Print this page

الحج و أبعاده السياسیة والإجتماعیة (ديبلماسية الحج و وحدة الأمّة الإسلامية)

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الحج و أبعاده السياسیة والإجتماعیة  (ديبلماسية الحج و وحدة الأمّة الإسلامية)

قال الله تعالى: (وَأَذّن فِي النّاسِ بِالحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىَ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ ٭ لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِى أَيّامٍ مّعْلُومَاتٍ).[1]

لاشكّ أنَّ الحجّ هو ركن من أركان الدين، ومن أعظم شعائره، وأحد أكبر الفرائض الخمس التي بني الإسلام عليها،[2] ومن أفضل الأعمال التي يراد بها التقرّب إلى الله تعالى،[3] وتركه ارتكاب لكبيرة من الكبائر، مما يتسبب في خروج المرء عن جادّة الإسلام والمسلمين.[4]

إنَّ أوَّل ما نلتقي به من نصوص الحج هو النِّداء الأوّل الذي وجَّهه الله للنبي إبراهيم7 في دعوة الناس إلى الحج.. وذلك في قوله تعالى: (وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحجّ ... لّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ...)،[5] فإننا نجد في هذا النِّداء دعوة إلی أداء فريضة الحج مقروناً ببيان حکمته، حيث ذکر المنافع من دون تحديد لطبيعتها وحجمها، للإيحاء بالانطلاق في هذا الاتجاه للبحث عن كلّ المجالات النافعة من الجوانب الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والثقافية، والتي يمكن لهم أن يحققوها من خلال الحج في حياتهم الفردية والاجتماعية إلى جانب الروح العبادية المتمثلة بذكر الله في أيام معدودات، و يأتي هذا المقال الموجز تبياناً لما يتعلق بهذه العبادة وسنرکِّز في البحث علی الجانب السياسي والإجتماعي، خاصَّة فيما يتعلق بالوحدة الإسلامية لأهمِّيتها في واقعنا المعاصر شعوباً ودولاً:

البُعد السياسي للحج:

لتوضيح البُعد السياسي للحجّ، والأهداف المنشودة منه نعتمد علی كلام الله المجيد، حيث يعرّف الكعبة بصراحة وبوضوح على أنها العامل والدافع لقيام الناس ونهضتهم في قوله تعالی:(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحـرَامَ قِيَاماً لّلنّاسِ)،[6] وهذا القيام يتضمن معاني ومفاهيم سياسية کثيرة منها الاستقلال والاعتماد والاتّكال على النفس، والمشاركة الفعّالة في النشاطات الإجتماعية، وغيرها من المعاني والأعمال التي ينبغي أن نقوم بها لله فرادی وجماعة کما قال تعالی: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا .... ).[7] وأمَّا ماجاء من الروايات فإنَّ هناك الکثير مما يبيّن بوضوح البُعد السياسي للحج، فإنّ حديث «الحجّ جهاد الضعفاء» والمنقول بطرق مختلفة،[8] والتناسب الماهوي بين الاشتراك في غزوة مع الرسول9 وحجّ بيت الله في الحديث التالي: «الغازي في سبيل الله والحاجّ والمعتمر وفد الله دعاهم»،[9] يعلّمنا أنّ هناك علاقة وثيقة بين البُعد السياسي ، والجانب الجهادي والعسكري للحجّ  وأنّ المجاهدين في سبيل الله وحجّاج بيت الله صفوة منتخبة من قبل الله تعالی في خندق واحد ضد العدو. ونرى تعبيراً أبسط آخر في بعض الروايات: «الحجّ جهاد»،[10] وفي حديث عن رسول الله9: «نعم الجهاد الحج»،[11] وعلى هذا فإنّ الحج ليس فقط من مصاديق الجهاد فحسب، بل هو أبهى صور الجهاد في سبيل الله، وإنَّ المراسيم العظيمة في الحجّ إنما هي صورة من صور الجهاد في سبيل الله، وقد ورد حديث عن الرسول الأكرم9 يزيل كل شكّ وشبهة في هذا المجال: «النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله».[12] إنَّ التساوي بين الحج والجهاد في الإسلام هو بيانٌ لمجموع الإسلام، ويبيّن الحقيقة القائلة: إنّ هاتين الفريضتين كانتا وما تزالان تمتلكان أهدافاً مشتركة، وفي الوقت نفسه فلكلّ منهما خصوصية ماهوية خاصّة بهما، ويعدّ كلّ منهما عبادةً وعملاً سياسياً لتقوية وتحقيق الأهداف السياسية للإسلام على حدّ سواء.

ومن كتاب (الحجّ مؤتمر عبادي سياسي)؛ ننقل النص التالي من خطاب للإمام الخميني= في22/شوال/1405هـ: «لقد عزمنا منذ البداية على أن نؤدّي الحجّ كما كان في عهد رسول الله9، كيف أنّ الرسول الأكرم9 حطم الأصنام في الكعبة؛ نحن أيضاً نريد أن نحطمَّ الأصنام، وأنّ هذه الأصنام الموجودة في عصرنا، هي أعظم وأسوأ من أصنام ذلك العهد».

ويقول الإمام الخميني= أيضاً:«في هذا الاجتماع المقدس للحجّ؛ يجب أولاً: بحث المسائل الأساسية في الإسلام، وثانياً: تبادل وجهات النظر في المسائل الخاصة للدول الإسلامية، انظروا ماذا يجري على الإخوة المسلمين في داخل دولهم من الاستعمار وعملائه وأتباعه، يجب أن يقدموا تقريراً لمسلمي العالم في هذا الاجتماع المقدس يشرحون فيه ما تعانيه شعوبهم من مصاعب ومتاعب».[13]

إنَّ هناك أبعاداً كثيرةً في الحجّ لازال لم تتحقق ومنها البُعد السياسي. ولو تحقق جزءٌ مما يعد به الحج في توحيد الأمة كما هو المفترض لتحقَّق للمسلمين كثيرٌ من المنجزات على كافة الصعد السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. فالبُعد السياسي للحج من أكثر الأبعاد المهجورة المغفولة، وقد عمل الجناة وما زالوا يعملون على هجرانه، يساعدهم في ذلك علماء البلاط و وعاظ السلاطين. وهذا لا يشكل بحد ذاته حجة للمسلمين أن يتقاعسوا عن الإيفاء بمتطلبات الحج، فعلى الأقل هناك قضايا مشتركة مهمة يعاني منه جميع المسلمين، يمكن أن تطرح من خلال تجمعات الحج، ويكمن أن يجدوا لها حلولاً من خلال التشاور، وينقلون تلك الحلول إلى بلدانهم.

 الحج و وحدة المسلمين:‏

إنّ الوحدة هي الكفيلة تحفظ كيان الامّة وتماسكها، وترسيخ وجودها، وتثبيت أقدامها.. وبأنّ التوحّد والترابط، والتآلف والتماسك، هي مصدر القوّة والغلبة، ومنبع القدرة والمنعة.. وأنّ القوّة أمر ضروري لحفظ الشرائع والمبادئ.. والوحدة مصدر قوّة، وفي الحج نجد هذه القوة حيث أنّ الحجّ ليس مجرّد فريضة تهذّب النفس وتعصم السلوك بل هو أيضاً عنوان للأُخوّة الإسلامية العامة عبر التاريخ حول مسألتي العبودية لله، واجتناب الطاغوت، وذلك بشتّی الأساليب التي تتناسق فيما بينها لتؤكد هذا المضمون الوحدوي العظيم في الحجّ، وهو خطّ جميع الأنبياء.

وقد تابعت الثورة الإسلامية هذا الخط وأکَّدت على لزوم إعادة الدور الحقيقي للشعائر الإسلامية، كصلاة الجمعة، والحج، باعتبارهما من أكبر المجالات المحققة للإحساس بضرورة الوحدة في هذه الأمة .

إنّ الحج فريضة إلهية لها أبعاد توحيدية كبيرة، وهي مؤتمر كبير يجمع المسلمين من كلّ الأقطار، متحدة نحو قبلة واحدة، في طاعة إله واحد مستنين بسنة الرسول الأكرم9. لقد تحول الحج عبر العصور المتلاحقة ومن خلال سعي الأعداء إلى فريضة عادية لا تحمل في عمقها الأبعاد السياسية التي أرادها الله تعالى ليستفيد منها المسلمون، وقد نجح العدوّ لسنين طويلة في أن ينسي الناس هذه الأبعاد العظيمة لهذه الواقعة المهمة والاستثنائية من عبادات المسلمين السياسية، ولقدأدرك الإمام الخميني= خطر هذه المسألة فحاول أن يعيد إلى الحج بُعده السياسي لاسيما بإعلانه أنّ البراءة من قوى الشرك والكفر العالمية ركن من أركان الحج ولابدّ أن تؤدّى ليكون الحجّ حجّاً حقيقياً، إستناداً إلی قوله تعالی:  (وَأَذَانٌ مّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحـَجّ الأكْبَرِ أَنّ اللهَ بَرِيَءٌ مّنَ الْمـُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).[14]

وكان الإمام الخميني= يعتقد بأن البَراءَة في الآية المذكورة أعلاها لا تختصّ بمشركي الجزيرة بل إنَّها تشمل البراءة من مشركي العالم كلّه، الموجودين في عصر الرسالة ومن بعدهم إلى يوم القيامة، ولذا أمر أن تقام مراسم البراءَةَ في کلّ عام من موسم الحج، وکان من خلال بياناته السنوية التي كان يوجّهها إلى الحجاج في موسم الحجّ یؤکّد على وجوب اهتمام المسلمين بالأمور السياسية للعالم الإسلامي، واعتبار إعلان البراءة من المشركين ركناً من أركان الحج.

وبالتدريج اتخذ مؤتمر الحج العظيم شكله الحقيقي وصارت سيرة البراءة تقام سنوياً بمشاركة عشـرات الآلاف من الحجاج الإيرانيين والمسلمين الثوريين من البلدان الأخرى، يردّدون خلالها شعارات تطالب بإعلان البراءة من الإستکبار العالمي خصوصاً امريکا وإسرائيل باعتبارهما من أهم مصاديق البارزة للشرك والكفر العالمي، وتدعو المسلمين إلى الاتحاد، واستمر سماحة الإمام الخامنئي+ علی هذا النهج في ندائه لحجاج بيت الله الحرام في موسم الحج من کلّ عام لإحياء الحج الإبراهيمي.

البُعد الاجتماعي للحج:

إنَّ أهم ما تفتقده المجتمعات الإسلامية الرفق، الأمان والتوحد في العقيدة الضامنة لسعادة الدارين الدنيا والآخرة، ومن مهام الحج؛ تحقيق الأمان في العلاقات الاجتماعية، وتوفير فرصة نموذجية للرفق بين الناس، وتوحيد صفوفهم وتوثيق عرى الوحدة بينهم وفي هذا المعنی يقول الإمام الخميني= «يجب أن نعلم أنّ إحدى الحکم الاجتماعية لهذا التجمع العظيم من جميع أنحاء العالم؛ توثيق عرى الوحدة بين أتباع نبي الإسلام، والقران الكريم في مقابل طواغيت العالم».[15]

ويتحقق البُعد الاجتماعي في الحجّ من خلال ما يلي:

  1. التحرّر من الأنا والتخلص من سلطان الشهوات:من خلال السلوك الجمعي في المسيرة الإيمانية إلى الله تعالى ابتداءً من الميقات، فلا ميزة لأحد على أحد، بلون أو ملبس أو منصب أو أي من ميزات اعتادوها الناس في حياتهم، فإنّ أكثر ما يثير المتاعب بين الناس، هو التصادم الذي يحدث بين الذوات والأنانيات، وعندما تذوب الذات وتنصهر، يخلص الإنسان من طغيان الأنا ولقاءاته السلبية مع الآخرين. وتفرض مناسك الحج أحكاماً تخلص الإنسان من سلطان الهوى والشهوات، وهي مسألة في غاية الأهمية، إضافة إلی منسك رجم الشيطان، باعتباره رمز الشهوات.
  2. الانصهار في الجماعة: فبعد أن انسلخ الإنسان عن ذاته، وجد نفسه فجأة في وسط حشد بشـري كبير، لا يمتاز بعضهم عن بعض، ولا يكاد يفرّق بينهم شيء، بنداء واحد، وتوجه واحد، وإلى الطواف حول مركز واحد، ثم تتوجه هذه الجموع الموحَّدة من الحجاج لرجم الشياطين؛ ويقول الإمام الخمينى=في ذلك: «يجب طرد الشياطين الكبری والصغری والوسطی عن حرم الإسلام المقدس ويجب قطع أيادي الشياطين عن الكعبة،... ».[16]

دور الحج في التطوّر الثقافي:

عندما يکون بيت الله الحرام علَمَاً ورايةً للإسلام کما عبَّر عنه علي بن أبي طالب7 إذ يقول: «جعله الله سبحانه وتعالی للإسلام علماً».[17] وعند مايکون ترك الحجّ كفراً لا محالة، حيث يقول الرسول الأكرم9 مخاطباً علياً 7: «يا علي تارك الحجّ وهو مستطيع كافر».[18] ويستدل بالقرآن لتأكيد ذلك: (وَللهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنّ الله غَنِيّ عَنِ الْعَالَمِينَ).[19] ولا يكتفي بذلك بل يوضّح أكثر حيث يقول: «يا على من سوّف الحجّ حتّى يموت بعثة الله يوم القيامة يهودياً أو نصرانياً»،[20] فهنا يتّضح دور الحج في تغذية الإيمان والارتقاء الثقافي والعلمي للمسلمين أكثر من أي مكان آخر، وكأن بالحجّ وهو يمثّل دورة تعليميّة في الدين، حيث لا يصل المسلمون إلی حقيقة الإيمان إلّا بدخول تلك الدورة على الأقل مرة واحدة في حياتهم.[21]

ويوصي الإمام علي بن الحسين7  ـ وهو أحد المسارعين إلى حجّ بيت الله الحرام ـ أصحابه قائلاً: «حجّوا واعتمروا... يصلح إيمانكم». [22]

وحين يسأل هشام بن عبدالملك الإمام الصادق7 عن حکمة الحج، يجيب الإمامA عند ذكره لحكمة الحجّ قائلاً: «فجعل الاجتماع من الشـرق والغرب ليتعارفوا... ولتعرف آثار رسول الله9، وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى، ولو كان قوم يتكلّون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح وعميت الأخبار ولم تقفوا على ذلك فذلك علّة الحجّ».[23]

إنَّ الحجّ بحقّ رجوع إلى التوحيد وتاريخ حماة هذه الفريضة، آدم وإبراهيم وإسماعيل وصولاً إلی الإسلام ونبيّه9، وصدام متواصل بين الإيمان من جهة والكفر والنفاق من جهة أخرى، وببقاء الكعبة شامخة سيظلّ هذا التأريخ متجسداً وعاكساً للتوحيد وعلماً ومعلماً نشأت عنه حقائق الدين؛ فيخلد بذلك التوحيد وثقافته ويحيا حياةً أبدية.

إنّ الحجّ تعليم عمليّ لثقافة المساواة والأخوّة والتعاون نحو الخير ومصلحة المسلمین، وهو فرصة ذهبية للتبليغ ونشر الثقافة الإسلامية الغنية في طبقاتٍ واسعةٍ من المسلمين حيث يبثّ عامل القوة في المجتمعات الإسلامية والذي له دور فاعل وأساسيّ.

ولا ريب في أنّ المقدمات الأولية للذهاب إلی الحجّ تتمثل بتعلّم الكثير من المسائل الإسلامية والتفقّه الابتدائي، وهي أرضية مناسبة تتيح لعلماء الإسلام إرشاد جموع غفيرة من المسلمين، ونشـر الثقافة الإسلامية وإشاعة التفقّه في الدين. وبالتأكيد فإنّ روحانية الحج هي نفسها عامل مهم يهیئ القلوب لتعلّم الحقائق والمعارف الدينيّة للإسلام.

يقول الإمام علي بن موسى الرضا7 مخاطباً الفضل بن شاذان:[24] «إنما أمروا بالحج لعلّة الوفادة إلی الله..... مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمةG إلی كلِّ صقعٍ وناحيةٍ كما قال الله عزوجل: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ)».[25]

ولا تقتصر نعمة وبركة نشر المعارف والثقافة الإسلامية في مراسم الحج على المسلمين القادمين من أقصى البقاع أو أقربها، ذلك أن كلاً من هؤلاء المسلمين سينقل معه تلك الثقافة وما تعلمه إلى بلده ويعمل على نشرها هناك وبثّها في أواسط المسلمين كافّة، وعلى هذا يتخذ دور الحج أبعاداً أوسع وخصوصاً بتكرار عملية الحجّ كلّ عام، ويجعل من الدين أقوى آصرة تلم المسلمين وتضمن خلود الإسلام.

وقد وردت هذه الحقيقة في حديث قصير وبليغ للإمام علي7 حيث يقول: «فرض الله... والحجّ توقية للدين».[26] والإمام الصادق7 يصرِّح بهذه الحقيقة إذ يقول: «لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة».[27]

إنَّ النمو الثقافي هو الهدف الذي ينشده الإسلام في مناسك الحجّ البهيّة، ويقوّي هذه الأرضية ويعزّز الحقيقة القائلة: إنَّ جميع البشر على الرغم من الاختلاف في اللون والبشرة والعنصـر واللغة والميزات الإقليمية والتأريخية والطبقية وغيرها يتمتّعون بفطرة واحدة، وإنّ هذه الفطرة متساوية عند كلّ البشر، والتي تمنح الثقافة الإنسانية وترسمها بصورة عامّة وشمولية تامّة لماهية الإنسان.

وأثناء المسيرة التي تقطعها مناسك الحج تتحرّر الثقافات الجامدة، وتخرج عن نطاق العادات والسنن القومية والإقليمية ودائرة الهوية الوطنية، وتنتمي إلى الهوية الإسلامية الجامعة.

ويدرك الإنسان في الحجّ أصالة البنية التحتية للثقافة الإنسانية، التي هي نفسها الثقافة التوحيدية الإبراهيمية الخالصة دون أن يفقد الإنسان أياً من القيم الثقافية والعادات والتقاليد الخاصّة به، فيما يتعلّق بالمسائل والأشكال التي تؤلف حياته الطبيعية، مهما كانت جنسيته وقوميته.

والحقّ أنَّ الحج دورة تعليمية تتيح انتقال الثقافات، والتعرّف على الثقافة الإنسانية الفطرية للحصول على هوية ثقافية إسلامية مشتركة، فتتمسك الملايين بتلك الشجرة الطيبة الثابتة، وتأکل من ثمارها اليانعة إذ يقول تعالی:

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ٭ تتُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). [28]

وختاماً لهذا المقال و في نهاية بحثنا الموجز نأتي باقتراح نرجو أن ينال رضا الحاضرين في المؤتمر:

أولاً- ينبغي أن تقام مناسك الحج بطريقة يتمّ بواسطتها تواصل الشعوب الإسلامية، وبث الروابط فيما بين الثقافات والتراث والهويّات الوطنية على أساسٍ من التفاهم المنطقي وتتهيأ الأرضية المناسبة للتعاون والمشاركة الثقافية؛ والسياسية لتقوية وتعزيز التعرّف على الثقافة والهوية الإسلامية، على أساس المعايير والموازين الأصلية والمصالح المشتركة، فيزول بذلك كلّ جهل وتعصب، ويتحرّر عموم المسلمين من القيود التي فرضها الاستعمار الغربي باسم الثقافة الوطنية، بدل إحياء الثقافة الإسلامية الأصلية المشتركة بين المسلمين.

ثانياً- ينبغي أن تبدأ مراسم الحج باستئصال جذور الثقافة الاستعمارية، والارتباط الثقافي للشعوب الإسلامية بالغرب والشرق وكلّ المصادر التي تمّت بصلة إلى الاستعمار والاستثمار، حيث إنّ الحج رجوع وعود عقلاني إلى الإسلام الأصيل، وتعليم لإصلاح الإيمان ومعرفة لآثار وتراث الإسلام و رسوله9 وتذكرة للتفكير التوحيدي الفطري. لذا یجب على الحاجّ تجريد فكره وروحه وعقله ونفسه عن الثقافات غيرالتوحيدية، والارتباطات الثقافية التي تبعده عن الله ورسوله9 والتي تجذبه نحو خدمة المصالح الغربية والشرقية.

وکلّ ما يمکن أن نقوم به معاً هولأجل أن تتحقق الأمَّة الواحدة التي أرادها الله أن تکون خير الأمم، أخرجت للناس في قوله تعالی: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمـَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).[29]

 

[1]. سورة الحج: 27- 28.

 

[2]. قال الباقر7: بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية... . وسائل الشيعة1: 7و8، أصول الكافي1: 315.

 

[3]. جواهر الكلام17: 214.

 

[4]. تحرير الوسيلة1: 370، وسائل الشيعة8: 19و21.

 

[5]. سورة الحج:  27،28.

 

[6]. سورة المائدة: 97.

 

[7]. سورة سبأ: 46.

 

[8]. من لا يحضره الفقيه2: 359، علل الشرايع: 57.

 

[9]. سنن ابن ماجة، المناسك5، سنن النسائي، الحج: 4.

 

[10]. سنن ابن ماجة، المناسك: 44.

 

[11]. صحيح البخاري، كتاب الجهاد: 62.

 

[12]. مسند أحمد بن حنبل5: 200.

 

[13]. أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني=: 42 (نشر جمعية المعارف الإسلامية، ط1، بيروت-1422هـ).

 

[14]. سورة التوبة:3 .

 

[15].أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني=:27 (نشر جمعية المعارف الإسلامية، ط1، بيروت-1422هـ).

 

[16]. أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني=: 29 .

 

[17]. نهج البلاغة، الخطبة1.

 

[18]. من لا يحضره الفقيه2: 335، الخصال 2: 61.

 

[19]. سورة آل عمران: 97.

 

[20]. بحار الأنوار74: 59، وسائل الشيعة8: 21.

 

[21]. المحجّة البيضاء2: 145.

 

[22]. وسائل الشيعة8: 21.

 

[23]. علل الشرائع: 405، الحديث6.

 

[24]. عيون أخبار الرضا: 236.

 

[25]. سورة التوبة: 123.

 

[26]. نهج البلاغة، المواعظ والحكم، رقم 244.

 

[27]. الكافي4: 271، الحديث4.

 

[28]. سورة إبراهيم: 24- 25.

 

[29]. سورة آل عمران: 110.

قراءة 13 مرة