الحرب ليست موقفاً أخلاقياً فحسب، ولكنها في حالتنا موقف اقتصادي اجتماعي معيشي أيضاً، فالرفاه الاقتصادي لن يعمّ هنا قبل التخلّص من الاحتلال.
- وصفة ترامب.. تحويل الأردنيين والفلسطينيين إلى عمالة رخيصة
هناك نظرةٌ عامةٌ مغلوطةٌ حول أسس تشكيل الموقف من قضية فلسطين، وتحديداً من الزاوية الاقتصاديَّة، تتمثّل في تكثيف الموقف في حزمتين؛ الحزمة الأولى هي التفاهم مع الكيان الإسرائيلي وإبرام السلام الدائم معه، وجائزة ذلك هي الرفاه الاقتصادي، وتنشيط الدورة الاقتصادية في الأسواق، وتأمين المزيد من فرص العمل. والحزمة الأخرى هي المواجهة والمقاومة للاحتلال الاستيطاني من حيث المبدأ، ونتيجة ذلك الاستعداد للتجويع والإفقار والحصار.
تبدو هذه المقاربة اليوم منتهية الصلاحية، وخصوصاً بعد تجارب الأردن ومصر في اتفاقيات السلام، مثل "كامب ديفيد"، و"وادي عربة". ففي الأردن، وقبيل توقيع الاتفاقية، جرى تعميم دعايةٍ شبيهةٍ قائمةٍ على الرخاء الاقتصادي القادم في المشروعات المشتركة مع الكيان الصهيوني، وحاول النظام الرسميّ تشجيع القبول الشعبيّ عبر هذه المغريات الاقتصادية.
اكتشف الناس لاحقاً أنّها لم تكن إلا أوهاماً، وكانت النتيجة 40 مليار دولار من الدين العام، بنسبةٍ غير مسبوقة من الناتج المحلي الإجمالي للدّولة، و44.7% من السكّان يتقاضون أقلّ من 560 دولاراً شهرياً، مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الأسرة المكونة من 5 أفراد، والتي تتقاضى أقل من 700 دولار، تعيش تحت خط الفقر في الأردن.
في مصر، كانت الاتفاقية - إضافةً إلى نهج السادات نفسه - هي المحرّك الأكبر لتراجع الاقتصاد المصري على المستوى الإنتاجي وانحرافه باتجاه المزيد من الديون والتكيّف الهيكلي والاستهلاك. وكانت نسبة الزيادة في الصادرات الزراعية المصرية 40% بين الأعوام 1967 و1969، أي في ذروة سنوات الحرب مع الكيان، وليس السّلام معه.
على السكَّة نفسها تسير صفقة القرن والدعايات الاقتصادية المقترنة بها من خطط الدّعم والمنح وغيرها. ويكشف المزيد من التدقيق في الملاحق الاقتصادية التي شكَّلت الحيز الأكبر من مشروع الصفقة المكون من 181 صفحة، عن ماهية هذه الخطط الاقتصادية ومستقبل الفلسطينيين والأردنيين معاً في حال اللحاق بمشروع الصفقة.
يقدّم مشروع الصفقة وصفةً اقتصاديَّةً مكوَّنةً من 3 أعمدةٍ رئيسيةٍ (pillars): الاقتصاد والناس و"الحكومة". الأول هو العمل على "تطوير" قوانين الملكية والتعاقد (وهذا هو الأهم بالنسبة إلى الكيان)، ودور القانون، وتطوير بيئة الأعمال، لجهة المدارس والمستشفيات وشبكات المياه والكهرباء والخدمات الرقمية. وهذا هو الضّلع الذي يؤسّس لتذويب قضية ملكية الأرض في إطار دولة، لصالح ملكية العقار في بيئة أعمال.
التطوير الاقتصاديّ الّذي يجري الحديث عنه في الصّفقة هو مجمل الواجبات الاقتصادية اللازمة لفرض الهيمنة الصهيونية على فلسطين والأردن معاً واستمرارها، من خلال أشكال تعاقد جديدة للملكيّة (بيئة الأعمال بديلاً من الوطن)، ووضع اليد على البنية التحتية، والسيطرة عليها من خلال مشاريع الخدمات الرقميّة التي ستتحكَّم بها.
والمرتكز الثاني هو "تطوير" الأشخاص من الناحية التعليميَّة، وهو الذي سيعمل على تحويل ذهنية المقاوم إلى موظف مدفوع الأجر من الساعة الثامنة حتى السادسة مساء.
أما المرتكز الثالث، فهو "تطوير" خدمات القطاع العام، من خلال الحكومة الإلكترونية وغيرها، وهو الضّرع الذي تحلب منه الديون المستقبلية للكيان المصطنع.
وتتوزّع الاستثمارات في الصفقة كالتالي: مشاريع بنيةٍ تحتيةٍ تؤسّس للهيمنة بنسبة 33%، استثمار في الموارد الطبيعية بنسبة 13%، استثمار في التعليم بنسبة 7%، الرعاية الصحية بنسبة 5%، تعديلات على القوانين الحكومية بنسبة 12%.
إنَّ التّدقيق في هذه النسب وطبيعة الإنفاق والتجارب السابقة في اتفاقيات السلام، إضافةً إلى البنود الأمنية والسياسية والجغرافية الواردة في الصّفقة، تقدم جميعها الاستنتاجات الآتية:
قد ترتفع نسب النمو في الكيان المصغّر الذي تأمله "إسرائيل" للفلسطينيين، إلا أنّها لا تمثّل إلّا حبراً على ورق، فارتفاع نسب النمو والناتج المحلي الإجمالي بسبب الاستثمار الخارجي، لا ينعكس بالضرورة على المستوى المعيشي للأفراد. هذا ما أكَّدته التجربة الأردنية بعد وادي عربة والمناطق الصناعية المؤهّلة التي ساهم فيها رأس المال الإسرائيلي.
وما دامت المشاريع الأكثر إنفاقاً في الصفقة هي المشاريع التي تؤسّس البنية التحتيّة للهيمنة، فمعنى ذلك أنَّ فرص العمل التي تنتظر الفلسطينيين، والأردنيين كذلك، هي فرص عملٍ رخيصة الأجر، لا الإدارات الوسطى والعليا في المشاري