يعتقد إردوغان أنَّ التوتر مع سوريا سيساعده على شحن المشاعر القوميّة، ليواجه بذلك الضّغوط التي يتعرَّض لها داخلياً من قبل أحزاب المعارضة، بعد أن ضيَّقت الخناق عليه في أمور كثيرة، أهمها تحالفه السابق مع الداعية فتح الله غولن المقيم في أميركا.
- القوات التركية في إدلب
بعد الرّسائل التي وجّهها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عبر زيارته "الاستفزازية" الأخيرة إلى كييف، والتي أزعجت رفيق دربه من وإلى أستانا وسوتشي، لم يعد أمامه سوى خيار واحد، وهو تحدّي روسيا في سوريا، وهذه المرة عبر الأسلحة التي يملكها في الداخل السوريّ، وأهمها مسلّحو النصرة، وهم إرهابيون وفق تصنيف الدولة التركية، وبالتالي عشرات الآلاف أيضاً من مسلّحي ما يُسمى بالجيش الوطني السوري المعارض.
ويعرف الجميع أن لا فرق بين هؤلاء وبين مسلَّحي النصرة أو داعش في الخطوط العريضة، وهم الذّراع التركيّة المسلّحة في سوريا، ويضعون إشارات العلم التركيّ على صدورهم.
لم يهمل الرئيس إردوغان حليفه الاستراتيجيّ؛ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الَّذي أرسل منسّقه للشؤون السورية، جيمس جيفري، إلى أنقرة ليعزي الشعب التركيّ، ولحق به وزير الدفاع خلوصي آكار، فدعا أميركا والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي إلى دعم بلاده في قضية إدلب، ناسياً أنَّ هذه الأطراف كانت حتى قبل أيام قليلة عدوةً للأمة والدولة التركية، وما زالت، باعتبار أنها تدعم وحدات حماية الشّعب الكردية، وهي "مجموعات إرهابية"، وفق تصنيف الدولة التركية، التي أدخلت جيشها إلى شرق الفرات للقضاء عليها أو التخلّص منها.
ولم يمنع هذا التناقض المسؤولين الأميركيين من الإعلان عن تأييدهم، إعلامياً فقط، للحليف التركي في إدلب، وهم ينسون أو يتناسون أن الحرب السورية تستهدف مسلّحي النصرة وفصائل حليفة لها، وهم مجموعات إرهابية، وفق تصنيف أميركا والحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وتحولوا جميعاً إلى حلفاء تركيا، وفقاً للإعلام الموالي لإردوغان، الذي عاد إلى لهجته التقليدية في الهجوم العنيف ضد روسيا، وكأنّ التاريخ يكرّر نفسه، لتعود تركيا إلى "حبيبها الأوَّل"، كما كانت في الخمسينيات.
آنذاك، انضمَّت أنقرة إلى الحلف الأطلسي وحلف بغداد، وحشدت قواتها على الحدود مع سوريا، وزرعت مليون لغم فيها، واعترفت قبل ذلك بـ"إسرائيل"، وتحالفت معها بالتنسيق مع الشاه الَّذي لم يعد موجوداً، وحلّ مكانه نظام إسلاميّ يقف بشكل مطلق إلى جانب سوريا وحزب الله، وهو الحساب الأهم، وربما الوحيد، بالنسبة إلى كل قوى الشر في سوريا والمنطقة والعالم.
وهنا، تبدأ بعض الأوساط حديثها عن سيناريوهات مثيرة محتملة وضعتها واشنطن لتحقيق المصالحة بين أنقرة وتل أبيب، كما فعل الرئيس أوباما في حزيران/يونيو 2015. ويتوقّع آخرون وساطة أميركية بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني وذراعه السوري ووحدات حماية الشعب، ليسدّ ذلك الطريق على احتمالات المصالحة الكردية مع دمشق، التي يعرف الجميع أنها لن تستطيع التفرّغ لشرق الفرات، سلباً أو إيجاباً، إلا بعد حلِّ أزمة إدلب بشكل نهائيّ.
وخلال الأعوام الأربعة الأخيرة، أثبتت الأحداث أن جميع الطرقات كانت، وما زالت، تؤدي إلى إدلب، وهو حال بيشاور (تعني المدينة الحدودية) الباكستانية سابقاً، إذ كانت معقلاً لطالبان والقاعدة وجميع فصائل المجاهدين الذين قاتلوا الاحتلال السوفياتي أولاً، ومن بعده قاتلوا بعضهم البعض، بإشراف عميل جهاز المخابرات الأميركية، روبرت جيتس، الذي أصبح في ما بعد رئيساً لهذا الجهاز (1991-1993)، ومن بعده وزيراً للدفاع في عهد أوباما (2006-2011).
لا يعني ذلك أنَّ واشنطن التي هدَّدت الرئيس إردوغان وتوعَّدته في مناسبات عدة، ستكون إلى جانب أنقرة بالمطلق، ومن دون مقابل. هذا إذا ما تجاهلنا احتمالات أن يفكّر الرئيس ترامب في توريطها بمزيد من القضايا المعقَّدة في سوريا والمنطقة، وإذا لم ترضخ لشروطه في موضوع منظومة "أس – 400"، التي إن لم يتمّ نصبها وتشغيلها، فسوف تكون كافية لنسف مجمل العلاقات الروسية التركية، نظراً إلى انعكاسات ذلك على العمل المشترك في سوريا.
وسيغيّر ذلك قواعد اللعبة الإقليمية بشكل تام بالنسبة إلى الجميع، بمن فيهم الرئيس إردوغان، الَّذي قد يرى في كلّ هذه المعطيات فرصته الثمينة حتى يستمرّ في مقولاته ومواقفه التّصعيديّة في سوريا، ليضمن لنفسه البقاء في السلطة بشكل أو بآخر.
ويعتقد إردوغان أنَّ التوتر مع سوريا سيساعده على شحن المشاعر القوميّة، ليواجه بذلك الضّغوط التي يتعرَّض لها داخلياً من قبل أحزاب المعارضة، بعد أن ضيَّقت الخناق عليه في أمور كثيرة، أهمها تحالفه السابق مع الداعية فتح الله غولن المقيم في أميركا.
كما استغلَّ، وما زال، مقتل الجنود الأتراك قرب إدلب، وقرار البرلمان السّوري الأخير في ما يتعلَّق بالإبادة الأرمنيّة في العهد العثمانيّ، للحدّ من حملات المعارضة ضدَّه، التي كانت تقول دائماً إنَّ الدولة السورية والرئيس الأسد لم يفعلا أيّ شيء ضد الدولة والأمة التركية، على الرغم من كلّ ما قام به إردوغان في سوريا.
وتُحمِّل المعارضة الرئيس إردوغان أيضاً مسؤوليّة الوضع الحالي في سوريا عموماً، بعد إصراره على حماية مسلّحي النصرة في إدلب، التي لا يخفي الشارع الشّعبيّ التركيّ قلقه من تطوّراتها المحتملة، ما دام الإرهابيون فيها يشكّلون خطراً على تركيا، وقد تحوّلت المدينة إلى بيشاور جديدة بسبب سياسات أنقرة.
يبقى هناك العديد من الأسئلة الّتي يطرحها الجميع، ومنها: هل يستطيع الجيش التركيّ مواجهة الجيش السّوريّ مباشرة ما دام الأخير مدعوماً جواً من الروس، وبراً من إيران، وأثبت أنه قويّ بما يكفي، بعد أن صمد 8 سنوات في وجه أكبر مؤامرة إقليمية ودولية لم يشهد التاريخ الإنساني بأكمله مثلها؟
وهل ستستمرّ تركيا في إعطاء الفصائل المسلَّحة في إدلب وجوارها أسلحة متطوّرة تساعدها على مواجهة الطّيران الحربيّ السوريّ والروسيّ والدبابات السّورية؟ وإلى متى؟ ولماذا تستمرّ في حشد قوات كبيرة جداً داخل الأراضي السورية ما دام الجيش السوري يقوم بعملياته الحربية فيها، وخصوصاً أن الرئيس إردوغان أكَّد أكثر من مرة أنه مع وحدة ترابها وسيادة الدولة السورية على كامل هذا التراب؟
هل سيغامر إردوغان ويدخل في مواجهات مباشرة مع روسيا في سوريا، بعد المعلومات التي تحدَّثت عن موقف روسيّ عنيد يؤيّد عمليات الجيش السوريّ بشكل مطلق لحسم مشكلة إدلب حتى النهاية، مهما كان ثمن ذلك؟
وفي نقطة الصّفر التي ستعني دخول الجيش السّوري إدلب، بعد تحرير حارم وجسر الشغور (ربما من دون قتال)، ماذا ستفعل أنقرة بآلاف الإرهابيين الأجانب الَّذين سيهربون باتجاه تركيا التي تبعد عن إدلب عدة كيلومترات، كما كان المجاهدون الأفغان يهربون إلى بيشاور؟
وبعد حسم إدلب (بالحرب أو الاتفاق)، وفق بنود اتفاقيَّة سوتشي، هل يفكّر الرئيس إردوغان في موقف جديد وفق تفاهمات أستانا الهادفة إلى الحلِّ النهائي للأزمة السورية، أو أنه سيستمرّ في رهاناته الخاسرة مع استمرار الموقف الروسيّ العنيد، بحسب تصريحات السفير الروسي في أنقرة، أليكسي يارخوف، الذي قال: "لم تلتزم أنقرة بتعهّداتها في سوتشي، واستمرّ الإرهابيون في عملياتهم الإرهابية التي استهدفت الأهداف العسكرية والمدنية السورية، فنفد صبر الجيش السوري، وقرَّر استرجاع كلّ شبر من أراضيه، فالجيش السوري يحارب داخل أراضيه، ومن أجل شعبه، ليعيش بسلام وأمان، كما عاش أجداده هناك منذ آلاف السّنين، ولا يمكن لأيِّ قوة أن تجبره على التراجع عن موقفه وإرادته هذه، وهو مستمر في عملياته حتى النهاية".
وأخيراً، هل سيقنع الرئيس بوتين صديقه إردوغان أو يجبره على الخروج من غرب الفرات وشرقه، بعد أن سمح له بدخولهما، فنشر قواته ووظَّف عشرات الآلاف من المسلّحين والمدنيين فيهما، خدمةً لأفكاره ومشاريعه العقائدية والاستراتيجية التي ستسقط بسقوط إدلب بالسّلاح، كما سقطت إسطنبول وأنقرة بالديموقراطية؟ وكيف؟
المصدر : الميادين نت