لم تكن استقالة المستشار محمد فؤاد جاد الله، نائب رئيس مجلس الدولة المنتدب للرئاسة أمراً مستغرباً، بل المستغرب أنه استمر طوال هذه المدة في قلب تلك المعمعة، وقد تحمل كل تلك المعارك والمشاهد والمساخر غير المتوقعة، التي مرت على مصر، وهو في الرئاسة يحاول ويجتهد من دون جدوى، خصوصاً الاعلان الدستوري المعيب جداً، المعروف بإعلان 21 نوفمبر 2012. آسف لاستخدام كلمة’المساخر’ في عهد الاسلاميين، ولكن ليس هناك ما هو أغلى من الحريات والدم، ولا أعز على النفس من الوطن، عندما تنهار فيه بعض القيم والمبادئ والثوابت، ويسير من دون رؤية واضحة.
أعتقد أن استقالة المستشار جاد الله من العمل بالرئاسة، أثبتت، أو على الأقل لمحت إلى ما ذكرناه وذكره غيري سابقاً من السير بمصر من دون رؤية، كالسائق الذي يسير بسيارته في طين ووحل في أيام الشتاء وقد لطخ الطين زجاج سيارته الأمامي، أو كالأعمى الذي يصر على أن يقود السيارة فيصطدم في أول عامود أو يتعثر مع أول مطب، وما أكثر المطبات في حياة المصريين قبل الثورة وهو أمر كان متوقعاً، وما أكثرها أيضاً بعد الثورة، وهو ما لم يتوقعه أحد، حتى أقرب المستشارين إلى الرئيس مرسي، أقصد المستشار جاد الله. بالتأكيد الأسباب التي ذكرها المستشار المستقيل، ليست أسباباً كيدية ضد مرسي ولا حزب الحرية والعدالة ولا الإخوان المسلمين، وليس عن زهد في العمل في الرئاسة، ولا الرغبة في المعاش المبكر، ولا يمكن أن يقال إن المستشار صار بلطجياً أو واحدا من الفلول، بعد أن كان ثورياً معروفاً وقف في التحرير طيلة أيام الثورة، كما قال من شاهده.
ولا يمكن أن يقال إنه انقلب ضد الثورة في يوم وليلة، إنما للأسف قد تصدر إيضاحات أو إشارات ضده- من هنا وهناك- باتهامات أخرى أهمها تأخره في الاستقالة، والله وحده أعلم بما في الصدور والأدراج المغلقة، وكل له اجتهاده حسب علمه وخبرته.
قدم المستشار جاد الله استقالته وقد قسمها الى قسمين، قسم الأسباب وراء الاستقالة وكشف حساب أو تبرئة ذمته عن مدة عمله بالرئاسة. ونحن يعنينا هنا ما جاء في أسباب الاستقالة. وثيقة الاستقالة بأسبابها السبعة ـ في ظني- يجب أن تكون محل دراسة من الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية كلها، لتعرف أسباب الفشل عندما يأتون إلى الحكم، ويعرفون مواضع الخلل القاتل التي تصيب حتى أهل الثوابت الإسلامية عندما يعتلون كراسي السلطة، كما يجب أن تكون موضع دراسة من المعارضة في مصر لتفادي أسباب الفشل إذا كانوا جديرين بثقة الشعب، وحتى يدركوا ويعملوا على تطوير بعض أسباب النجاح إذا جاءوا إلى الحكم والسلطة.
الأسباب الستة الأولى في الاستقالة أسباب يجب أن تدفع جميع من في الرئاسة من المسؤولين، بمن في ذلك الرئيس نفسه والمستشارين والوزراء بمن فيهم رئيسهم إلى الاستقالة فوراً، والسعي إلى أن يملأ تلك الكراسي من هم أهل لها، ومن الكفاءة والخبرة من يستطيع أن يدفع عجلة البلاد إلى الأمام أو على الأقل أن يوقف تدهورها. تتلخص أسباب الاستقالة في الاصرار على مجموعة من أخطر أسباب الفشل، وكأنه مقصود لذاته لتوجيه ضربة قاضية إلى الوطن العزيز، وكذلك مشروع الدعوة الإسلامية الذي حمله الإخوان المسلمون أكثر من ثمانين عاماً وانتظره كثيرون، بعد أن فقدوه في أفغانستان والعراق والصومال والسودان، وتمنوا أن يجدوه في مصر مع الإسلاميين، حيث نشأت دعوة الإخوان المسلمين وترعرعت، ومنها انتشرت إلى بقية الدول، بل العالم كله حتى في الأدغال والفيافي والنجوع والكفور. فالفكر يسير كما يسير السحاب، ويسري كما يسري الماء في البحار والمحيطات.
كان السبب الأول صادماً، وهو الكشف عن عدم وجود رؤية واضحة لإدارة الدولة وبناء مصر المستقبل وتحقيق أهداف الثورة، وهو ما يعني التخبط، خصوصاً مع الاصرار على نهج الفشل الذي تنهار به الامبراطوريات والدول الكبرى، فما بالك بالدول التي تعرضت لرؤية من كانوا كنزاً استراتيجياً لاسرائيل، قبل الثورة قامت على الظلم والديكتاتورية والفساد والتجريف والتخلف لمدة ثلاثين سنة على الأقل، فكيف نسير بلا رؤية اليوم أيضاً، وكان لابد من رؤية واضحة وصحيحة لتمحو آثار تلك السنون، ولكن من يفقد الاحساس بالثورة، يمكن أن يفقد الاحساس بأهمية الوطن، كما فقد الاحساس بأهمية الالتزام ببعض الثوابت من قبل.
وكان السبب الثاني وراء استقالة المستشار جاد الله، هو الاصرار على استمرار حكومة قنديل رغم فشلها. وهذا السبب مهم جداً كما جاء في الاستقالة، ولكن الأهم منه مع نفس السبب هو رفض دعم الحكومة. غريب جداً أن تصر الرئاسة وحدها أو من وراءها على أن تستمر حكومة قنديل رغم فشلها، وترفض في ذات الوقت أن تدعمها ولو بثلاثة نواب للرئيس أو لجان أو مؤسسات تتولى الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية، كما جاء في أسباب الاستقالة. رموا الحكومة في البحر وحذروها أن تبتل بالماء.
وقد كان السبب الثالث وراء الاستقالة، يكمن في محاولات اغتيال السلطة القضائية، والنيل من استقلالها والاعتراض على أحكامها، والفشل في حل مشكلة النائب العام أو إجراء حوار مجتمعي حقيقي يحقق مصلحة الوطن. المستشار جاد الله ليس هو عبدالمجيد محمود ولا الزند ولا عبدالمعز إبراهيم ولا تهاني الجبالي، وهو هنا لا يدافع عن أحد، بحيث يتهم اتهامات سخيفة، ولكنه قال ما قال احتراماً للقضاء والسلطة القضائية واستقلالهما، وهو من أهم عوامل ازدهار الحياة الديمقراطية التي لا تحيا بنتيجة الصناديق وحدها، ولا بأمنيات ولا بكلام الرؤساء. نحن نحترم القضاء، ولكن الاحترام ليس في الكلام بل في الاستقلال الحقيقي، وعدم الاعتراض على الأحكام، وعدم محاصرة المحاكم ولا منازل القضاة لإرهابهم.
أما السبب الرابع وراء الاستقالة، فيكمن في الاحتكار وأضراره ونتائجه، أياً كان ذلك الاحتكار، وخصوصا في المرحلة الانتقالية، احتكار صناعة القرار، احتكار الاضطلاع بالمسؤولية، رغم العجز الواضح عن أن يحملها كتف واحد، مما نتج عنه تهميش باقي المجتمع وإهمال أهل الكفاءة والثقة، كما أهملنا أيضاً موارد الدولة الوفيرة، ولا زلنا نمد أيدينا إلى الخارج لنتسول ما نقتات به، ونضع وطناً عزيزاً مثل مصر، تحت رحمة صندوق النقد الدولي. وأخشى أن ذلك سيؤدي إلى احتكار الفشل، وتبرئة الثورة المضادة التي تحملت كثيراً من الاتهامات بالحق والباطل أحياناً، وكثيراً من أسباب الفشل والعجز، وهو خلط سيئ وهروب من أمانة المسؤولية.
أما السبب الخامس، فهو يكشف عن عجز ونفاق. العجز يتمثل في أن جولات الحوار الوطني في الرئاسة لم تصل إلى أي حل لأي مشكلة أو تحديات ظاهرة أو باطنة، ولا يزال المجتمع منقسماً كما كان، بل ازدادت تلك الحالة سوءاً. لم يحدث التوافق السياسي ولا الاقتصادي ولا الأمني كما كان متوقعاً أو مأمولاً. أما النفاق فيتمثل في أولئك الذين هللوا- من دون وجه حق للحوار- مع الإعلاميين والسياسيين، مما يذكرنا بالحوار الوطني للحزب الوطني البائد، الذي كان يمنع منه الإخوان، هناك منع بالإرادة السياسية، وهناك منع أو امتناع عن المشاركة لعدم الثقة في الاعداد للحوار والترتيب له وضعف الثقة في القائمين عليه.
أما السبب السادس، فهو يدل على جريمة ارتكبتها الرئاسة والقائمون على الحكم والسلطة في حق الشباب والمستقبل، وهو يؤكد البون الشاسع بين ما تقوله الرئاسة في ذلك وما يقوله الرئيس نفسه، وبين الواقع الذي يلمسه الشعب اليوم وما عبّر عنه المستشار المستقيل جاد الله. يتمثل السبب السادس وراء الاستقالة في: عدم تمكين الشباب من ممارسة دورهم المحوري في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، وتعمد تهميشهم وإقصائهم.
قد يستغرب القارئ ما قلته في صدر هذه الفقرة من أن السبب السادس جريمة ارتكبتها الرئاسة والقائمون على الحكم والسلطة. ولعل القارئ قد تبين صحة ما أقول لأن تعمد تهميش الشباب ليس خطأ مثل بقية الأخطاء، ولكنه جريمة مكتملة الأركان. إذا جاء ذلك الوصف من مستشار قانوني ثوري إسلامي عمل في الرئاسة حوالي عشرة أشهر وبالقرب من الرئيس، ومن المفترض أنه لن يقول ذك بدون أدلة أو براهين. وربما كان المقصود بالشباب هنا هم شباب الثورة الشعبية الحضارية العظيمة. وأحد أركان هذه الجريمة، يكمن في أن القول من المسؤولين يخالف العمل والتطبيق على الأرض. أما السبب السابع في ظني فهو نشاز عن مجموعة الأسباب الستة السابقة، لأنه يتعلق بطرف خارجي وقضية شائكة هي المذهبية، وهي العلاقة بين السنة والشيعة والخوف من التمدد الشيعي في مصر. ولو كان قد أشار إلى التطرف والعنف الذي لم يعالج أو الهيمنة الأمريكية لكان ذلك أيضاً مقبولاً. وأقول للمستشار جاد الله، تخوفك فوق العين والرأس، ولكن مذاهب أهل السنة والجماعة الأربعة على الأقل، لا ينبغي أن تشعر بالهلع من المذهب الاثنى عشري الوحيد، فمذاهب أهل السنة ليست من زجاج، والمذهب الاثنى عشري ليس من حديد.
وبصرف النظر عما قيل عن تلك الاستقالة، فقد كان المستشار جاد الله، مؤدباً ودقيقاً وشجاعاً في كثير من الحوارات التلفازية، واستطاع أن يضع يده من موقع الخبرة والدراية ومعرفة الواقع كما يقول الفقهاء، على موضع الألم وبقى العلاج.
والسؤال الأبرز هنا إذا لم تكن هناك رؤية واضحة لإدارة الدولة وبناء المستقبل وتحقيق أهداف الثورة، فكيف بمشروع أستاذية العالم؟
د. كمال الهلباوي، كاتب مصري