلاثة أقوال، كالآتي:
- إهداء القرآن من الحي للميت جائز، ويصل إليه وينفعه. وبه قال الحنفية، وبعض أصحاب مالك، والكثيرون من أصحاب الشافعي، وهو المشهور عن أحمد.
- لا يجوز إهداء القرآن للميت، وذلك لا يصل إليه، ولا ينفعه. وبه قال مالك، وهو المشهور عن الشافعي، وهو قول الأكثر من أصحاب أحمد، ونسبه في تبيين الحقائق من كتب الحنفية للمعتزلة.(76)
- حصول ثواب الاستماع للميت، ولكن لا يصح منه ذلك. وهو قولٌ عند المالكية، وقول عند الحنابلة.
الراجح:
من خلال العرض السابق لأدلة الفريقين، يتبين لنا أن الراجح هو قول القائلين بالجواز؛ للآتي:
- لأن أدلة القائلين بالجواز أوضح في الدلالة على حكم هذه المسألة، من أدلة القائلين بالحرمة.
- ولأن أدلة القائلين بالحرمة يمكن تأويلها أو الرد عليها كالآتي:
أما استدلالهم بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] (77)، وقوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134]، وأن القراءة للأموات ليس من عملهم ولا كسبهم، فجوابه كالآتي:
إن الآيتين تتحدثان عن أصل من أصول الشريعة، وهو أن الإنسان ليس له من عمله، إلا ما كسبه هو أو سعى في تحصيله، وهذا ما هو مقرر في غير هذه الآيتين، كقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38]، وليس في الآيتين ما يدل على أن المرء لا ينتفع بما يهبه غيره له من ثواب الأعمال، على أنه يمكن القول: إن إهداء الحي للميت ثواب القراءة، من سعي الإنسان ومن كسبه؛ لأن هذا الإهداء -في الغالب- إنما يكون عن صلةٍ وعلاقةٍ وحبٍ بين الحي والميت، وهذا من كسب الميت في حياته.
وعلى فرض صحة استدلال المحرمين بهاتين الآيتين، فإنه يقال: إن الآيتين في غير موضع النـزاع؛ لأنهما تتحدثان عن سعي الإنسان لنفسه، لا في سعي الغير له، وهو موضع الخلاف.
على أن هاتين الآيتين -وهما غير صريحتين في المراد- قد عارضتا ما هو صريح في المراد، وذلك قوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الطور: 21]، والتي تدل على أن المرء ينتفع بفعل الغير.
- وأما استدلالهم بحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث:...». فجوابه كالآتي:
إن الحديث في غير موضع الخلاف، كما في الآيتين المتقدمتين؛ لأن الحديث يتكلم عن عمل الميت نفسه، ولم يتكلم عن عمل الغير، يُهدَى للإنسان.
كما أن هذا الحديث -وهو غير صريح في المراد- قد عارض ما هو صريح في المراد، وذلك ما تقدم في صيام المرأة وحجها وصدقتها عن أبيها أو أمها.
- وأما استدلالهم بقياس القراءة على الصلاة في عدم الوصول؛ لأن كل منهما عبادة بدنية فجوابه: أن الأولى هو قياس هذه المسألة على الدعاء، والحج، فإنهما تصلان إلى الميت، وقراءة القرآن للميت مثلهما؛ بجامع أن كلاً منها عبادة بدنية.
فإن قيل: إن الصلاة عبادة بدنية، ولكن مع ذلك لا يصل ثوابها إلى الميت، فلِمَ لا تقاس القراءة على الصلاة، في عدم جواز الإهداء، وعدم وصول ثوابها للميت؟
فالجواب عنه: إن هناك فرقاً بين المسألتين، فإن الصلاة لا يمكن النيابة فيها، ولا يمكن للمرء أن يقوم بها عن غيره، سواء قدر المرء على أدائها بنفسه، أم لم يقدر، أما في حال القدرة فواضح، وأما في حال العجز؛ فلأنه قد سقط وجوبها عنه.
بخلاف الدعاء والحج، فأما الدعاء، فإنه يمكن أن يقوم الغير به؛ بدلالة النصوص المتقدم ذكرها. وأما في الحج؛ فلأنها عبادة تقبل النيابة ممن عجز عن أدائها بنفسه.
كما أن القراءة بقيت على أصلها في جواز إهداء العبادات البدنية، المدلول عليه بأحاديث الدعاء والحج المتقدمة. وأما الصلاة، وهي وإن كانت عبادة بدنية، إلا أنه لا يجوز إهداؤها للإجماع -كما تقدم- على عدم جواز ذلك، فخرجت بهذا من الأصل الذي كانت عليه من جواز إهداء العبادات البدنية.
- وأما ما تبقى من أدلتهم، فلا تقوى على دفع النصوص الشرعية الدالة على الجواز.
والله تعالى أعلى وأعلم. وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونِعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين، وهو الهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي: علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس.
الخميس - 14 ربيع الآخر 1428هـ، 3/ 5/ 2007م.
راجعه: يونس بن عبد الرب الطلول، وعبد الوهاب بن مهيوب مرشد الشرعبي.
____________________
(1) تفسير ابن كثير 7/ 465.
(2) صحيح مسلم 8/ 405، برقم: 3084، سنن النسائي 11/ 424، برقم: 3591، سنن الترمذي 5/ 243، برقم: 1297.
(3) سنن النسائي 13/ 462، برقم: 4373، سنن أبي داود 9/ 406، برقم: 3061، عن عائشة. والحديث صحيح. انظر: مختصر إرواء الغليل 1/ 429، برقم: 2162.
(4) صحيح مسلم 13/ 164، برقم: 4831، سنن الترمذي 9/ 284، برقم: 2598. عن أبي هريرة.
(5) فتح الوهاب 2/ 31.
(6) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425.
(7) شرح النووي على مسلم 1/ 25.
(8) تفسير القرطبي 17/ 114.
(9) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 176.
(10) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131.
(11) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 176.
(12) منح الجليل شرح مختصر خليل 16/ 172. والحديث سيأتي تخريجه قريباً.
(13) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/ 173.
(14) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/ 172.
(15) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(16) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(17) شرح النووي على مسلم 1/ 25.
(18) انظر: فتح المعين 3/ 258.
(19) فتح الوهاب 2/ 31.
(20) انظر: فتح المعين 3/ 258.
(21) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 19/ 341.
(22) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425.
(23) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431.
(24) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426.
(25) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431.
(26) شرح النووي على مسلم 1/ 25، تفسير ابن كثير 7/ 465، تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431. منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(27) تفسير ابن كثير 7/ 465.
(28) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431.
(29) شرح النووي على مسلم 1/ 25، الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431. منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177. والحديث تقدم تخريجه.
(30) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(31) تفسير ابن كثير 7/ 465.
(32) تفسير ابن كثير 7/ 465.
(33) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131، المغني5/ 80.
(34) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426.
(35) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 135.
(36) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425، المغني5/ 79.
(37) انظر: الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425، المغني5/ 79.
(38) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132.
(39) أضواء البيان 8/ 53.
(40) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131.
(41) كشف الخفاء 2/ 282، برقم: 2630، وقال: رواه الرافعي في تاريخه عن علي.قال الألباني: موضوع. انظر: السلسلة الضعيفة 3/ 289، برقم: 1290.
(42) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132.
(43) سنن أبي داود 8/ 385، برقم: 2714، سنن ابن ماجة 4/ 380، برقم: 1438، قال الألباني: ضعيف. انظر: مختصر إرواء الغليل 1/ 138، برقم: 688.
(44) المستدرك على الصحيحين للحاكم 17/ 406، برقم: 7654، شعب الإيمان للبيهقي 3/ 485، برقم: 1429. والحديث صححه الألباني بلفظ "أن أنس بن مالك حدثهم أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: «ضحى بكبشين أقرنين أملحين يطأ على صفاحهما ويذبحهما ويسمي ويكبر». انظر: صحيح وضعيف سنن النسائي 9/ 490، برقم: 4418.
(45) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132.
(46) صحيح البخاري 5/ 35، برقم: 1208، صحيح مسلم 4/ 496، برقم: 1539.
(47) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426.
(48) المصدر السابق.
(49) شرح النووي على مسلم 1/ 25.
(50) صحيح البخاري 7/ 52، برقم: 1817، صحيح مسلم 6/ 6، برقم: 1936.
(51) صحيح مسلم 7/ 35، برقم: 2375، سنن النسائي 8/ 464، برقم: 2593.
(52) صحيح البخاري 9/ 321، برقم: 2563، سنن أبي داود 8/ 79، برقم: 2496.
(53) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425، المغني 5/ 79.
(54) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(55) المعجم الأوسط للطبراني 19/ 444، برقم: 11165. وكثير ضعيف. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 1/ 466.
(56) انظر: الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425، المغني5/ 79.
(57) سنن أبي داود 8/ 492، برقم: 2785، مسند أحمد 17/ 231، برقم: 8189. قال الألباني: ضعيف. انظر: مشكاة المصابيح 1/ 380، برقم: 1688.
(58) صحيح مسلم 5/ 75، برقم: 1601، سنن النسائي 7/ 84، برقم: 1957.
(59) صحيح مسلم 1/ 320، برقم: 184، سنن الترمذي 10/ 337، برقم: 2999.
(60) تفسير القرطبي 17/ 115. ومراده بالحديث هو حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأولهم وآخرهم. قالت: قلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم» رواه البخاري 7/ 314، برقم: 1975، ومسلم 14/ 55، برقم: 5134.
(61) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 19/ 340، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(62) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133.
(63) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432. ومراده بحديث الخثعمية، هو قولها: "إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً" وقد تقدم ذكره وتخريجه.
(64) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 19/ 340.
(65) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(66) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 19/ 340، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(67) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(68) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133.
(69) أضواء البيان 8/ 52.
(70) أضواء البيان 8/ 53.
(71) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431.
(72) انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(73) المصدر السابق.
(74) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426.
(75) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133.
(76) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131.
(77) شرح النووي على مسلم 1/ 25، تفسير ابن كثير 7/ 465، تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431. منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، الفعال لما يريد، خلق فسوّى، وقدر فهدى، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين والأنبياء، محمد -صلى الله عليه، وعلى آله وسلم- وعلى أصحابه أجمعين، وعلى التابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فكثيراً ما نسمع من بعض المصلين في بعض مساجد صنعاء من يقول للناس بعد الصلاة: الفاتحة نهدي ثوابها إلى روح آبائنا وآبائكم، وأمهاتنا وأمهاتكم، وكل من له حق علينا، بأن الله يُسكنهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأن يُدخل عليهم البهجة والسرور، والضياء والنور من يومنا هذا إلى يوم النشور، وأن يغفر لنا ولهم... وكذا نسمع مثل هذه العبارات في مآتم الأموات، وكذا عند زيارة المرضى، ومثله عند زيارة المقابر... وغيرها من المواضع.
وقد وُجد من الناس من يُنكر مثل هذه الأفعال، ويقول بحرمة إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الأموات، وأن ذلك مما لا ينفع الميت، وأنه لا يصل إليه، ويعتبر أن مثل هذه الأفعال من البدع المنكرة، التي لا بد من اجتنابها، كما وُجد فريق آخر يقول: إن ذلك من الأمور الجائزة، وأنه مما يجوز فعله، وأنه مما ينفع الميت، وأنه يصل إليه؛ ولذا فقد أحببت أن أبحث هذه المسألة من خلال ما قاله فقهاء المسلمين، وما قال علماء التفسير، وسيكون سير البحث على النحو الآتي:
-1. تمهيد.
-2. إهداء ثواب قراءة القرآن للميت.
-3. الأدلة على أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى.
-4. الأدلة على أن القراءة يصل إهداء ثوابها إلى الموتى.
-5. تأويل المجيزين لأدلة المحرمين.
-6. الخلاصة.
-7. الراجح.
ولذلك أقول مستعيناً بالله تعالى، وهو حسبي، ونِعم الوكيل:
تمهيد:
أجمع العلماء على أن إهداء أجر الصدقة إلى الميت جائز، وأنه يصل إلى الميت، وأنه ينفعه، ومثله الدعاء للميت. قال ابن كثير: "فأما الدعاء والصدقة، فذاك مجمع على وصولهما، ومنصوص من الشارع عليهما"(1). ولحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات الإنسان انقطع عمله، إلا من ثلاث: من ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده، أو علم ينتفع به»(2)، فهذه الثلاثة -في الحقيقة- هي من سعيه وكده وعمله، كما جاء في الحديث: «إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه »(3)... وثبت في الصحيح: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً»(4). وقال في فتح الوهاب من كتب الشافعية: "وينفعه أي الميت من وارث وغيره صدقة ودعاء، بالإجماع وغيره"(5). وقد نقل هذا الإجماع أيضاً ابن قدامة الحنبلي في الشرح الكبير، حيث قال: "وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك، أما الدعاء والاستغفار والصدقة وقضاء الدين وأداء الواجبات فلا نعلم فيه خلافاً إذا كانت الواجبات مما يدخله النيابة"(6).
وقال النووي: "وأما ما حكاه أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الفقيه الشافعي في كتابه الحاوي عن بعض أصحاب الكلام من أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب، فهو مذهب باطل، قطعاً وخطأ بيِّن، مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا التفات إليه ولا تعريج عليه"(7(.
كما أجمعوا على أنه لا يصلي أحد عن أحد. قال القرطبي: "وأجمعوا أنه لا يصلي أحد عن أحد"(8(
ومثله الإيمان والتوحيد، لا يمكن للعبد أن يهبه لغيره. قاله القرافي المالكي.(9(
واختلفوا في إهداء ثواب ما سوى ذلك من الأعمال، ومن هذه المسائل إهداء ثواب قراءة القرآن للميت وذلك على النحو الآتي:
إهداء ثواب قراءة القرآن للميت:
وقع بين فقهاء المسلمين اختلاف في إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، هل يجوز له ذلك؟ وهل يصل ذلك إلى الميت؟ وهل ينفعه؟ واليك بيان ذلك على حسب مذاهبهم كالآتي:
- مذهب الحنفية:
يرى الحنفية أن إهداء ثواب قراءة القرآن للميت جائز، وأن ذلك ينفعه، وأنه يصل إليه، وهو ما نص عليه في تبيين الحقائق من كتبهم.(10(
- مذهب المالكية:
يذهب الإمام مالك إلى عدم جواز إهداء قراءة القرآن للميت، وأن ذلك لا ينفعه، ولا يصل إليه. وقال بعض أصحابه: إن ذلك ينفعه، ويصل إليه. قال في منح الجليل: "قال القرافي: القربات ثلاثة أقسام:
- قسم حجر الله تعالى على عبده في ثوابه، ولم يجعل له نقله إلى غيره، كالإيمان والتوحيد.
- وقسم اتفق على جواز نقله، وهو القربات المالية.
- وقسم اختلف فيه، وهو الصوم والحج والقراءة، فمنعه مالك والشافعي، رضي الله تعالى عنهما...
ثم قال: فينبغي للإنسان أن لا يتركه، فلعل الحق هو الوصول، فإنه مغيب، وكذا التهليل الذي اعتاد الناس ينبغي عمله، والاعتماد على فضل الله تعالى"(11).
ونقل في منح الجليل أيضاً عن ابن رشد قوله في فتوى له عن معنى قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، قال: "إن قرأ وأهدى ثواب قراءته للميت، جاز ذلك، وحصل أجره للميت، ووصل إليه نفعه إن شاء الله تعالى؛ لحديث النسائي عنه -صلى الله عليه وسلم-: «من دخل مقبرة وقرأ: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]. إحدى عشرة مرة، وأهدى ثوابها لهم، كتب الله له من الحسنات بعدد من دفن فيها»(12).
ونقل الدسوقي عن ابن رشد هذا القول أيضاً، ونقل مثله عن ابن هلال، ونسب هذا القول للأندلسيين، حيث قال: "وقال ابن هلال في نوازله: الذي أفتى به ابن رشد وذهب إليه غير واحد من أئمتنا الأندلسيين: أن الميت ينتفع بقراءة القرآن الكريم ويصل إليه نفعه، ويحصل له أجره إذا وهب القارئ ثوابه له، وبه جرى عمل المسلمين شرقاً وغرباً، ووقفوا على ذلك أوقافاً، واستمر عليه الأمر منذ أزمنة سالفة"(13). وهذا هو مذهب المتأخرين من المالكية، كما نص عليه الدسوقي، حيث قال: "لكن المتأخرون على أنه لا بأس بقراءة القرآن والذكر، وجعل ثوابه للميت، ويحصل له الأجر، إن شاء الله"(14).
وقد ذكر المالكية قولاً ثالثاً في هذه المسألة، وهو: حصول ثواب الاستماع للميت، ولكن لا يصح منه ذلك؛ لانقطاع التكليف عنه.(15) ولعل مقصودهم بهذا القول هو عدم وصول ثواب الإهداء للميت، ولكنه ينتفع بهذه القراءة من جهة سماعه لها.
وقد علَّق في منح الجليل على انقطاع التكليف عنه، فقال: "والظاهر حصول بركة القراءة؛ لحصولها بمجاورة الرجل الصالح، ولا تتوقف على التكليف، فقد حصلت بركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للخيل والدواب وغيرهما، كما ثبت بالجملة"(16).
- مذهب الشافعية:
للشافعية في هذه المسألة أقوال:
- فالمشهور عن الشافعي: عدم جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، وأن ذلك لا ينفعه، ولا يصل إليه.
- وقال الكثيرون من أصحابه: يجوز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت، وأن ذلك ينفعه، وأنه يصل إليه.
قال النووي: "وأما قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي، أنه لا يصل ثوابها إلى الميت، وقال بعض أصحابه: يصل ثوابها إلى الميت"(17). وقد علَّق في فتح المعين على كلام النووي هذا فقال: "وحمل جمع عدم الوصول الذي قاله النووي على ما إذا قرأ لا بحضرة الميت، ولم ينو القارئ ثواب"(18)، ونقل في فتح الوهاب عن السبكي قوله: "الذي دل عليه الخبر بالاستنباط، أن بعض القرآن، إذا قُصِد به نفع الميت نفعه"(19). وقد نقل في فتح المعين أن القول بالجواز، هو ما اختاره كثيرون من أئمة الشافعية.(20)
وقال في نهاية المحتاج: "وفي القراءة وجه -وهو مذهب الأئمة الثلاثة- بوصول ثوابها للميت بمجرد قصده بها، واختاره كثير من أئمتنا... قال ابن الصلاح: وينبغي الجزم بنفع: اللهم أوصل ثواب ما قرأناه. أي: مثله فهو المراد، وإن لم يصرح به لفلان؛ لأنه إذا نفعه الدعاء بما ليس للداعي، فما له أولى"(21).
- مذهب الحنابلة:
وللحنابلة في هذه المسألة أقوال أيضاً كالمالكية، وهي كالآتي:
- جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت وأن ذلك ينفعه ويصل إليه. وهذا هو المشهور عن أحمد.
- عدم جواز إهداء ثواب قراءة القرآن للميت وأن ذلك ينفعه ويصل إليه. ونسبه البهوتي إلى الأكثر.
- وقيل: الثواب للقارئ، ولكن الرحمة تُرجى للميت بها.
قال ابن قدامة: "وأي قربة فعلها، وجعل ثوابها للميت المسلم، نفعه ذلك"(22). وقال البهوتي: "وكل قربة فعلها المسلم، وجعل ثوابها أو بعضها، كالنصف ونحوه، كالثلث أو الربع، لمسلم حي أو ميت، جاز ذلك ونفعه، ذلك لحصول الثواب له، حتى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذكره المجد، من بيان لكل قربة تطوع وواجب، تدخله النيابة، كحج ونحوه كصوم نذر، أو لا تدخله النيابة، كصلاة وكدعاء واستغفار، وصدقة وعتق وأضحية وأداء دين وصوم وكذا قراءة وغيرها. قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير؛ للنصوص الواردة فيه، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرءون ويهدون لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعاً"(23).
وقال بعضهم: إذا قرئ القرآن عند الميت، أو أهدي إليه ثوابه، كان الثواب لقارئه، ويكون الميت كأنه حاضرها فترجى له الرحمة.(24)
وقال البهوتي: "وقال الأكثر: لا يصل إلى الميت ثواب القراءة وأن ذلك لفاعله".(25)
الأدلة على أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى:
استدل من قال من العلماء بعدم وصول إهداء ثواب قراءة القرآن للموتى، وبأن ذلك لا ينفعهم، بأدلة منها:
- قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] (26)، ووجه الدلالة من الآية هو أن القراءة للأموات ليس من عملهم ولا كسبهم؛ ولهذا لم يندب إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته ولا حثهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنص ولا إيماء.(27)
- وقوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134]،(28). فقد دلت الآية على أن الإنسان يؤاخذ بفعل نفسه، ولا يؤاخذ بفعل غيره.
- واستدلوا أيضاً(29) بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له». فقد دل الحديث على انقطاع العمل عن الميت، إلا هذه الثلاث المذكورة في الحديث، وليس إهداء ثواب القراءة منها.
- واستدلوا أيضاً بقياس القراءة على الصلاة في عدم الوصول؛ لأن كل منهما عبادة بدنية.(30)
- واستدلوا أيضاً بأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يُهدُون ثواب القراءة للأموات، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.(31)
- واستدلوا أيضاً بأن باب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء.(32)
- واستدلوا أيضاً بأن ثواب القراءة هو الجنة، وليس في قدرة العبد أن يجعلها لنفسه فضلاً أن يجعلها لغيره.(33)
- واستدلوا أيضاً بأن نفع القراءة لا يتعدى فاعله، فلا يتعداه ثوابه.(34)
الأدلة على أن القراءة يصل إهداء ثوابها إلى الموتى:
استدل من قال من العلماء بوصول إهداء ثواب قراءة القرآن للموتى، وأن ذلك ينفعهم، بأدلة منها:
- قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ﴾ [غافر: 7،8]، ودعاء الميت لهم؟ ليس من عمل الأموات بل ذلك من عمل الغير وقد نفعهم.(35)
- وقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ﴾ [الحشر: 10](36). ودلالته على المراد كسابِقِه.
- وقال سبحانه: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19](37). فقد أمر الله نبيه أن يستغفر للمؤمنين، فدل ذلك أن الاستغفار يصل إليهم وينفعهم. قال في تبيين الحقائق: "وروي عن أبي هريرة قال: يموت الرجل، ويدع ولداً، فيرفع له درجة، فيقول: ما هذا يا رب؟! فيقول سبحانه وتعالى: "استغفار ولدك". ولهذا قال تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد: 19]، وما أمر الله به من الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم"(38).
- واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الطور: 21]، فقد دلت الآية على أن الله سبحانه يُلحق الأبناء المؤمنين بآبائهم المؤمنين، وهذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بسعي غيره.(39)
- واستدلوا أيضاً بحديث(40): «من مر بالمقابر، فقرأ إحدى عشرة مرة ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، ثم وهب أجره الأموات، أعطى من الأجر بعدد الأموات»(41).
- وبحديث معقل بن يسار(42) رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «اقرءوا يس على موتاكم» رواه أبو داود.(43) فقد أمر -صلى الله عليه وسلم- بقراءة سورة يس -وهي من القرآن- على الموتى، وهذا دليل على أن القراءة تنفعهم، وإلا لما كان في الأمر لهم بقراءة يس فائدة.
- وعن عائشة وأبي هريرة -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضحى بكبشين سمينين عظيمين أملحين أقرنين موجوئين، فذبح أحدهما، فقال: «اللهم عن محمد وأمته، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ»(44). أي جعل ثوابه لأمته، وهذا تعليم منه عليه الصلاة والسلام أن الإنسان ينفعه عمل غيره، والاقتداء به هو الاستمساك بالعروة الوثقى.(45)
- واستدلوا أيضاً بحديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: لما أصيب عمر -رضي الله عنه- جعل صهيب يقول: وا أخاه! فقال عمر -رضي الله عنه- أما علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الميت ليعذب ببكاء الحي»(46). فإذا كان البكاء يضره فالقراءة تنفعه، والله أكرم من أن يوصل عقوبة المعصية إليه، ويحجب عنه المثوبة.(47)
- واستدلوا أيضاً بإجماع المسلمين على جواز ذلك؛ فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون، ويقرأون القرآن، ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير.(48)
قلت: نقْلُ الإجماع في هذه المسألة غريب؛ لأن الخلاف في المسألة مشهور.
- والقياس على الصدقة والحج، فإنهما تصلان إلى الميت بالإجماع(49)، وبالنصوص الشرعية الدالة على ذلك، كحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: «يا رسول الله! إن أمي ماتت، وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: "نعم. قال: فدين الله أحق أن يقضى»(50). وعنه أيضاً -رضي الله عنهما- أنه قال: كان الفضل بن عباس -رضي الله عنهما- رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءته امرأةٌ من خثعم، تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. قالت: «يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم. وذلك في حجة الوداع»(51). وعنه أيضاً -رضي الله عنهما- أن رجلاً قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-:«إن أمه توفيت، أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم»(52)، فقد دلت هذه الأحاديث على أن الميت ينتفع بحج الحي عنه، وكذا تصدقه عنه، ويقاس عليه القراءة، فيقال: إن الميت ينتفع بقراءة الميت له. قال ابن قدامة: "وكلها أحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القرب؛ لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار كلها عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها إلى الميت، فكذلك ما سواها، مع ما ذكرنا من الحديث في ثواب من قرأ يس وتخفيف الله عز وجل عن أهل المقابر بقراءته، ولأنه عمل بر وطاعة، فوصل نفعه وثوابه كالصدقة والصيام والحج الواجب"(53).
- واستدلوا أيضاً بالقياس على الدعاء(54) الذي ورد في مشروعيته للميت نصوص كثيرة، منها حديث كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده عن عبد الله ذي البجادين، الذي هلك في غزوة تبوك أنه هلك في جوف الليل، فنـزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حفرته، وقال لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-: «أدليا إلي أخاكما، فلما وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في لحده قال: اللهم إني راض عنه، فارض عنه فقال أبو بكر: والله لوددت أني صاحب الحفرة»(55). فقد دل الحديث على مشروعية الدعاء للميت، وهو دليل على انتفاعه بهذا الدعاء، والدعاء ليس من عمل الميت، مع أنه ينتفع به. ومثل هذا يقال في الأحاديث الواردة في الدعاء على الجنازة(56)، كحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي على الجنازة؟ فقال: قال: «اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإِسلام، وأنت أعلم بسرِّها وعلانيتها، جئنا شفعاء، فاغفر لها»(57). وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقال: «اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه، وعافه، وأكرم نزله ووسِّع مَدخله، واغسله بماءٍ وثلج وبرد، ونقِّه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدَّنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وقِهِ فتنة القبر، وعذاب النار»(58). وغيرها.
تأويل المجيزين لإهداء ثواب قراءة القرآن للموتى، لأدلة المحرمين:
أوَّل المجيزون لإهداء ثواب قراءة القرآن للميت أدلة المحرمين لذلك بالآتي:
- أما قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، فأوَّلوه بالآتي:
- قال القرطبي: "ويحتمل أن يكون قوله: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ خاص في السيئة، بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله عز وجل: إذا همَّ عبدي بحسنة، ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها، لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة»(59).
- وقال أبو بكر الوراق: ﴿إِلَّا مَا سَعَى﴾ إلا ما نوى، بيانه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم»(60).
- ونقل عن ابن عباس قوله: إن قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ منسوخ بقوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور: 21](61).
- وقيل: هي خاصة بقوم موسى وإبراهيم؛ لأنه وقع حكاية عما في صحفهما عليهما الصلاة والسلام، بقوله تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 36،37](62). قال عكرمة: هذا في حقهم خاصة بخلاف شرعنا؛ بدليل حديث الخثعمية.(63).
- وقيل: أريد بالإنسان في الآية: الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى أخوه.(64) قال في كشاف القناع: "أو أنها مختصة بالكافر أي: ليس له من الخير إلا جزاء سعيه، يوفَّاه في الدنيا، وماله في الآخرة من نصيب"(65).
- وقيل: ليس للإنسان من طريق العدل إلا ما سعى هو، وله من طريق الفضل ما سعى غيره به له.(66)
- وقيل اللام في (للإنسان) بمعنى على، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7], أي: فعليها، وكقوله تعالى: ﴿لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ [الرعد: 25] أي: عليهم.(67)
- وقيل ليس له إلا سعيه، لكن سعيه قد يكون بمباشرة أسبابه؛ بتكثير الإخوان، وتحصيل الإيمان، حتى صار ممن تنفعه شفاعة الشافعين.(68)
وقد رام بعض العلماء الجمع بين قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، وقوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾ [الطور: 21]، ومن هؤلاء الإمام الشنقيطي، حيث قال: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ يدل على أن الإنسان لا يستحق أجراً إلا على ما سعيه بنفسه، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات، لأن قوله: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ قد دلت اللام فيه على أنه لا يستحق، ولا يملك شيئاً، إلا بسعيه، ولم تتعرض لنفي الانتفاع بما ليس ملكاً له ولا مستحقاً له"(69).
وقال أيضاً: "الآية (يقصد آية النجم) إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره، لأنه لم يقل: وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى، وإنما قال: وأن ليس للإنسان، وبين الأمرين فرق ظاهر، لأن سعي الغير ملك لساعيه، إن شاء بذله لغيره، فانتفع به ذلك الغير، وإن شاء أبقاه لنفسه...
الثاني: أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم، إذ لو كانوا كفاراً لما حصل لهم ذلك. فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين، كما وقع في الصلاة في الجماعة، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفرداً، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير، سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى: ﴿واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ﴾.
الثالث: أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد، ليس للأولاد، كما هو نص قوله تعالى: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: 39]، ولكن من سعي الآباء، فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه، بأن رفع إليهم أولادهم؛ ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم. فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها؛ لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد، فانتفاع الأولاد تبع، فهو بالنسبة إليه تفضل منَّ الله عليهم بما ليس لهم، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين، والخلق الذين ينشؤهم للجنة. والعلم عند الله تعالى"(70).
- كما إنهم أوَّلوا قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ﴾ [البقرة: 134](71). بأنها تدل بالمفهوم على أن المرء لا ينتفع بعمل غيره، ولكن منطوق الأحاديث التي استدلوا بها قد دلت على خلافه، وإذا تعارض المفهوم والمنطوق قُدِّم المنطوق.(72)
- وأما حديث «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» فقد أوَّلوه، بأن الخلاف في عمل غيره لا في عمله هو. ولا يضر جهل الفاعل بالثواب؛ لأن الله يعلمه.(73) قال ابن قدامة: "ولا حجة لهم في الخبر الذي احتجوا به؛ لأنه إنما دل على انقطاع عمله، وليس هذا من عمله، فلا دلالة عليه فيه، ولو دل عليه كان مخصوصاً بما سلموه، فيتعدى إلى ما منعوه، وما ذكروه من المعنى غير صحيح، فإن تعدي الثواب ليس بفرع لتعدي النفع، ثم هو باطل بالصوم والدعاء والحج، وليس له أصل يعتبر به"(74). وقال في تبيين الحقائق عن هذا الحديث: "لا يدل على انقطاع عمل غيره، والكلام فيه، وليس فيه شيء مما يستبعد عقلا؛ لأنه ليس فيه إلا جعل ما له من الأجر لغيره، والله تعالى هو الموصل إليه، وهو قادر عليه، ولا يختص ذلك بعمل دون عمل"(75).
الخلاصة:
اختلف العلماء في إهداء الحي لقراءة القرآن للميت، وهل يصل إليه ذلك وينفعه؟ على ثلاثة أقوال، كالآتي:
- إهداء القرآن من الحي للميت جائز، ويصل إليه وينفعه. وبه قال الحنفية، وبعض أصحاب مالك، والكثيرون من أصحاب الشافعي، وهو المشهور عن أحمد.
- لا يجوز إهداء القرآن للميت، وذلك لا يصل إليه، ولا ينفعه. وبه قال مالك، وهو المشهور عن الشافعي، وهو قول الأكثر من أصحاب أحمد، ونسبه في تبيين الحقائق من كتب الحنفية للمعتزلة.(76)
- حصول ثواب الاستماع للميت، ولكن لا يصح منه ذلك. وهو قولٌ عند المالكية، وقول عند الحنابلة.
الراجح:
من خلال العرض السابق لأدلة الفريقين، يتبين لنا أن الراجح هو قول القائلين بالجواز؛ للآتي:
- لأن أدلة القائلين بالجواز أوضح في الدلالة على حكم هذه المسألة، من أدلة القائلين بالحرمة.
- ولأن أدلة القائلين بالحرمة يمكن تأويلها أو الرد عليها كالآتي:
أما استدلالهم بقوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39] (77)، وقوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 134]، وأن القراءة للأموات ليس من عملهم ولا كسبهم، فجوابه كالآتي:
إن الآيتين تتحدثان عن أصل من أصول الشريعة، وهو أن الإنسان ليس له من عمله، إلا ما كسبه هو أو سعى في تحصيله، وهذا ما هو مقرر في غير هذه الآيتين، كقوله تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38]، وليس في الآيتين ما يدل على أن المرء لا ينتفع بما يهبه غيره له من ثواب الأعمال، على أنه يمكن القول: إن إهداء الحي للميت ثواب القراءة، من سعي الإنسان ومن كسبه؛ لأن هذا الإهداء -في الغالب- إنما يكون عن صلةٍ وعلاقةٍ وحبٍ بين الحي والميت، وهذا من كسب الميت في حياته.
وعلى فرض صحة استدلال المحرمين بهاتين الآيتين، فإنه يقال: إن الآيتين في غير موضع النـزاع؛ لأنهما تتحدثان عن سعي الإنسان لنفسه، لا في سعي الغير له، وهو موضع الخلاف.
على أن هاتين الآيتين -وهما غير صريحتين في المراد- قد عارضتا ما هو صريح في المراد، وذلك قوله تعالى: ﴿والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ [الطور: 21]، والتي تدل على أن المرء ينتفع بفعل الغير.
- وأما استدلالهم بحديث: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث:...». فجوابه كالآتي:
إن الحديث في غير موضع الخلاف، كما في الآيتين المتقدمتين؛ لأن الحديث يتكلم عن عمل الميت نفسه، ولم يتكلم عن عمل الغير، يُهدَى للإنسان.
كما أن هذا الحديث -وهو غير صريح في المراد- قد عارض ما هو صريح في المراد، وذلك ما تقدم في صيام المرأة وحجها وصدقتها عن أبيها أو أمها.
- وأما استدلالهم بقياس القراءة على الصلاة في عدم الوصول؛ لأن كل منهما عبادة بدنية فجوابه: أن الأولى هو قياس هذه المسألة على الدعاء، والحج، فإنهما تصلان إلى الميت، وقراءة القرآن للميت مثلهما؛ بجامع أن كلاً منها عبادة بدنية.
فإن قيل: إن الصلاة عبادة بدنية، ولكن مع ذلك لا يصل ثوابها إلى الميت، فلِمَ لا تقاس القراءة على الصلاة، في عدم جواز الإهداء، وعدم وصول ثوابها للميت؟
فالجواب عنه: إن هناك فرقاً بين المسألتين، فإن الصلاة لا يمكن النيابة فيها، ولا يمكن للمرء أن يقوم بها عن غيره، سواء قدر المرء على أدائها بنفسه، أم لم يقدر، أما في حال القدرة فواضح، وأما في حال العجز؛ فلأنه قد سقط وجوبها عنه.
بخلاف الدعاء والحج، فأما الدعاء، فإنه يمكن أن يقوم الغير به؛ بدلالة النصوص المتقدم ذكرها. وأما في الحج؛ فلأنها عبادة تقبل النيابة ممن عجز عن أدائها بنفسه.
كما أن القراءة بقيت على أصلها في جواز إهداء العبادات البدنية، المدلول عليه بأحاديث الدعاء والحج المتقدمة. وأما الصلاة، وهي وإن كانت عبادة بدنية، إلا أنه لا يجوز إهداؤها للإجماع -كما تقدم- على عدم جواز ذلك، فخرجت بهذا من الأصل الذي كانت عليه من جواز إهداء العبادات البدنية.
- وأما ما تبقى من أدلتهم، فلا تقوى على دفع النصوص الشرعية الدالة على الجواز.
والله تعالى أعلى وأعلم. وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونِعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين، وهو الهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إلى عفو ربه العلي: علي بن عبد الرحمن بن علي دبيس.
الخميس - 14 ربيع الآخر 1428هـ، 3/ 5/ 2007م.
راجعه: يونس بن عبد الرب الطلول، وعبد الوهاب بن مهيوب مرشد الشرعبي.
____________________
(1) تفسير ابن كثير 7/ 465.
(2) صحيح مسلم 8/ 405، برقم: 3084، سنن النسائي 11/ 424، برقم: 3591، سنن الترمذي 5/ 243، برقم: 1297.
(3) سنن النسائي 13/ 462، برقم: 4373، سنن أبي داود 9/ 406، برقم: 3061، عن عائشة. والحديث صحيح. انظر: مختصر إرواء الغليل 1/ 429، برقم: 2162.
(4) صحيح مسلم 13/ 164، برقم: 4831، سنن الترمذي 9/ 284، برقم: 2598. عن أبي هريرة.
(5) فتح الوهاب 2/ 31.
(6) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425.
(7) شرح النووي على مسلم 1/ 25.
(8) تفسير القرطبي 17/ 114.
(9) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 176.
(10) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131.
(11) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 176.
(12) منح الجليل شرح مختصر خليل 16/ 172. والحديث سيأتي تخريجه قريباً.
(13) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/ 173.
(14) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4/ 172.
(15) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(16) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(17) شرح النووي على مسلم 1/ 25.
(18) انظر: فتح المعين 3/ 258.
(19) فتح الوهاب 2/ 31.
(20) انظر: فتح المعين 3/ 258.
(21) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 19/ 341.
(22) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425.
(23) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431.
(24) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426.
(25) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431.
(26) شرح النووي على مسلم 1/ 25، تفسير ابن كثير 7/ 465، تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431. منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(27) تفسير ابن كثير 7/ 465.
(28) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431.
(29) شرح النووي على مسلم 1/ 25، الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431. منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177. والحديث تقدم تخريجه.
(30) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(31) تفسير ابن كثير 7/ 465.
(32) تفسير ابن كثير 7/ 465.
(33) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131، المغني5/ 80.
(34) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426.
(35) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 135.
(36) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425، المغني5/ 79.
(37) انظر: الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425، المغني5/ 79.
(38) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132.
(39) أضواء البيان 8/ 53.
(40) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131.
(41) كشف الخفاء 2/ 282، برقم: 2630، وقال: رواه الرافعي في تاريخه عن علي.قال الألباني: موضوع. انظر: السلسلة الضعيفة 3/ 289، برقم: 1290.
(42) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132.
(43) سنن أبي داود 8/ 385، برقم: 2714، سنن ابن ماجة 4/ 380، برقم: 1438، قال الألباني: ضعيف. انظر: مختصر إرواء الغليل 1/ 138، برقم: 688.
(44) المستدرك على الصحيحين للحاكم 17/ 406، برقم: 7654، شعب الإيمان للبيهقي 3/ 485، برقم: 1429. والحديث صححه الألباني بلفظ "أن أنس بن مالك حدثهم أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم-: «ضحى بكبشين أقرنين أملحين يطأ على صفاحهما ويذبحهما ويسمي ويكبر». انظر: صحيح وضعيف سنن النسائي 9/ 490، برقم: 4418.
(45) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132.
(46) صحيح البخاري 5/ 35، برقم: 1208، صحيح مسلم 4/ 496، برقم: 1539.
(47) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426.
(48) المصدر السابق.
(49) شرح النووي على مسلم 1/ 25.
(50) صحيح البخاري 7/ 52، برقم: 1817، صحيح مسلم 6/ 6، برقم: 1936.
(51) صحيح مسلم 7/ 35، برقم: 2375، سنن النسائي 8/ 464، برقم: 2593.
(52) صحيح البخاري 9/ 321، برقم: 2563، سنن أبي داود 8/ 79، برقم: 2496.
(53) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425، المغني 5/ 79.
(54) منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.
(55) المعجم الأوسط للطبراني 19/ 444، برقم: 11165. وكثير ضعيف. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 1/ 466.
(56) انظر: الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 425، المغني5/ 79.
(57) سنن أبي داود 8/ 492، برقم: 2785، مسند أحمد 17/ 231، برقم: 8189. قال الألباني: ضعيف. انظر: مشكاة المصابيح 1/ 380، برقم: 1688.
(58) صحيح مسلم 5/ 75، برقم: 1601، سنن النسائي 7/ 84، برقم: 1957.
(59) صحيح مسلم 1/ 320، برقم: 184، سنن الترمذي 10/ 337، برقم: 2999.
(60) تفسير القرطبي 17/ 115. ومراده بالحديث هو حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض، يخسف بأولهم وآخرهم. قالت: قلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم، ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم» رواه البخاري 7/ 314، برقم: 1975، ومسلم 14/ 55، برقم: 5134.
(61) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 19/ 340، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(62) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133.
(63) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432. ومراده بحديث الخثعمية، هو قولها: "إن فريضة الله على عباده في الحج، أدركت أبي شيخاً كبيراً" وقد تقدم ذكره وتخريجه.
(64) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 19/ 340.
(65) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(66) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133. نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج 19/ 340، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(67) انظر: تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(68) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133.
(69) أضواء البيان 8/ 52.
(70) أضواء البيان 8/ 53.
(71) كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431.
(72) انظر: كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431، 432.
(73) المصدر السابق.
(74) الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 426.
(75) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 132، فتح القدير 6/ 133.
(76) تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131.
(77) شرح النووي على مسلم 1/ 25، تفسير ابن كثير 7/ 465، تبيين الحقائق شرح كنـز الدقائق 5/ 131، كشاف القناع عن متن الإقناع 4/ 431. منح الجليل شرح مختصر خليل 3/ 177.