من أسباب حبّ الجاه والرئاسة "حبّ الذات" المفرط عند الإنسان، حيث يتحرّك الإنسان لإرضاء هذا الدافع المترسِّخ في أعماق النفس بكلِّ وسيلة تمكِّنه من تحصيل ذلك الغرض، ومنها المقام والمنزلة في واقع المجتمع.
وهناك دوافع أخرى لهذه الحالة النفسيَّة مثل الشعور بالحقارة والدونية، فالأشخاص الذين ذاقوا مرارة الحقارة وعاشوا الإهانة من الآخرين لأيِّ سبب كان فإنّهم يسعون وعن طريق حبّ الجاه والأماني الكاذبة لتعويض ذلك النقص.
وكذلك الحسد والحقد والانتقام يمكنها أن تكون من الأسباب وعلل حبّ الجاه، فإنّ من يعيش الحسد تجاه الآخر يتحرّك من موقع طلب الرياسة والمنزلة الاجتماعية ليكون الآخر في موقعٍ أسفل منه في دائرة العلاقات الاجتماعية ويستغلّ الفرصة لتنفيذ ما في قلبه من الحسد والحقد والانتقام.
علاج حبّ الرئاسة:
في علم الأخلاق أصل كلّيٌّ وهو أنَّ المبتلين بالرذائل الأخلاقية إذا ما تنبهوا للعواقب السيئة لهذهِ الصفات، فإنّهم في الأغلب الأعمّ سيفكّرون في طرق العلاج لها وتركها.
وهذا الأصل يصدق أيضاً في مورد حبّ الرئاسة، فعلى المبتلَى بحبّ الجاه أن يلتفت إلى أنّ هذهِ الرذيلة تبعده عن الخالق وعن المخلوق أيضاً، فيهرب منه الصديق ويبتعد عنه الناس، وأنّ هذه الصفة ستجرّه إلى الرياء الذي هو من أخطر الذنوب، أو ربّما يصبح "كالسامري" و"قارون" اللَّذيْن كفرا وعاديا نبي الله موسى (عليه السلام)، وعليه أن يعلم أنّ تأثير حبّ الجاه في الإيمان القلبي للإنسان كمثل الذئب الضاري في قطيع الغنم، وأنَّ حب الجاه ينبت النفاق في القلب، فإذا علم الإنسان بكلّ هذه المخاطر والآثار المخرّبة لهذه الرذيلة فسوف يجدد النظر في سلوكياته وأعماله قطعاً.
وإذا فكَّر هذا الشخص بعدم ثبات هذهِ الدنيا والتفت إلى قِصَرِ العمر وأنّ النعم مواهب مؤقتة وعارية مسترَدَّة؛ بل لو التفت الى قابل ذاته المُقدّسة، وأنَّ العزّة والذلة والعظمة والحقارة بيد الله تعالى، والأهمّ من ذلك كلّه أنّ القلوب بيد خالقها، لَعَلِمَ أنه لا يمكن الاعتماد على إقبال الناس وإدبارهم، فإن إقبالهم وإدبارهم لا ثبات فيه مطلقاً ولا يعتمد عليه، ومن يتحرّك في تدبير أموره على ذلك الأساس فَمثَلُه مثَلُ الذي يريد البناء على أمواج البحر، والمراهنة على معطيات رضا الناس وحالة الاعتماد عليهم لا تُنتجُ الضرر الأخرويَّ فحسْب، بل لا تنسجم حتى مع خطّ العقل في سلوكياتنا الدنيوية أيضاً.
كلُّ ما ورد هو طُرُقُ العلاج من الناحية العلمية، وأمّا من الناحية العملية، فطريقة علاج حبِّ الجاه هي أن يضع الشخص نَفْسَه في حالة يميتُ فيها "حبَّ الجاه"، فمثلا يجلس في المجالس العامة مع الأفراد العاديين وليس مع الشخصيات المرموقة، وعلى مستوى اللباس، يجب أن يتّخذه من النوع المتوسِّط وكذلك بيته ومركبه وطعامه وأمثال ذلك[1].
كذلك فإنَّ من الطرق العملية لمعالجة حبِّ الرئاسة استشعار ثقل المسؤولية وواجبات المسؤول تجاه من يعمل معه[2]، ويعلم أنه سوف يُسأل يوم القيامة عن كلِّ كلمة قالها لمن يعمل ضمن دائرة مسؤوليته، وعن كل نظرة نظرها إليه، أو تصرُّف تصرَّفه معه.
ومن الوسائل العملية أيضًا تربية النفس على رفض الرئاسة، بل على عدم التفكير بها، وتجدر الإشارة إلى أنّ حبَّ الرئاسة والسعي إليها يختلفان عن القيام بمسؤولياتها، فالأنبياء والأولياء (عليهم السلام) لم يحبوا الرئاسة ولم يطلبوها، ولكنّهم قاموا بمسؤولياتها واستعملوها لخدمة الناس وهدايتهم. لذا المطلوب ترك طلب الرئاسة والمنصب، بل عدم تحديث النفس بذلك، ولكن إذا كُلّفت بمسؤولية ما عليك أن تقوم بها على أكمل وجه، كما خاطب الله عزَّ وجلَّ نبيّه يحيى عليه السلام ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ...﴾[3].
[1] انظر: الشيرازي، ناصر مكارم، الأخلاق في القرآن، ط2، المؤسسة الإسلامية، قم، ج3، ص ص8-25.
[2] سنعالج هذه المسألة في المبحث المقبل إن شاء الله.
[3] القرىن الكريم، سورة مريم، الآية:11.