شهادة الإمام علي الرضا (ع)([1]) (على رواية الطبـرسي وابن الأثير)(29/ صفر /السنة 203هـ)
إنّ من يقرأ سيرة الإمام الرضا(ع) يلفت نظره قصة ولاية العهد التي أسندت إليه من قبل المأمون، وقد ابتلي الإمام ابتلاءاً شديداً في فرض ولاية العهد عليه من قبله، فقد ضيّق عليه المأمون غاية التضييق، بحيث سئم الإمام الحياة، وراح يدعو اللّه تعالى أن ينقله إلى دار الخلود قائلاً: «اللهم إن كان فرجي مما أنا فيه بالموت فعجّل لي الساعة...»([2])،
وما اكتفى المأمون بالتضييق على الإمام (ع) ، بل كان يترصّد الفرصة المناسبة ليقضي عليه كما قضى من قبل على وزيره فضل بن سهل لمّا أحسّ بالخطر منه على خلافته، ولذا لم يتمكن من إضمار ما في نفسه من حقد على الإمام (ع) وأخذ يغتنم الفرص ليتخلص من
الإمام (ع) ، ولو اقتضى ذلك أن يقتله بيده الغادرة، وقد فعل ذلك حيث ذكر معظم المؤرخون والرواة أن المأمون هو الذي دسّ السّم في العنب أو الرّمان إلى الإمام في قرية يقال لها: سناباد من قرى طوس، في آخر صفر سنة (203هـ)([3])، وأخفى المأمون موت
الإمام (ع) يوماً وليلة، وبعد ذلك شُيّع جثمان الإمام تشييعاً حافلاً لم تشهد مثله خراسان في جميع أدوار تاريخها، وجيء بالجثمان الطاهر فحفر له قبر بالقرب من قبر هارون الرشيد([4])، وواراه المأمون فيه، ويقال إنّه أقام عند قبره الشريف ثلاثة أيام، في محاولة منه لرفع التهم عنه في قضية قتل الإمام وإظهار إخلاصه وحبه له.
سبب دفن الإمام إلى جانب قبـر هارون العباسي:
قد يسأل سائل عن السبب في دفن الإمام بقرب هارون مع ما هو معروف عن هارون من حقده على العلويين من أهل البيت، وقد سئل المأمون عن ذلك فأجاب: ليغفر الله لهارون بجواره للإمام الرضا(ع) ، وقد فنّد ذلك شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي بقوله:
أربع بطوس على قبر الزّكيّ بها |
|
إن كنت تربع من دين على وطر |
قيل: فضرب المأمون بعمامته الأرض وقال: «صدقت واللّه يا دعبل».
وحيث وصل الحديث بنا إلى دعبل الخزاعي، فالجدير بنا أن نذكر علاقته مع
الإمام (ع) ، ثم نذكر مقتطفات من قصيدته التائية المعروفة التي نظمها في مدح ورثاء
أهل البيت(ع)، والإمام الرضا(ع) .
الإمام الرضا(ع) والشاعر دعبل الخزاعي:
كان الإمام الرضا(ع) يشجّع الشعراء الرساليين المحبين لأهل البيت عليهم السلام على نظم الشعر من أجل نشر فضائل أهل البيت عليهم السلام ودورهم العلمي والقيادي في الأمة، وتبيان مظلوميتهم على مرّ التاريخ، لأنَّ الشعر كان خير وسيلة إعلامية في ذلك العصر، لسرعة انتشاره وسهولة حفظه وإنشائه.
ومن أولئك الشعراء الرساليين الذين نذروا حياتهم وشعرهم لخدمة أهل البيت عليهم السلام ، دعبل الخزاعي الذي كان لأشعاره أكبر الأثر في نشر فضائل أهل البيت عليهم السلام ، ولا سيما قصيدته التائية التي صارت لقوة سبكها وسلاسة أسلوبها تتلى على كل لسان عبر التاريخ ولهذه القضية قصة نوردها بالتفصيل
دخل دعبل على الإمام الرضا(ع) بمرو - بعد البيعة بولاية الإمام - فقال له: يا ابن رسول اللّه إني أنشدتُ فيكم قصيدة وآليت على نفسي ألا أنشدها أحداً قبلك، فقال له الإمام (ع) : هاتها يا دعبل.
فأنشده إياها وفيها استعراض للوقائع التي مرت على أهل البيت من حين وفاة النبي(ص) مروراً بأحداث السقيفه، وموقف المسلمين من الخلافة، وما جرى على أهل البيت خلال العهدين الأموي والعباسي، والخصائص التي حباهم اللّه بها، ثم ختم القصيدة بخروج الإمام العادل الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وقد تأثّر الإمام بهذه القصيدة وأخذ يبكي ويقول: صدقت يا دعبل.
ولما فرغ دعبل من إنشاد القصيدة التائية المعروفة، قام الإمام الرضا(ع) وأنفذ إليه صرّة فيها مئة دينار([5])، وقيل عشرة آلاف درهم من الدّراهم التي ضربت بإسمه، فردّها دعبل وقال: واللّه ما لهذا جئت، وإنما جئت للسلام عليك والتبرك بالنظر إلى وجهك الميمون وإني لفي غنى، فإن رأى أن يعطينى شيئاً من ثيابه للتبرك فهو أحب إليّ، فأعطاه الإمام (ع) جبة خزّ وردّ عليه الصرة([6])، وانصرف دعبل.
وينبغي هنا أن نذكر على سبيل الاختصار مقتطفات من تلك القصيدة التائية الرائعة تبركاً وتوسلاً بأهل البيت، وبالإمام الرضا(ع) :
ذكرتُ محلّ الرَّبع([7]) من عرفات |
|
فأجريتُ دمع العين بالعبرات |
مدارس آيات خلت من تلاوة |
|
ومنزل وحي مقفر العرصات([8]) |
ديار علي والحسين وجعفر |
|
وحمزة والسجّاد ذي الثّفنات([9]) |
منازل كانت للصّلاة وللتقى |
|
وللصوم والتطهير والحسنات |
أفاطم لو خلت الحسين مجدّلاً |
|
وقد مات عطشاناً بشطّ فرات |
إذاً للطمت الخدّ فاطم عنده |
|
وأجريت دمع العين في الوجنات |
أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي |
|
نجوم سماوات بأرض فلاة |
قبور بكوفان وأخرى بطيبة |
|
وأخرى بفخ([10]) نالها صلواتِ |
وقبر بأرض الجوزجان محلّه |
|
و قبر بباخمرى([11]) لدى الغربات |
قبور بجنب النهر من أرض كربلاء |
|
معرّسهم فيها بشط فرات |
توفوا عطاشى بالعراء فليتني |
|
توفيت فيهم قبل حين وفاتي |
وقبر ببغداد لنفس زكية |
|
تضمّنها الرحمن في الغرفات([12]) |
ولما وصل دعبل إلى هذا البيت من القصيدة، قال له الإمام الرضا(ع) : أفلا أُلحق لك بيتين بهذا الموضع، بهما تمام قصيدتك؟ فقال: بلى يا ابن رسول اللّه.
فقال الرضا(ع) :
وقبـر بطوس([13]) يا لها من مصيبة |
|
ألحّت على الأحشاء بالزّفرات([14]) |
فقال دعبل: هذا القبر الذي بطوس قبر من؟
قال الرضا(ع) : «هو قبـري، ولا تنقضي الأيام والليالي حتى تصير طوس مختلف شيعتي وزوّاري، ألا فمن زارني في غربتي بطوس كان معي في درجتي يوم القيامة مغفوراً له»([15]).
([1]) نقلاً عن كتاب (لمحات من حياة الإمام الرضا(ع) وأخته السيدة فاطمة المعصومة) أيوب الحائري.
([2]) عيون أخبار الرضا(ع) 2: 241.
([3]) اختلفت الأخبار في تعيين يوم شهادة الإمام الرضا(ع) ولكن المشهور والمعمول هو التاسع والعشرون من شهر صفر وهو المعمول به في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبعض الدول العربية.
([4]) خرج هارون الرشيد العباسي من بغداد متجهاً إلى خراسان لمقاتلة العلويين وفي طوس مرض ثم توفي ودفن في قرية سناباد في دار حميد بن قحطبة الطائي..
([7]) الربع: المكان الذي يتوقف به ويطمأن.
([9]) الثفنات: ما تقرن من الجلد، علامات في الجبهة من كثرة السجود.
([10]) فخ: موقع بمكة وقعت فيه حادثة فخ.
([11]) باخمرى: مكان بين الكوفة وواسط في العراق فيه قبر القاسم أخو الإمام الرضاA.
([13]) قد جاء في الحديث الشريف أن بين جبلي طوس لقبضة من تراب الجنة، وفيها قبر الإمام الرضاA.
([14]) الزّفرات: تتابع الأنفاس من شدة الغم والحزن.
([15]) عيون أخبار الرضاA 2: 295، ط ايران، منشورات الشريف الرضي.