إنّ الأحداث التي تبدو في الظاهر بلاءً وشقاءً، تحمل في الباطن آثاراً وفوائد، لذلك كان أولياء الله راضين بالبلاء يرددون نداء "رضاً برضاك"، لا بل لا يعتبرون البلاء بلاءً لأنهم ينظرون إليه بعين الجمال، ومن هنا نجد السيدة زينب عليها السلام وبعد تحمل المصائب والمشقات التي انهالت عليها وعلى أهل بيتها، تقول: "ما رأيت إلا جميلاً"[1]. لذلك من المناسب في هذا المقال التعرض لفوائد البلاء لنتمكن من خلال التأسي بالسيدة زينب عليها السلام، من مشاهدة الجمال المكنون في البلاء مما يساهم في الانجذاب نحو الجمال الإلهي المطلق.
1- جرس إنذار
بما أنّ الدنيا وزينتها الظاهرة قد تخدع الإنسان فينشغل بنفسه ويبتعد عن ذكر الله وطاعته، ومن هنا عندما يبتلي الله الإنسان فقد هيَّأَ له الأرضية لليقظة من الغفلة، عند ذلك يشاهد المرارات والآلام الموجودة في الدنيا وزينتها فيتجه نحو الحقّ تعالى.
في إحدى السنوات واجه المسلمون القحط وقلة الماء، فخرج الإمام علي عليه السلام لأداء صلاة الاستسقاء وفي الطريق خاطب المرافقين: "إنَّ الله يبتلي عباده عند الأعمال السيئة بنقص الثمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب ثائب مقلع ويتذكر متذكر"[2].
2- محو الذنوب
قد يخطئ بعض المؤمنين أحياناً فيرتكبون المعاصي. أما الله تعالى ـ الذي هو بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم ـ فيرسل البلاء لتطهيرهم من المعاصي وبالتالي لا يترك حسابهم إلى يوم القيامة. يقول الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "الحمد لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحنتهم لتسلم بها طاعاتهم ويستحقوا عليها ثوابها"[3].
3- أساس السعادة
إن البلاء والشقاء هما سبب وجود السعادة عند الإنسان، لأن السعادة مكنونة في باطن البلايا والمصايب، وكما يقول الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾[4].
من جملة القوانين الموجودة في الطبيعة أنّ حجر المعدن ما لم يتعرض لحرارة قوية لا يخرج منه الذهب الخالص. ثم إن هذا القانون يصدق على الإنسان أيضاً، يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾[5].
يقول الأستاذ الشهيد الشيخ مرتضى مطهري(رضوان الله عليه) في تفسير الآية الشريفة: "يجب أن يتحمل الإنسان المشقات ويقاسي الصعوبات ليحصل على وجوده الذي يليق به. إن التضاد والتعاند هما سبب التكامل، ومن خلالهما يقطع البشر الطريق نحو الكمال"[6].
كتب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف يوبخه لمشاركته في مجلس الأشراف. وقد خاطبه قائلاً: "ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً والروائع الخضرة أرق جلوداً والنباتات البدوية أقوى وقوداً وأبطأ خموداً"[7].
من هنا وبما أنّ أولياء الله هم أحباب الله، لذلك هم في معرض البلاء أكثر من غيرهم، وكما يقول الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله إذا أحب عبداً غته بالبلاء غتاً"[8].
ثبات وشجاعة زينب من وجهة نظر الآخرين
عندما نتصفّح أوراق التاريخ يتضح لنا أنّ زينب عليه السلام قد تعرفت على البلاء والمشقات منذ صغرها وكانت في كل مصيبة وبلاء مثالاً للصبر والتواضع والحركة في الاتجاه الذي يرضاه الله تعالى. لذلك كان هذا الأمر سبباً في كونها نموذجاً للثبات والشجاعة، من هنا نجد علماء المسلمين أعم من السنة والشيعة قد دونوا عبارات المدح والثناء على هذه السيدة العظيمة. مثال ذلك، يقول ابن الأثير وهو من مؤرخي السنة الكبار: "وكانت زينب امرأة عاقلة لبيبة جذلةً... وهو يدل على عقلٍ وقوة جنانٍ"[9]. وكذلك يقول جلال الدين السيوطي وهو من المفسرين: "وكانت لبيبة جذلة عاقلة لها قوة جنان"[10]. ويقول العلامة المامقاني وهو من علماء الشيعة: "وهي في الصبر والثبات وحيدة".
مصائب زينب (عليها السلام) على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي (عليه السلام)
عن قدامة بن زائدة، عن أبيه قال: قال علي بن الحسين عليه السلام: بلغني يا زائدة أنك تزور قبر أبي عبد الله أحياناً؟ فقلت: إن ذلك لكما بلغك. فقال لي: فلماذا تفعل ذلك ولك مكان عند سلطانك الذي لا يحتمل أحداً على محبتنا وتفضيلنا وذكر فضائلنا والواجب على هذه الأمة من حقنا؟ فقلت: والله ما أريد بذلك إلا الله ورسوله، ولا أحفل بسخط من سخط، ولا يكبر في صدري مكروه ينالني بسببه، فقال: والله إن ذلك لكذلك فقلت: والله إن ذلك لكذلك يقولها: ثلاثاً وأقولها ثلاثاً فقال: أبشر ثم أبشر ثم أبشر فلأخبرنك بخبر كان عندي في النخب المخزون إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا، وقتل أبي عليه السلام... وتبينت ذلك مني عمتي زينب بنت علي الكبرى فقالت: مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي؟ فقلت: وكيف لا أجزع وأهلع، وقد أرى سيدي وإخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرّجين بدمائهم مرمّلين، بالعراء مسلّبين، لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد ولا يقربهم بشر كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر فقالت: لا يجزعنك ما ترى فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله إلى جدك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً وأمره إلا علواً فقلت: وما هذا العهد؟ وما هذا الخبر؟ فقالت: حدثتني أم أيمن[11] أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زار منزل فاطمة (عليها السلام) في يوم من الأيام فعملت له حريرة (صلى الله عليها) وأتاه علي (عليه السلام) بطبق فيه تمر، ثم قالت أم أيمن: فأتيتهم بعس فيه لبن وزبد، فأكل رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهما السلام) من تلك الحريرة وشرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشربوا من ذلك اللبن، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر بالزبد ثم غسل رسول الله يده وعلي يصب الماء فلما فرغ من غسل يده مسح وجهه ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظرا عرفنا فيه السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً ثم وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه يدعو، ثم خرَّ ساجداً، وهو ينشج فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين وحزنت معهم، لما رأينا من رسول الله وهبناه أن نسأله حتى إذا طال ذلك قال له علي وقالت له فاطمة: ما يبكيك يا رسول الله لا أبكى الله عينيك؟ وقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك؟...
ثم قال جبرئيل: يا محمد إنّ أخاك مضطهد بعدك، مغلوب على أمتك، متعوب من أعدائك، ثم مقتول بعدك، يقتله أشر الخلق والخليقة، وأشقى البرية نظير عاقر الناقة، ببلد تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده، وفيه على كل حال يكثر بلواهم، ويعظم مصابهم، وإن سبطك هذا ـ وأومأ بيده إلى الحسين (عليه السلام) ـ مقتول في عصابة من ذريتك وأهل بيتك، وأخيار من أمتك بضفة الفرات، بأرض تدعى كربلاء، من أجلها يكثر الكرب والبلاء، على أعدائك وأعداء ذريتك، في اليوم الذي لا ينقضي كربه، ولا تفنى حسرته، وهي أطهر بقاع الأرض، وأعظمها حرمة، وإنها لمن بطحاء الجنة.
فإذا كان ذلك اليوم الذي يقتل فيه سبطك وأهله، وأحاطت بهم كتائب أهل الكفر واللعنة، تزعزعت الأرض من أقطارها، ومادت الجبال، وكثر اضطرابها واصطفقت البحار بأمواجها، وماجت السماوات بأهلها، غضباً لك يا محمد ولذريتك واستعظاماً لما ينتهك من حرمتك، ولشر ما يتكافى به في ذريتك وعترتك، ولا يبقي شيء من ذلك، إلا استأذن الله عزَّ وجلَّ في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجة الله على خلقه بعدك...
ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فهذا أبكاني وأحزنني.
قالت زينب (عليها السلام): فلما ضرب ابن ملجم لعنه الله أبي (عليه السلام) ورأيت أثر الموت منه قلت له: يا أبه حدثتني أم أيمن بكذا وكذا، وقد أحببت أن أسمعه منك، فقال: يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن، وكأني بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد أذلاء خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس، فصبراً صبرا، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما لله على ظهر الأرض يومئذ ولي غيركم وغير محبيكم وشيعتكم...[12].
[1] بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص116 واللهوف على قتلى الطفوف، ابن طاووس، دار الأسوة، ص201.
[2] نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الخطبة 141
[3]. بحار الأنوار، ج67، ص232.
[4] القرآن الكريم، سورة الانشراح، الآية: 5.
[5] القرآن الكريم،سورة البلد، الآية: 4.
[6] مجموعة الآثار، مرتضى المطهري، صدرا، ج1، ص176.
[7] نهج البلاغة، الرسالة 45
[8]. أصول الكافي، الكليني، دار الأضواء، ج2، ص252، وبحار الأنوار، المجلسي، مؤسسة الوفاء، ج67، ص207.
[9] أسد الغابة، ابن الأثير، دار المعرفة، ج5، ص300 والاصابة، ابن حجر العسقلاني، دار الجيل، ج7، ص684.
[10] فاطمة الزهراء بهجة المصطفى، أحمد الرحماني الهمداني، ص640.
[11] كانت خادمة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن جملة الأوائل بالإسلام ثم رافقت السيدة الزهراء عليها السلام بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد شهدت لمصلحة الزهراء (عليها السلام) في حادثة فدك بعد أن طلب أبو بكر شاهداً من الزهراء، ومع ذلك لم يقبل شهادتها مع أنه يعرف أنها من أهل الجنة. راجع: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، اسماعيليان، ج13، ص272 وج16، ص214.
[12] بحار الأنوار، المجلسي، مؤسسة الوفاء، ج45، ص179 . 183، وكامل الزيارات، ابن قولويه، مكتبة الصدوق، الباب 88، ص277 . 278.