هل يدير مبارك السياسة الخارجية لمصر؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)

هل نبالغ إذا قلنا إن نسائم الربيع التي هبت على مصر بعد الثورة أنعشت حقا أجواء الداخل، لكنها لم تلامس بعد علاقاتها بالخارج؟ وهل يصح أن نقول إن المجلس العسكري يدير شؤون مصر الداخلية، وإن الرئيس السابق لا يزال يدير سياستها الخارجية؟

(1)

ربما جاز لنا بعد ستة أشهر من قيام الثورة أن نلقى بأسئلة من ذاك القبيل. صحيح أنه من المبكر للغاية أن نتساءل عما حققناه من أهداف (لاحظ أننا نتحدث عن «النسائم» وليس الربيع ذاته) لكن ذلك لا يمنعنا من التساؤل عن وجهة الثورة وآفاقها المتاحة حتى الآن على الأقل. صحيح أيضا أنه من الصعب في بعض الأحيان أن نفصل بين الداخل والخارج نظرا لتشابك الأنشطة بينهما. (فالتمويل الأميركي لبعض منظمات المجتمع المدني يستهدف التأثير في الداخل حقا، ولكنه موصول بقرار سياسي أميركي)، إلا أننا سنقيم مؤقتا فصلا تعسفيا بين المجالين لكي نحاول الإجابة عن السؤال المتقدم.

ليس خافيا على أحد أن الأبصار مشدودة إلى الداخل منذ انطلقت ثورة ٢٥ يناير بأحداثها المثيرة، الأمر الذي حجب عن كثيرين ليس فقط إمكانية متابعة ما يجرى من أحداث خارج مصر، ولكنه أيضا صرف الاهتمام عن مؤشرات السياسة الخارجية ومسار علاقات القاهرة بمحيطها القريب والبعيد. ولئن ظل بعضنا ينتقد انكفاء مصر على نفسها منذ تراجع دورها في ظل النظام السابق، إلا أن ذلك الانكفاء اقترن بعد الثورة بتراجع الاهتمام بالسياسة الخارجية المصرية ذاتها.

لن أختلف مع من يقول بأن مصر ليست معزولة عن محيطها، وأنها موجودة في العديد من الساحات على الصعيدين الدولي والإقليمي، لكني أضيف أن ذلك الحضور إذا لم يقترن بموقف مستقل وبرؤية إستراتيجية واضحة تنطلق من الالتزام بالمصالح العليا للوطن والأمة، فإنه يصبح عملا روتينيا لا يشكل إضافة تذكر. إن شئت فقل إن العبرة ليست بمجرد الحضور أو التحرك، لأن الأهم هو على أي أرض يقف الطرف الحاضر، وفي أي اتجاه يتم التحرك وأي مصلحة يتحراها ذلك التحرك؟

(2)

في ٢٧/٦ كان العنوان الرئيسي لصحيفة «روز اليوسف» كالتالي: العرابي: لا مساومة على أمن الخليج(الفارسي). وتحت العنوان ذكر الخبر المنشور أن السيد محمد العرابي وزير الخارجية صرح عقب أدائه اليمين الدستورية بأن أمن الدول الخليجية مسألة حيوية بالنسبة لمصر، وأنه لا تفريط ولا مساومة في أمن الخليج، ثم تحدث بعد ذلك عن استعادة مصر لدورها على مختلف الأصعدة.

بعد ذلك بأيام قليلة في (٤/٧) نشرت صحيفة «الأهرام» على صفحتها الأولى تصريحا للسيد العرابى قال فيه إن العلاقات المصرية لن تكون أبدا على حساب أمن واستقرار الدول الخليجية. وفي اليوم التالى مباشرة (٥/٧) نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» على صفحتها الأولى تصريحات منسوبة إلى السيد العرابي قال فيها إن مصر ترفض أي تدخل خارجي، وإن استقرار البحرين خط أحمر.

مضمون التصريح لم يكن جديدا. فهو يتكرر على ألسنة المسؤولين في الخارجية والرئاسة المصرية طوال الثلاثين سنة الماضية. طوال عهد مبارك وفي مرحلة السادات أيضا. لكن ما استوقفني فيه أمران أحدهما الإلحاح على الفكرة وتكرارها في أوقات متقاربة. والثاني أن الوزير ما برح يدق الأجراس محذرا من الوضع في الخليج. في حين التزم الصمت إزاء الإجراءات المتسارعة التي تتخذها السلطات الإسرائيلية للتوسع في الاستيطان وتهويد القدس، كما لم يتحدث عن انفصال الجنوب في السودان، أو قصف طائرات الناتو لليبيا، أو شبح الانفصال المخيم على اليمن، أو آثار الزلزال الذي ضرب سوريا، وغير ذلك من تجاوزات الخطوط الحمر التي يفترض أن تكون مقلقة لمصر ولها تأثيرها على أمنها القومي.

فسرت ذلك الإلحاح في تصريحات وزير الخارجية الجديد بأمرين، أولهما أنها محاولة إزالة آثار التصريحات التي أدلى بها الدكتور نبيل العربي الوزير الذي سبقه، وتحدث فيها عن تطبيع العلاقات مع إيران، أسوة بما هو حاصل دبلوماسيا بين الدول الخليجية ذاتها والجمهورية الإسلامية. وهى التصريحات التي أقلقت بعض الدول الخليجية ومنها من عبر عن قلقه بإشارات مسكونة بالغضب والعتاب، مس بعضها أوضاع العمالة المصرية في تلك الدول.

الأمر الثاني الذي فسرت به التصريحات أنها تبعث برسالة طمأنة تتجاوز منطقة، لتصل إلى من يهمه الأمر في واشنطن وغيرها خلاصتها أن السياسة الخارجية المصرية في ظل النظام الجديد لن تختلف عما كانت عليه في النظام القديم.

استوقفتني أيضا تصريحات وزير الخارجية الجديد بخصوص الوضع في لبنان في أعقاب إعلان لائحة الاتهام في قضية اغتيال الرئيس الحريري. فقد نقلت صحيفة «الأهرام» على لسانه في ٤/٧ قوله إن مصر حرصت على تحقيق العدالة (في لبنان) وعلى احترام عمل المحكمة الدولية، مشيرا إلى أن العدالة مطلب لكل لبناني وأنها الضمان الحقيقي للاستقرار في لبنان.

لم يكن الرجل محايدا. ذلك أنه تجاهل الوضع الاستثنائي للمحكمة الدولية التي أنشئت بقرار من مجلس الأمن، بعد رفض الولايات المتحدة اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية القائمة فعلا وامتناع واشنطن عن التوقيع على اتفاقيتها حتى لا يخضع جنودها للمحاسبة جراء ممارساتهم في أفغانستان والعراق.

وتجاهل أيضا عملية تسييس المحكمة والتحقيقات من البداية. كما تجاهل خبث التوقيت في إعلان قرار الاتهام متزامنا مع إتمام تشكيل الحكومة الجديدة وفي النهاية بدا وزير الخارجية مصطفا إلى جانب فريق ١٤ آذار الذي يقوده سعد الحريري وتقف وراءه الولايات المتحدة والدول الغربية وإسرائيل ومعها دول «الاعتدال» العربي. وهو ذات الموقف الذي التزمت به السياسة الخارجية المصرية طوال عهد الرئيس السابق.

نظرت بعد ذلك إلى الحاصل في معبر رفح، الذي لم يختلف كثيرا بعد الثورة عما كانت عليه الأوضاع قبل ٢٥ يناير. فالقيود ذاتها مفروضة على العابرين، حيث قوائم الحظر ما زالت كما هى. ومحدودية أعداد المسموح لهم بالعبور لم يطرأ عليها أي تعديل. كما أن المعاملة السيئة للفلسطينيين العابرين ظلت كما كانت من قبل. وكأن شيئا لم يتغير في مصر.

(3)

في المشاهد الثلاثة رأيت سياسة مبارك لا تزال مطبقة بحذافيرها. وإذا سألتني لماذا القياس على تلك المشاهد دون غيرها، فردي أنني اعتمدت عليها لأنها من نماذج مناطق التماس مع الإستراتيجيات الغربية في المنطقة. الأمر الذي يضفي حساسية خاصة على الملفات الثلاثة الفلسطيني واللبناني والإيراني، وكلها موصولة بالمصالح الإسرائيلية بطبيعة الحال.

وهو ما يدفعني إلى القول بأن كيفية التعامل مع تلك الملفات تعد معيارا لقياس درجة استقلال القرار السياسي المصري، ومؤشرا على مدى انخراط مصر فيما أطلق عليه معسكر الاعتدال العربي، الذي ترعاه الولايات المتحدة وإسرائيل.

لست واثقا من دقة معلومات الصحافة الألمانية التي تحدثت عن غرفة عمليات مشتركة أميركية إسرائيلية تتابع على مدار الساعة ما يجرى في مصر منذ قامت الثورة، لكن ما أفهمه أنه إذا كانت الدولتان قد اضطرتا للقبول بخلع الرئيس السابق، إلا أنهما تعتبران أن استمرار سياسته في الشأن الخارجي أمرٌ يخصهما، ولا يحتمل المساس والتقاطع.

وما أعرفه أنهما تمارسان ضغوطا بوسائل شتى لضمان استمرار تلك السياسة في العديد من المجالات، حتى إن واشنطن استخدمت تلك الضغوط لتقييد المرور من معبر رفح بعد إطلاقه لعدة أيام. وكان لها ما أرادت.

في ضوء ذلك التحليل فإننا نستطيع أن نفهم لماذا قوبلت تصريحات الدكتور نبيل العربي بالفتور والاستياء، حين تحدث عن فتح معبر رفح، وطالب إسرائيل بتنفيذ التزاماتها في اتفاقية السلام، ودعا إلى التعامل بندِّية مع الولايات المتحدة وإلى تطبيع العلاقات مع إيران. ولماذا استقبلت دوائر عدة انتقاله من الخارجية المصرية إلى أمانة الجامعة العربية بدرجات متفاوتة من الترحيب والارتياح؟ ذلك أنه في الحسابات الإستراتيجية فإن منصب وزير خارجية مصر، إذا كان من نوعية الدكتور نبيل العربي، يظل أكثر حساسية وأهمية من أمين الجامعة العربية.

فالرجل في منصبه الأول يمكن أن يجعل من مصر رافعة للعالم العربي بأسره (إذا كان معبرا عن سياسة النظام بطبيعة الحال)، في حين أنه في منصبه الثاني يقود عربة معطوبة فاقدة القدرة على الحركة.

إن حملة تقزيم مصر التي توجت بتوقيع معاهدة كامب ديفد كانت أهم مكسب إقليمي حققته الولايات المتحدة وإسرائيل في نصف القرن الأخير. والدولتان حريصتان على الاحتفاظ بتلك الجائزة وليستا على استعداد للتفريط فيها تحت أي ظرف. ولا تنس أن مبارك وصف في إسرائيل بأنه «كنز إستراتيجي» احتفاء بسياسته بالدرجة الأولى. الأمر الذي يصور لك الجهد الذي يمكن أن تبذله والضغوط التي تمارسها لاستمرار تلك السياسة والحفاظ على «الكنز».

(4)

إن شعار الكرامة الذي رفعته ثورة ٢٥ يناير لا يخص المواطنين وحدهم، ولكنه يشمل الوطن أيضا. وهو ما يفترض أن تعبر عنه سياسات الخارج بقدر ما يتعين أن تلتزم به سياسات الداخل. وإذ لا زلنا نخوض معركة الدفاع عن الكرامة في الداخل في الوقت الراهن، فإنني أزعم أن الدفاع عن كرامة الوطن أطول وأكثر شراسة، وبغير خوضها وكسبها يظل البلد مَهِيضَ الجناح ومنقوص الكرامة.

لقد أهدر النظام السابق كرامة المواطن حين أذله وأفقره. كما أنه فرط في كرامة الوطن حين أفقده عافيته وألحقه بقطار التبعية وفرض على مصر تحالفا إستراتيجيا مهينا مع عدوها الإستراتيجي، كما قيل بحق. وإذا كانت لدينا مشكلة مع فلول النظام السابق، فمشكلتنا أكبر مع رعاة ذلك النظام. والأخيرون أخطر وأخبث بما يملكون من أسباب القوة وبما يمارسونه من ضغوط غير منظورة.

صحيح أنه من الطبيعي أن تحتل الأولوية معركة الدفاع عن كرامة المواطن، إلا أننا ينبغي أن نكون على وعي كافٍ باستحقاقات الدفاع عن كرامة الوطن. في هذا الصدد يتعين الانتباه إلى أن القوى الأجنبية الضاغطة لا تريد لمصر ديمقراطية حقيقية تفرز حكومة وطنية تعبر عن ضمير الشعب وأشواقه. لكنها تريد لنا ديمقراطية منقوصة تتحرك تحت سقف المصالح الغربية والمخططات الإسرائيلية.

وهى راضية بالحاصل في مصر الآن، حتى إن الولايات المتحدة اعتمدت مبلغ ١٥٠ مليون دولار لدعم الديمقراطية التي تنشدها. ولن تتمكن مصر من مواجهة تلك الضغوط إلا إذا توافرت للمجتمع درجة من العافية تمكنه من مقاومة كل ما من شأنه المساس بكرامة البلد وتهديد مصالحه العليا.

وهذه العافية لا تتوافر إلا في ظل إرادة مستقلة وحياة سياسية نظيفة. ومجتمع قوي بمؤسساته وخلاياه الحية التي تتحرك في إطار مشروع وطني يستلهم حلم النهضة وينطلق من قيم العدل والحرية والمساواة، مستهدفا الحفاظ على كرامة المواطن وعزة الوطن وإذا ما خطونا الخطوة الأولى في هذا الطريق فستكون تلك علامة على السقوط النهائي لنظام مبارك.

قراءة 2347 مرة