Print this page

المبعث النبوي المبارك (27 / رجب / لأربعين خلت من عام الفيل)

قيم هذا المقال
(0 صوت)
المبعث النبوي المبارك (27 / رجب / لأربعين خلت من عام الفيل)

اليوم 27 من رجب كان بعثة النبي (ص) وهبوط جبرئيل بالرسالة على أشهر الأقوال([1]) ومن الأعمال الواردة في هذا اليوم العظيم، الغسل، الصيام،زيارة النبي وزيارة أمير المؤمنين(عليهما السلام) وغيرها من الأعمال يمكنك مراجعة مفاتيح الجنان للإطلاع عليها.

وقد اختلف علماء المسلمين في اليوم والشهر الذي وقع فيه المبعث النبوي على أقوال خمسة ذكرها المجلسي في بحار الأنوار، ومنشأ الاختلاف، الخلط بين مبدأ حدث النبوة، ومبدأ نزول القرآن؛ إذ مما لا يمكن التشكيك فيه أن نزول القرآن على قلب النبي(ص)  كان في ليلة القدر في شهر رمضان، قال تعالى:«  إِنّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مّبَارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرِينَ»([2])، وقال: «شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»   ([3])، وقال:« إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»  ([4]). ومع هذه البديهة، اتفقت كلمة الإمامية على أن مبعث النبي(ص)  في السابع والعشرين من رجب، مع أن النبي(ص)  إنما بُعث بالقرآن، إذ ترافق مع بعثته نزول بعض الآيات من سورة (اقرأ) كما هو المشهور بين المفسرين، وعليه فكيف يمكننا التوفيق بين ذينك الأمرين؟!

ذكر المحققون وجوهاً للتوفيق بين المبعث في رجب، وبدء نزول القرآن في شهر رمضان، ارتقت بعد ذلك إلى مستوى النظريات التي لها أصحابها ومتبنيها وإليك أشهرها:

نظرية النزولين:

ذهب جماعة من أرباب الحديث إلى أن القرآن الكريم نزل في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الرابعة، أي البيت المعمور - كما ورد في روايات الخاصة - أو إلى بيت العزة - كما ورد في روايات العامة - وبعد ذلك بدأ نزوله في (27 رجب) على رسول الله(ص)  حسب المناسبات، طول عشرين أو ثلاثة وعشرين عاماً.

قال الشيخ الصدوق: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر جملة واحدة إلى البيت المعمور، في السماء الرابعة، ثم نزل من البيت المعمور في مدة عشرين سنة، وأن الله أعطى نبيه العلم جملة واحدة، ثم قال له:  «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ»   ([5])([6]).

وقال المجلسي تعقيباً عليه: Sقد دلت الآيات على نزول القرآن ليلة القدر، والظاهر نزوله جميعاً فيها، ودلت الآثار والأخبار على نزول القرآن في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة. وورد في بعض الروايات أن القرآن نزل في أول ليلة من شهر رمضان، ودلّ بعضها على أن ابتداء نزوله في المبعث، فيجمع بينها بأن في ليلة القدر نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الرابعة (البيت المعمور) لينزل من السماء الرابعة إلى الأرض تدريجاً. ونزل في أول ليلة من شهر رمضان جملة القرآن على النبي (ص)  ليعلمه هو، ولا يتلوه على الناس، ثم ابتدأ نزوله آية آية وسورة سورة في المبعث أو غيره ليتلوه على الناس([7]).

واستدلّ على هذه النظرية بجملة من الروايات، منها - ما رواه المفضل بن عمر عن الصادق(ع) قال: Sيا مفضّل، إن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة، والله يقول:«  شهر رمضان الذي أُنْزِلَ فيهِ القُرآن» ([8])، وقال: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ»([9])، وقال: «لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ»  ([10]).

قال المفضل: يا مولاي فهذا تنزيله الذي ذكره الله في كتابه، فكيف ظهر الوحي في ثلاث وعشرين سنة.

قال (ع): Sنعم يا مفضّل، أعطاه الله القرآن في شهر رمضان، وكان لا يبلّغه إلاّ في وقت استحقاق الخطاب، ولا يؤديه إلاّ في وقت أمر ونهي، فهبط جبرئيل بالوحي، فبلّغ ما يؤمر به، وقوله:«  لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ»  ([11]).

ومنها ما رواه العياشي عن إبراهيم أنه سأل الصادق(ع)  عن قوله تعالى:«  شهر رمضان الذي أُنْزِلَ فيهِ القُرآن»   ([12])، كيف أنزل فيه القران، وإنما أنزل القرآن في طول عشرين سنة من أوله إلى آخره؟! فقال A: Sنزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثم أنزل من البيت المعمور في طول عشرين سنةR([13]).

وهذه النظرية هي المشهورة بين المحققين وقد اختارها الصدوق والمجلسي والعلامة الطباطبائي في (الميزان)([14])، والطبري في (تفسيره)([15])، والسيوطي في (إتقانه)([16])، كما هو مروي عن عطية الأسود عن ابن عباس، وأسند إلى جابر بن عبد الله الأنصاري([17])، وغيرهم.

بماذا بعث النبي محمد(ص) ([18])

بعث الله تعالى نبيّه محمّداً(ص)  على حين فترة من الرسل خاتماً للنبيين وناسخاً لشرائع من كان قبله من المرسلين إلى الناس كافة أسودهم وأبيضهم عربيهم وعجميهم وقد ملئت الأرض من مشرقها إلى مغربها بالخرافات والسخافات والبدع والقبائح وعبادة الأوثان.

فقام(ص)  في وجه العالم كافة ودعا إلى الإيمان بإله واحد خالق رازق مالك لكل أمر، بيده النفع والضر، لم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ولم يتخذ صاحبة، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

بعثه آمراً بعبادته وحده لا شريك له مبطلاً عبادة الأصنام والأوثان التي لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تسمع ولا تدفع عن أنفسها ولا عن غيرها ضراً ولا ضيماً، متمماً لمكارم الأخلاق حاثاً على محاسن الصفات آمراً بكل حسن ناهياً عن كل قبيح.

 سهولة الشريعة الإسلامية وسماحتها

واكتفى من الناس بأن يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا شهر رمضان ويحجوا البيت ويلتزموا بأحكام الاسلام. وكان قول هاتين الكلمتين ( لا إله إلاّ الله، محمد رسول الله ) يكفي لأن يكون لقائله ما للمسلمين وعليه ما عليهم.

 سمو التعاليم الإسلامية

وبعث بالمساواة في الحقوق بين جميع الخلق، وأنّ أحداً ليس خيراً من أحد إلا بالتقوى. وبالاُخوّة بين جميع المؤمنين وبالكفاءة بينهم: تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وبالعفو العام عمن دخل في الاسلام.

وسنّ شريعة باهرة وقانوناً عادلاً تلقّاه عن الله تعالى فكان هذا القانون جامعاً لأحكام عباداتهم ومعاملاتهم وما يحتاجونه في معاشهم ومعادهم وكان عبادياً اجتماعياً سياسياً أخلاقياً لا يشذّ عنه شيء مما يمكن وقوعه في حياة البشر مستقبلاً ويحتاج اليه بنو آدم، فما من واقعة تقع ولا حادثة تحدث إلاّ ولها فى الشريعة الإسلامية أصل مسلّم عند المسلمين ترجع اليه.

على أن العبادات في الدين الاسلامي لا تتمحض لمجرد العبادة ففيها منافع بدنية واجتماعية وسياسية فالطهارة تفيد النظافة، وفي الصلاة رياضة روحية وبدنية، وفي صلاة الجماعة والحج فوائد اجتماعية وسياسية ظاهرة، وفي الصوم فوائد صحية لا تنكر، والاحاطة بفوائد الاحكام الإسلامية الظاهرة فضلاً عن الخفية أمر متعذّر أو عسير.

ولما في هذا الدين من محاسن وموافقة أحكامه للعقول وسهولتها وسماحتها ورفع الحرج فيه والاكتفاء بإظهار الشهادتين ولما في تعاليمه من السمو والحزم والجد دخل الناس فيه افواجاً وساد أهله على أعظم ممالك الأرض واخترق نوره شرق الارض وغربها ودخل جميع أقاليمها وأقطارها تحت لوائه ودانت به الأمم على اختلاف عناصرها ولغاتها.

ولم يمض زمن قليل حتى أصبح ذلك الرجل الذي خرج من مكة مستخفياً وأصحابه يعذّبون ويستذلون ويفتنون عن دينهم ، يعتصمون تارة بالخروج إلى الحبشة مستخفين واُخرى بالخروج الى المدينة متسللين، يدخل مكة بأصحابه هؤلاء في عمرة القضاء ظاهراً لا يستطيعون دفعه ولا منعه ولم تمض إلاّ مدة قليلة حتى دخل مكة فاتحاً لها وسيطر على أهلها من دون أن تراق محجمة دم بل ولا قطرة دم فدخلوا في الاسلام طوعاً وكرهاً وتوافدت عليه رؤساء العرب ملقيةً إليه عنان طاعتها وكان من قبل هذا الفتح بلغ من القوة أن بعث برسله وسفرائه إلى ملوك الأرض مثل كسرى وقيصر ومن دونهما ودعاهم إلى الاسلام وغزا بلاد قيصر مع بُعد الشقة وظهر دينه على الدين كله كما وعده ربه حسبما صرّح تعالى بذلك في سورة النصر، والفتح وغيرهما وكما تخبرنا بذلك كتب التاريخ.

ولم يقم هذا الدين بالسيف والقهر كما يصوّره من يريد الوقيعة فيه بل كما أمر الله تعالى:« ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ»  ([19]) ولم يحارب أهل مكة وسائر العرب حتى حاربوه وأرادوا قتله واخرجوه، وأقر أهل الاديان التي نزلت بها الكتب السماوية على أديانهم ولم يجبرهم على الدخول في الاسلام.

القرآن الكريم

وانزل الله تعالى على نبيّه حين بعثه بالنبوّة قرآناً عربيّاً مبيّناً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد أعجز النبي(ص)  به البلغاء وأخرس الفصحاء وتحدّاهم فيه فلم يستطيعوا معارضته وهم أفصح العرب بل واليهم تنتهي الفصاحة والبلاغة، وقد حوى هذا الكتاب العزيز المنزل من لدن حكيم عليم من أحكام الدين وأخبار الماضين وتهذيب الاخلاق والأمر بالعدل والنهي عن الظلم وتبيان كل شيء ما جعله يختلف عن كل الكتب حتّى المنزّلة منها وهو ما يزال يتلى على كر الدهور ومر الأيام وهو غض طري يحيّر ببيانه العقول ولا تملّه الطباع مهما تكررت تلاوته وتقادم عهده، وقد كان القرآن الكريم معجزة فيما أبدع من ثورة علمية وثقافية في ظلمات الجاهلية الجهلاء وقد أرسى قواعد نهضته على منهج علمي قويم، فحثّ على العلم وجعله العامل الأوّل لتسامي الانسان نحو الكمال اللائق به وحثّ على التفكير والتعقّل والتجربة والبحث عن ظواهر الطبيعة والتعمق فيها لاكتشاف قوانينها وسننها وأوجب تعلّم كل علم تتوقف عليه الحياة الاجتماعية للانسان واهتم بالعلوم النظرية من كلام وفلسفة وتاريخ وفقه وأخلاق، ونهى عن التقليد واتباع الظن وأرسى قواعد التمسك بالبرهان، وحثّ القرآن على السعي والجد والتسابق في الخيرات ونهى عن البطالة والكسل ودعا إلى الوحدة ونبذ الفرقة. وشجب العنصرية والتعصبات القبلية الجاهلية.

وأقرّ الإسلام العدل كأساس في الخلق والتكوين والتشريع والمسؤولية وفي الجزاء والمكافأة ، وهو أوّل من نادى بحق المساواة بين أبناء الإنسان أمام قانون الله وشريعته وأدان الطبقية والتمييز العنصري وجعل ملاك التفاضل عند الله أمراً معنويّاً هو التقوى والاستباق إلى الخيرات، من دون أن يجعل هذا التفاضل سبباً للتمايز الطبقي بين أبناء المجتمع البشري.

وبالغ الإسلام في حفظ الأمن والمحافظة على الأموال والدماء والأعراض وفرض العقوبات الشديدة على سلب الأمن بعد أن شيّد الأرضية اللازمة لاستقرار الأمن والعدل وجعل العقوبة آخر دواء لعلاج هذه الأمراض الاجتماعية بنحو ينسجم مع الحرية التي شرّعها للإنسان. ومن هنا كان القضاء في الشريعة الإسلامية مرتكزاً على إقرار العدل والأمن وإحقاق الحقوق المشروعة مع كل الضمانات اللازمة لذلك. واعتنى الإسلام بحفظ الصحة والسلامة البدنية والنفسية غاية الاعتناء وجعل تشريعاته كلها منسجمة مع هذا الأصل المهم في الحياة.

 

([1]) راجع بحار الأنوار 18: 190.

([2]) الدخان: الآية 3.

([3]) البقرة: الآية 185.

([4]) القدر: الآية 1.

([5]) طه: الآية 114.

([6]) الاعتقادات للصدوق: 101.

([7]) بحار الأنوار 18: 253-254.

([8]) القيامة: الآية 16.

([9]) الدخان: الآيتين 3-4.

([10]) الفرقان: الآية 32.

([11]) بحار الأنوار 89: 38.

([12]) القيامة: الآية 16.

([13]) تفسير العياشي 1: 80/184.

([14]) راجع تفسير الميزان، تفسير سورة القدر.

([15]) تفسير الطبري 2: 84-85.

([16]) الإتقان في علوم القرآن 1: 39- 40.

([17]) نقله عنهما الطبري 2: 84- 85.

([18]) تجد هذا البحث في سيرة النبي n للسيد محسن الأمين العاملي في كتابه أعيان الشيعة.

([19]) النحل: الآية 125.

قراءة 4529 مرة