لماذا نستعید ذكرى الحسین(ع) فی كلّ عام؟!

قيم هذا المقال
(0 صوت)
لماذا نستعید ذكرى الحسین(ع) فی كلّ عام؟!

فی أجواء (كربلاء)، لا بدَّ لنا من أن نقف، ولو وقفة قصیرة، أمام هذا الحدث المأساویّ والتاریخیّ، لنجیب عن بعضِ الأسئلة الّتی یتداولها الكثیرون من الناس، سواء ممن ینتمون إلى أهل البیت(ع)، أو ممن لا ینتمون إلیهم فكراً وخطّاً ومذهباً.

سبب إحیاء الذّكرى

 

هناك حدیث یتكرَّر فی كلِّ سنة: لماذا تستعیدون هذه الذّكرى الّتی مضى علیها مئات السنین؟ وهل إنَّ الحیاة، فی كلِّ تطوّراتها المأساویة، وفی كلِّ حركاتها الإصلاحیة، تخلو من مأساةٍ تستدرّ الدّموع، أو من حركة توحی للناس ببعض ما تتضمّنه تلك الذّكرى من خطوط فكریة أو إصلاحیة؟ لماذا تستعیدون هذه الذكرى التی ربما تثیر بعض الحساسیات فی الواقع الإسلامی، وقد تنتج أحقاداً جدیدة على أنقاض الأحقاد القدیمة، فی وقتٍ نحن بحاجة إلى أن ننـزع تلك الأحقاد من قلوبنا، وخصوصاً أن التحدّیات الكبرى التی تواجه الإسلام والمسلمین من جنود الكفر أو الاستكبار، كبیرةٌ جدّاً، وهی تفرض علینا أن ننسى كلّ الماضی بكلِّ تعقیداته أمام تحدّیات الحاضر؟ هذه أسئلة تدور فی مجتمعاتنا كلّ عام.

أمَّا مسألة إثارة ذكرى مأساة كربلاء، فالّذین عاشوا المأساة انتقلوا إلى رحمة الله، وكلّ الّذین صنعوا المأساة صاروا فی رحاب الآخرة، ولیست إثارتها فی الحاضر محاولةً للاقتصاص ممّن صنعوها، أو الانتصار لمن وقعت علیهم وحلّت بهم، ولكنّ لعاشوراء تمیّزها، وهی الذكرى التی قد لا نجد مأساةً مماثلة لها فی تنوّعاتها. تمیّزت عاشوراء، لأنّها ضمّت كلَّ نماذج الإنسان، فهناك الطّفل الرّضیع، وهناك الأطفال الذین لم یبلغوا الحلم، وهناك الشّباب فی تنوّعات أعمارهم، وهناك الشّیوخ فی سنّ السبعین والثّمانین والتّسعین، وهناك النساء فی مختلف ممیّزاتهن، من حیث الوعی، ومن حیث الشّجاعة، ومن حیث صلابة الموقف...

ولذلك، فإنَّنا نستطیع أن نقدِّم ـ من خلال إثارة ذكراها ـ لكلِّ مرحلة تاریخیّة، شخصیةً من هذه الشخصیات، حیث یمكن أن تحدّث الأطفال عن أطفال (كربلاء)، وما تمیَّزوا به من وعیٍ یتجاوز مرحلةَ الطّفولة، ویمكن أن تحدّث الشباب عن ثقافةٍ وصلابةٍ وحركیة وإیمان یتجاوز العمر الّذی كانوا فیه، ویمكن أن نقدّم ذلك للشّیوخ الذین یشعرون بأنهم وفّوا قسطهم للعلى، وأنهم لیسوا مسؤولین عن الدّخول فی ساحات الصّراع، ولا سیّما إذا كان الصراع صراعاً حادّاً فی ساحة الحرب، ویمكن أن نقدّم النساء فی تنوّعاتهن الفكریة والإیمانیة والروحیة، وفی شجاعة الموقف.

ولعلّ ما نشكو منه فی هذا المجال، أنّ الذین كتبوا السیرة الحسینیّة، لم ینقلوا إلینا إلا جانب المـأساة فی مواقف النّساء، وهنّ یبكین هنا، ویلطمن هناك، حتى إنّ إثارة المأساة أخذت الكثیر من صورة السیّدة زینب(ع)، مع أنّها كانت تمثّل الصلابة كلّها، وهی التی كانت إلى جانب الحسین(ع)؛ تدعمه، وتحاوره، وتعیش معه، وربما كانت تتشاور معه فی سیر المعركة، ولكنّ الذین یتحدثون عن السیرة، جعلوها مجرد نائحة تبكی وتلطم، تماماً كما لو كانت امرأة قبلیّة، تبكی أهلها. ولعلّ أكثر ذلك یبرز فی الشّعر الشعبیّ، الّذی ینطلق من ذهنیّة ناظمیه، ما قد لا یعكس الروحیّة الرسالیّة التی كانت تمثّلها السیّدة زینب(ع)، وغیرها من بطلات كربلاء.

شخصیّتان فریدتان

ثم إنّنا نجد فی عاشوراء شخصیّتین فی موقع العنفوان، والعظمة، والروحانیّة، والعلم، والحركة، والانفتاح على الواقع والعمق الإنسانی الثّوریّ، والانفتاح المطلق على الله تعالى، فهناك الحسین(ع)، الّذی إذا حدّقت فیه، رأیت بعضاً من ملامح رسول الله(ص)، فی ما عاشه فی طفولته مع رسول الله(ص)، وتجد فیه بعضاً من ملامح فاطمة الزّهراء(ع)، فی ما عاشه فی أحضانها من كلِّ انفتاحات القیم والروحانیّة والمسؤولیّة والشّجاعة، وتجد فیه علیّاً(ع)، فی كلِّ شموخ البطولة والشّجاعة، وفی كلِّ ما یتمثّل فیه من هذه الرحابة الفكریّة والثقافیّة، التی امتلأ بها فكر علیّ(ع)، وتجد فیه كلّ هذه الأخلاقیّة الرائعة فی انفتاح الحلم والخلق العظیم، فی ما عاشه مع الإمام الحسن(ع). وقد لا نجد شخصیة فی التاریخ، حملت كلّ هذه العناصر، وكلّ هذه الملامح؛ هناك ثوریّون قُتِلوا أو استشهدوا، وهناك شخصیّات حركیّة تحرّكت، ولكنّنا لن نقرأ فی التاریخ، بما فی ذلك التاریخ الإسلامی بعد رسول الله(ص) وعلیّ(ع)، شخصیّة فی مستوى شخصیّة الإمام الحسین(ع). لذلك، فإنّنا عندما نقدِّم الإمام الحسین(ع) فی (كربلاء)، بكلِّ هذه العناصر، فإنّنا نصنع مجداً للأمّة فی تاریخها الّذی ینفتح على حاضرها، ویتحرك فی صناعة مستقبلها. تجد هناك الحسین كوناً هائلاً فی العلم، وفی الروحانیّة، وفی الثّورة، وفی الأخلاق.

لذلك أقول: ربّما نكون قد ظلمنا الحسین(ع)، لأنّنا أخذنا منه جانب المأساة، واستغرقنا فی كلِّ جراحاته، وفی كلِّ آلامه، ونسینا الحسین(ع) الإمام، واقتصرنا على حسین الثّورة. وشخصیّة الحسین الثّائر، إنما هی من عمق إمامته، فإمامته أعطت للثّورة شرعیّتها، لأنَّ الثورة تحتاج إلى شرعیّةٍ فی كلِّ انطلاقتها وخلفیّتها، وما إلى ذلك. إنَّنا نرید أن نأخذ الحسین(ع) كلَّه، بمواعظه، وبوصایاه، وبأخلاقیّته، وبفقهه.

ثم نلتفت لنجد شخصیّة السیّدة زینب(ع)، الّتی امتلأت علماً، وارتفعت روحانیّةً، وعاشت شجاعة الموقف فی صبرها وصمودها، فی تحدّیها لكلِّ هؤلاء الّذین صنعوا المأساة؛ فی الكوفة عندما خاطبت ابن زیاد، وعندما خاطبت الجماهیر، وفی الشّام، عندما خاطبت الطاغیة یزید. إننا قد لا نجد امرأةً فی التاریخ الإسلامی، بعد الزّهراء(ع)، فی مستوى شخصیّة زینب(ع) فی كلّ هذه العناصر.

لذلك، فإنّ ذكرى عاشوراء تمثّل ذكرى تنفتح على كلِّ عناصر الشخصیّة المتنوّعة التی یمكن أن تقدّم مدرسةً لكلّ الأجیال فی تنوّعاتها البشریّة، مما قد لا تجده فی أیّة معركة أخرى. قد نجد هناك أناساً یسقطون فی مأساةٍ هنا وهناك، وقد واجهنا الكثیر من المآسی التی حدثت وتحدث فی فلسطین، أو فی العراق، أو فی إیران، وما إلى ذلك، ولكنّنا لا نجد مثل هذه العناصر المتنوّعة فی مواقفها، وفی إیحاءاتها، وفی وعیها، وفی إسلامیّتها، كما نجده فی (كربلاء). هذا من النّاحیة العامّة.

ولذلك، نحن بحاجة إلى كربلاء فی كلّ جیل، لتصنع كربلاء جمهورها فی كلِّ تنوعاته، ولتقدّم النّموذج الأمثل الَّذی یمكن أن یكون القدوة لكلّ الأجیال فی المستقبل.

الاحتجاج الأبدیّ

أمَّا إثارة المأساة؛ أن نبكی، وأن نحزن، فإنَّ المسألة لا تتّصل بالبكاء على ما حدث فی التاریخ، أو تتّصل بالدّموع الثوریّة ضدّ الّذین صنعوا المأساة، لتنطلق الدّموع الحارّة لتحرق هؤلاء، ولكن من أجل أن نتفاعل مع هذه المأساة، لنحتجّ علیها، حتى لو كانت فی التّاریخ ولا علاقة لها بالحاضر إلا من خلال هذه العاطفة الّتی تنفتح بنا على الَّذین عاشوا هذه المأساة، ولأننا إذا كنّا من الذین یرفضون المأساة فی التاریخ ضدَّ دعاة الحقّ، وضدَّ الأبریاء، فإنَّ ذلك یؤدّی إلى أن تكون عقیدة رفض المأساة متجذّرةً فی وجداننا، وفی نظرتنا إلى كلِّ حركة الصّراع، من أجل أن یتجدَّد رفض المأساة فی نفوسنا فی كلِّ مأساة الحاضر، وأن نمنع مأساة المستقبل. وعندما تقف موقف اللامبالاة أمام المأساة التاریخیّة، ولا سیّما إذا كانت شخصیّات هذه المأساة تمثّل قیمة روحیّة إنسانیّة، فإنّك قد تواجه اللامبالاة أمام مأساة الإنسان فی الحاضر، لأنَّك عندما تجمّد قلبك عن الخفقات الروحیَّة المتعاطفة مع الَّذین عاشوا المأساة، فإنَّ ذلك یحجّر قلبك. ولكن إذا كان قلبك ینبض ویخفق بالعاطفة للمأساة فی التّاریخ، ولا سیّما إذا كان هؤلاء یعیشون معك فی انفعالاتك الروحیّة، فإنّك بذلك تعیش الرّفض لكلّ الذین یصنعون المأساة فی الحاضر.

إنَّ الله تعالى قدّم لنا فرعون فی القرآن الكریم، لا لنستغرق فی شخصیّة فرعون التاریخیّة، ولكن لنأخذ هذا النّموذج نموذجاً لكلِّ الفراعنة، وقدّم لنا نبیّه موسى(ع)، لنأخذ منه نموذجاً لكلّ الَّذین یسیرون فی حركة الرّسالات وحركة النبوّات. قد یعیش إنسان كبیر فی التّاریخ، وینطلق فی غیابات الماضی، ولكنَّه یبقى نموذجاً وقدوةً، ولذلك قدَّم لنا القرآن الكریم المنهج الّذی من خلاله نتحرّك مع النبیّ محمّد(ص)، وهو منهج الاقتداء. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِی رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ یَرْجُو اللَّهَ وَالْیَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِیراً}[1].

إنّ تذكّرنا لمأساة (كربلاء)، یجعلنا نرفض مأساة الإنسان فی فلسطین، ومأساة الإنسان فی العراق، ومأساة الإنسان فی كلّ بلد یسقط أحراره وأبریاؤه تحت تأثیر الاستكبار العالمی. إنّ شعارات (كربلاء)، كقول الحسین(ع): "إلا وإنّ الدّعیّ ابن الدّعیّ، قد ركز بین اثنتین، بین السلّة والذلّة، وهیهات منّا الذلّة!"[2]، أو قوله: "لا والله، لا أُعطیكم بیدی إعطاء الذّلیل، ولا أقرّ لكم إقرار العبید"[3]، لیست شعارات المرحلة، بل هی شعارات للزّمن كلّه، وهی شعاراتٌ نعیش تجربتها أمام الاستكبار العالمی، الّذی یعمل على أن یُسقط كلَّ عنفواننا، وكلَّ حرّیتنا، وكلَّ استقلالنا، وكلّ عزَّتنا، وكلَّ كرامتنا.

إذاً، لنتذكّر فی عاشوراء، فی مدى الزّمن، كلَّ مستكبرٍ یرید أن نعطیه بأیدینا إعطاء الذّلیل، ویریدنا أن نوقّع على شروطه، أو أن نتنازل عن كلّ ما یریده منّا تحت عناوین مختلفة، لكنّ المسألة هی أن نعرف كیف نحرّك كربلاء، ولا نجعل كربلاء مناسبةً یستغرق الإنسان فیها بالبكاء، وإن كان للبكاء دوره، على طریقة ذلك الشّاعر الذی یقول:

تبكیك عینی لا لأجل مثوبة        لكنّما عینی لأجلك باكیة

إنّ البكاء عاطفة إنسانیّة لا یملك الإنسان أن یمسكها عندما یواجه المأساة، ولكنّ دور كربلاء هو أن نصنع الوعی للأمَّة، وأن نعرف كیف نواجه مشاكلها. والتفاعل بالحزن والبكاء، إنّما هو وسیلة من وسائل تجذیر ذلك الوعی وتلك القیم فی نفوسنا.

هدف الثّورة الإصلاح

إنَّ الحسین(ع) عندما انطلق، درس كلَّ واقع الأمَّة، ودرس شخصیّة الحاكم، وذلك عندما تحدّث مع أمیر المدینة، لیقول له: "إنّا أهل بیت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحی والتنزیل، بنا فتح الله، وبنا ختم الله، ویزید رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النّفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلی لا یبایع مثله"[4]، وقوله "مثلی"، لا ینطلق من خلال خصوصیة الحسین(ع)، بل إنّه یرید أن یقول: مثلی، أنا الذی ألتزم خطَّ الله ورسوله، أنا الذی ألتزم الإسلام، وأحمل مسؤولیّة الأمّة فی استقامتها، وفی تحقیق كلّ أهدافها على أساس الرّسالة. وكأنّ الحسین(ع) یقول للمسلمین: مثلكم فی كلّ تاریخ، وفی كلّ حاضر، وفی كلّ مستقبل، لا یبایع حاكماً مثل یزید، بل لا بدَّ من أن یبایع حاكماً یحمل رسالة الإسلام، كالحسین(ع). لم یكن الحسین(ع) یتحدَّث شخصیّاً، بل كان یتحدّث على أساس الصّورة الرسالیّة للحاكم.

ثم نقرأ فی كلمات الإمام الحسین(ع) عن بنی أمیَّة آنذاك: "واتّخذوا مال الله دولاً"؛ إنّه یتحدَّث عن الحاكم أو الحكّام الذین یتداولون بأیدیهم أموال الأمّة، الّتی هی أموال الله تعالى، التی جعل لها مصرفاً لكلِّ حاجات الأمَّة، ولم یرخّص لأحد أن یستغلّها، كما قال الإمام علیّ(ع): "لو كان المال لی لساویت بینهم، فكیف والمال مال الله؟!"[5]. ثم قال الحسین(ع): "وعباده خولاً"، أی أنّهم استعبدوا النّاس فی واقعة (الحرّة)، إذ كانت التّعلیمات لوالی المدینة أن یسترقَّ أهلها، وأن یستعبدهم.

تلك كانت العقلیّة والذهنیّة التی یعیشها أولئك الطّغاة والظّالمون. ولذلك، فإنّ الواقع السیاسی، والواقع الاجتماعی، والواقع الاقتصادی، وما إلى ذلك، مما كان فی زمن الإمام الحسین(ع)، هو الّذی دعاه(ع) إلى الثّورة لأجل إصلاحه، ولا بدّ لنا من أن ندرس كلّ ذلك، وأن نقارن بین ظروفنا فی ما یشبه تلك الأوضاع وظروف تلك المرحلة.

نحن لا نستغرق فی التّاریخ لنغیب عن الواقع، ولكنّنا نأخذ من التّاریخ الفكرة والعبرة والدّرس، وخصوصاً أنّ هناك خصوصیّة فی قیادة الحسین(ع)، الّتی تختلف عن أیّة قیادة إصلاحیَّة فی التاریخ، وهی أنّ الحسین(ع) إمام، والإمامة امتداد لحركة النبوّة، فهو یحمل الرسالة، ویتحرّك من أجل تأصیلها وتأكیدها، وتصحیح ما حاول الآخرون أن یغیّروه فیها، والإمامة عندما تتحدّث وتتحرك، فإنها لا تعیش فی مرحلتها، وإنما تتحدّث بالإسلام، وتطرح حركیّة الإسلام. ولذلك، فإنَّ الإمامة تمتدُّ فی امتداد الزّمن، وهكذا، فنحن عندما نتذكّر الإمام الحسین(ع)، فإنَّ الحسین(ع) لیس مجرَّد شخصیّة تاریخیّة، ولكنّه إمامنا، نأخذ من أحادیثه، ومن سیرته، ومن حركته، نأخذ منها شرعیّة كلّ ما نتحرّك به بشكل مماثل.

كربلاء إسلامیّة

أمّا ما یقولونه، من أنّ إثارة كربلاء تثیر الحساسیّات بین المسلمین، وتخلق المشاكل بین السُنّة والشیعة، ونحن فی غنىً عن ذلك؛ لأننا فی مرحلة تفرض على المسلمین أن یتّحدوا، وأن یتناسوا أحقاد التاریخ، فإننا نقول: إنَّ كربلاء فی مضمونها هی إسلامیّة، فالحسین(ع) هو الشخصیَّة التی یلتقی علیها كلُّ المسلمین، فكلُّ المسلمین بكلِّ مذاهبهم، وكلّ تراثهم، وكلّ صحاحهم، یتحدّثون عن أنّ الحسن والحسین(ع) هما سیّدا شباب أهل الجنَّة، وعن محبَّة الرّسول(ص) للحسین(ع)، وعن عناصر الشخصیّة الحسینیّة فی قیمتها الروحیّة والأخلاقیّة.

لذلك، فإنَّ الحسین(ع) فی الوجدان الإسلامیّ یمثِّل الشخصیّة التی تتركَّز عندها الوحدة الإسلامیّة، لأنَّ كلَّ المسلمین من سُنّة وشیعة، ینفتحون على الحسین(ع) ویحبّونه. أما یزید، فلیس شخصیَّة سنیّة، فالسُنّة لا یعظّمون یزید، ولا یحترمونه، ربما نجد بعضهم یحترم أباه، على أساس كونه صحابیّاً، أو خال المؤمنین ـ كما یقولون ـ أو من كتّاب الوحی، مما لا یُثبت له قیمة، ولكن یزید لیس شخصیّة سُنیّة إسلامیّة یتعصَّب لها المسلمون السُنّة. ولذلك، فإنّنا عندما نستحضر كلَّ ما یتمیّز به هذا الشخص من حقارة ووضاعة وفجور وتمرد على الله تعالى، فإننا نرى أنّ ذكره بهذه الطریقة، لا یمثّل مشكلة لدى المسلمین، سوى أنّ بعض الكتّاب بدأ یتحدث أخیراً بشكل إیجابی عن یزید، ولكنه مجرد حدیث لا یملك امتداداً فی الواقع الإسلامی. لذلك، فإنَّ إثارة كربلاء فی مضمونها الإسلامی، وفی مضمونها الروحی والحركی، من خلال شخصیّة الإمام الحسین(ع)، لا تمثّل مشكلة فی العلاقات بین السُنّة والشیعة، ولا تمثّل إساءة إلى الوحدة الإسلامیّة.

لنعش فكر زینب(ع)

وفی الختام، لا بدَّ من أن نستفید فی تربیتنا للمرأة المسلمة من موقف السیّدة زینب(ع)؛ هذه الإنسانة المثقّفة، العالمة، والقویّة، والشجاعة، والمتحدّیة، التی عاشت العاطفة، ولكنّ العاطفة لم تغلبها، حتى فی كربلاء، عن القیام بمسؤولیّتها، لأن زینب(ع) عاشت كلّ ما عاشه الحسین(ع)؛ عاشت روحانیّة أمّها، وعاشت عظمة أبیها وأخیها، ورافقت الإمام الحسین(ع). ولذلك، فإنَّ علینا ـ أیُّها الأحبّة ـ أن نفهم زینب(ع)، وأنا أزعم أنّنا لم نفهم زینب(ع). علینا أن نفهمها فی فكرها، وفی ثقافتها، وفی حركتها، وأن ندرس خطبتها فی مجلس یزید، وكلماتها فی مجلس ابن زیاد، فلعلّنا نجد فی زینب أمّها فاطمة الزّهراء(ع)، فی دفاعها عن الحقّ فی مسجد رسول الله(ص)، وفی وقوفها مع الشرعیّة، ومع الحسین(ع).

وبذلك، فإنّ (كربلاء) تمثّل هذه الحركة المشرقة التی انطلقت من أجل تجدید الإسلام، من خلال هذا الدّم الرّسالیّ الحارّ.. والسّلام على الحسین(ع)، وعلى علی بن الحسین(ع)، وعلى أولاد الحسین، وعلى أصحاب الحسین، سلاماً أبداً ما بقیت وبقی اللّیل والنّهار، ولا جعله الله آخر العهد منّا لزیارتكم.

* العالم الراحل السید محمد حسین فضل الله

قراءة 1104 مرة