لقد أيقنت قريش بعد المرحلة التي مرّت بها الدعوة الإسلامية إن جميع محاولاتها لضرب هذه الدعوة ودفنها في مهدها باءت بالفشل. فلا المفاوضات تمكنت من تحقيق أي تقدم على هذا الصعيد ولا سياسة الإغراء بالمال والجاه ولا سياسة الإرهاب والتعذيب ولا سلاح الدعاية ونشر الشائعات والإفتراءات، كل هذا لم يحل بين الناس والدخول في الإسلام. فالمسلمون كانوا يزدادون يوماً بعد يوم، وقد أصبحوا قوة لا يستهان بها ولا يمكن مكافحتها بسهولة.
والنبي (ص) كان يزداد ثباتا وإصراراً وقدما في تبليغ الرسالة الإسلامية. من هنا قرر المشركون أن يقوموا بمحاولة جديدة لمحاربة النبي (ص) ودعوته وهي المقاطعة لجميع بني هاشم وفرض حصار اجتماعي واقتصادي على المسلمين.
وقدّروا أن هذا الحصار سوف يؤدي إلى ثلاثة أمور. إما قيام بني هاشم بتسليمهم محمداً لقريش ليقتلوه، وإما أن يتراجع الرسول نفسه عن الدعوة، وإما القضاء على النبي (ص) والجميع من معه من الهاشميين جوعاً وعطشاً تحت وطأة الحصار.
وهكذا اجتمعوا في دار الندوة وكتبوا وثيقة جاء فيها على الإلتزام بالأمور الأتية :
أولا : ألا يزوجوا أحدا من نسائهم لبني هاشم، وألا يتزوجوا منهم.
ثانيا: ألا يشتروا منهم شيئا ولا يبيعونهم شيئا، مهما كان نوعه.
ثالثا : ألا يجتمعوا معهم على أمر من الأمور.
رابعا : أن يكونوا يدا واحدة ضد محمد وأتباعه.
وقّع على هذه الصحيفة الظالمة أربعون رجلا من زعماء قريش والشخصيات البارزة فيها. وعلقوها في الكعبة، وكان ذلك في أول شهر محرم من السنة السابعة للبعثة النبوية الشريفة. ولمّا علم أبو طالب بذلك جمع بني هاشم وبني عبد المطلب وحمّلهم مسوؤلية الدفاع عن رسول الله (ص) وحمايته والحفاظ على حياته. وأمرهم بالخروج من مكة والدخول في شعب يقع بين جبال مكة كان يعرف بـ"شعب أبي طالب".
وكان في هذا الشعب بعض البيوت العادية والمساكن البسيطة فدخل بنو هاشم الشعب بكاملهم، المسلمون منهم والكافرون ما عدا أبا لهب. وكانوا أكثر من أربعين رجلا عدا نسائهم وأطفالهم. وبقوا محاصرين في هذا الشعب سنتين أو ثلاث سنين، أي من السنة السابعة حتى السنة العاشرة.
ومن أجل إحكام الحصار عليهم اتخذ المشركون عدة إجراءات، وكانت :
أولا : نشر الجواسيس والمخبرين على الهاشمين حتى لا يأتيهم أحد بالطعام.
ثانيا : حذروا كل قادم إلى مكة المكرمة من التعامل مع المسلمين وكانوا يهددون كل من يحاول بيع المسلمين شيئا بنهب أمواله.
ثالثا : لم يتركوا طعاما إلا واشتروه خوفا من وصوله إلى المسلمين المحاصرين.
أبو طالب الحارس الأمني :
وفي المقابل، من أجل حماية النبي (ص) قام أبو طالب بعد فرض الحصار عليهم ودخولهم الشعب بالإجراءات والتدابير الأتية:
أولا: تحصين الشعب وحراسته في الليل والنهار، فكان أبو طالب يتولى حراسته هو وحمزة وغيرهما من بني هاشم على مدار الساعة، خوفا من تسلل أحد من المشركين ووصوله إلى النبي (ص) ليغتاله على حين غفلة.
ثانيا : نقل النبي (ص) من مكانه الذي ينام فيه إلى مكان أخر كإجراء أمني للحفاظ على سلامته. فقد كان أبو طالب يأمر الرسول أمام الناس بأن ينام في مكان معين، حتى إذا الجميع علم مكان مبيت الرسول، كان أبو طالب يعود عند نيام الجميع ويوقظ النبي (ص) من مكانه ويأمر أحد أبنائه، مثل علي (ع)، بالنوم مكان الرسول، ومن ثم يأخذ الرسول إلى مكان أخر لينام فيه. وهذا الإجراء كان لو قدر لأحد اغتيال النبي (ص) يصيب أحد أولاد أبي طالب فيسلم النبي.
ويقول المؤرخون عن الأوضاع التي عاشها المسلمون خلال مدة الحصار، إنهم كانوا ينفقون من أموال السيدة حديجة (عليها السلام) وأموال أبي طالب حتى نفد. وكانوا يأكلون مما ادخروه أيضاً، ومما كان يصلهم بشكل سري من وقت لأخر. ولقد كان الإمام علي (ع) يأتيهم بالطعام سراً من مكة، ولو أن المشركين علموا به لقتلوه حتماً، لأنهم لم يكونوا ليسمحوا لأحد خرق الحصار وإمداد المسلمين بالطعام والزاد.
ولم يكن يسمح للمحاصرين بالخروج من الشعب إلا في أيام المواسم، موسم العمرة في رجب وموسم الحج في شهر ذي الحجة، كانوا يشترون ويبيعون في هذه الأيام. وكانت عملية البيع والشراء هذه تتم في ظروف صعبة جدا، حيث كانت قريش تلتقي بكل التجار الأتين إلى مكة وتشتري منهم السلع التي يحملونها بمبالغ خيالية شريطة ألا تصل إلى المسلمين المحاصرين. وهكذا تمكنت قريش أن تقطع عن المسلمين الأسواق والطعام والسلع الحياتية والضرورية.
فكان المحاصرون يقاسون الجوع والحرمان في كثير من الأيام أثناء الحصار. ولقد بلغ الجوع والحرمان حداً جعلهم يأكلون الأعشاب وأوراق الأشجار وكل ما يقع تحت أيديهم من نبات الأرض.
كيف انتهى هذا الحصار القاسي؟!..
يقول المؤرخون إنه بعد ثلاث سنوات متتالية تقريباً من المقاطعة والحصار، أخبر النبي (ص) عمه أبا طالب أن الأرضة قد أكلت كل ما في صحيفة المشركين التي تعاقدوا فيها على الحصار وزال كل ما فيها من بنود، ولم يبق فيها إلا اسم الله عز وجل. فصمّم أبو طالب إخبار المشركين بذلك، فخرج من الشعب ومعه بني هاشم إلى قريش.
فلمّا رأهم المشركون ظنوا أن الجوع من أخرجهم ليستسلموا، فقالوا له :"يا أبا طالب لقد آن لك أن تصالح قومك". فقال :" لقد جئتكم بخير، إبعثوا إلى صحيفتكم فأتوا بها". فجاءوا بها ولمّا وضعت بين أيديهم قال لهم أبو طالب :" هل تنكرون منها شيئاً؟".
قالوا :"لا، هذه هي الصحيفة وعليها أختامنا". فقال أبو طالب :"إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني قط أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة فأكلت منها كل ما يدعو إلى القطيعة والظلم، وتركت كل اسم هو لله. فإن كان صادقاً أقلعتم عن ظلمنا، وإن كان كاذباً في ذلك ندفعه إليكم لتقتلوه". فصاح المشركون :"أنصفتنا يا أبا طالب". ولمّا فتحوا الصحيفة فإذا هي تماماً كما أخبر النبي (ص) فاندهش المشركون وكبّر المسلمون فتوجه أبو طالب إليهم وقال :" أتبين لكم الآن أينا أولى بالسحر؟". ولكن زعماء المشركين لم يقتنعوا بذلك، رغم أن هذه المعجزة كانت سببا في دخول جماعة من المشركين في الإسلام، كما يذكر المؤرخون.
وهكذا استمر المشركون على العمل بمضمون الصحيفة التي تدعو للمقاطعة والحصار ، إلى أن قام جماعة منهم تربطهم ببني هاشم علاقات نسبية بنقض هذه الصحيفة وإبطال مفعولها بعدما رأوا أقربائهم من الشيوخ والنساء والأطفال يتألمون من الجوع والحرمان بفعل الحصار المفروض عليهم. فخرج الهاشميون حينئذ من شعب أبي طالب في السنة العاشرة للبعثة بعد معاناة طويلة.
لقد ظن المشركون أن تجربة الحصار ستكون أقوى من سياسة التعذيب والتنكيل. وكانوا يأملون أنها إذا لم تغيّر من موقف محمد فعلى الأقل فإنها سوف تعزله عن اسرته وعائلته. ولكن النبي محمد (ص) الذي اختاره الله لرسالته لم يغيّر منه هذا الموقف شيئاً وازداد تصميماً على مواصلة تبليغ الدعوة الإسلامية، ولم يزد هذا الموقف أهله وعائلته، الذين اتبعوه وصدقوه إلا تمسكاً برسالته وتصميما بالدفاع عنه وعن الدعوة.