الحجّ اخلاص العبودية للّه تعالي

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الحجّ اخلاص العبودية للّه تعالي

الحج هجرة إلي الله تعالي بترك الأنا، والحج عبودية لله بهجر الطغيان والتبعية للطواغيت، والحج توحيد للكلمة بالاجتماع علي كلمة التوحيد، والحج قوة للموحدين باللجوء إلي الله والتوكل عليه، والحج تلبية لنداء (وأذن...) ولا لبيك بغير البراءة من الغير المستكبر

الحج أكبر تظاهرة للمسلمين يعلنون فيها الولاء لله والعداء لأعدائه، فيه تتجلي (أن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، فلا لأمريكا و لا لصنائعها ولا للسائرين وراءها خوفا أو طمعا من الحول والقوة شيئا فالقوة لله جميعا والعزة لله جميعا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وفي عصرنا قد أحيا الإمام الخميني (قدس سره) الحج الابراهيمي، وبعث الروح في أبعاده المختلفة حتي صارت الفريضة صرخة تهز عروش المستكبيرن كل عام، وعلي نهجه يكمل المسيرة خلفه الإمام الخامنئي (دام ظله) ليبقي الحج إبراهيميا محمديا علويا يمهد للحج الأكبر حيث الظهور لولي الله الأعظم والفرج للبشرية جمعاء فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملأها المستكبرون وتابعوهم من الطواغيت والعملاء وطلاب الدنيا ظلما وجورا

وفي هذا العدد تخصص آفاق تالحضارة الاسلامية ملفها للحج كما جاء في أحاديث الأمامين الخميني (قدس سره) والخامنئي (دام ظله) عسي أن يكون فيه تذكرة تعيها إذن واعية

الحج في احاديث الامام الخميني قدّس سرّه

اعملوا للاستقلال واقتلاع جذور الاستعمار

اليوم، حيث نشبت براثن الاستعمار الخبيثه بسبب تهاون و تساهل الشعوب الإسلامية في أعماق الأرض المترامية لأمّة القرآن، لتنهب جميع الثروات الوطنية والخيرات الطائلة، ولتنشر الثقافة الاستعمارية المسمومة في أعماق قري وقصبات العالم الإسلامي، ولتقضي علي ثقافة القرآن، وتجنّد الشباب افواجا في خدمة الأجانب والمستعمرين، و تطلع علينا كلّ يوم بنغمة جددية وبأسماء خادعة تظلّل بها شبابنا في مثل هذه الظروف علكيم يا أبناء الامة الأعزاء! المجتمعين لأداء مناسك الحج في أرض الوحي هذه، أن تستثمروا الفرصة وتفكّروا في الحلّ، وأن تتبادلوا وجهات النظر وتتفاهموا لحلّ مسائل المسلمين المستعصية.

واعلموا أنّ هذا الاجتماع الكبير الذي يعقد سنويا، بأمرالله تعالي، في هذه الأرض المقدسة، يفرض علكيم أنتم المسلمون أن تبذلوا الجهود علي طريق الأهداف الإسلامية المقدسة، ومقاصد الشريعة المطهرة السّامية، وعلي طريق تقدم المسلمين وتعاليهم واتحاد المجمتع الإسلامي وتلاحمه، لتشترك أفكاركم وعزائمكم علي طريق الاستقلال واقتلاع جذور سرطان الاستعمار.

اسمعوا للشعوب

اسمعوا مشاكل الشعوب المسلمة من لسان أهل كل بلد، ولا تؤلوا جهدا في اتخاذ أي اجراء لحلّ مشاكلهم.

علي أهالي كل بَلد أن يشرحوا في هذا الاجتماع المقدس مشاكل شعبهم للمسلمين...

فكّروا في أمر الفقراء والمساكين في العالم الإسلامي.

انصروا فلسطين

إبحثوا عن سبيل لتحرير أرض فلسطين الاسلامية من براثن الصهيونية العدو اللدود للإسلام والإنسانية

لا تغفلوا عن مساعدة الرجال المضحيّن الذين يناضلون علي طريق تحرير فلسطين وعن التعاون معهم.

واجب العلماء

علي العلماء المشاركين في هذا الاجتماع، من أيّ بلد كانوا، أن يصدروا بعد تبادل وجهات النظر بيانات صريحة واضحة لايقاظ المسلمين وان يوزّعوها في مهبط الوحي بين أبناء الأمّة الإسلاميّة، ثم ينشروها في بلدانهم بعد عودتهم.

وعلي العلماء أيضا أن يطالبوا زعماء البلدان الإسلامية بوضع الإسلام نصب أعينهم، و يتجنَّبوا الاختلافات، و يبحثوا عن علاج للتخلص من مخالب الاستعمار.

علي الحكام العودة للإسلام

ولو أنّ زعماء البلدان الإسلامية نبذوا الاختلافات الداخلية وتفهموا أهداف الاسلام السامية، واتّجهوانحوها، لما أصبحوا بهذه الحالة أسري ذليلين بيد الإستعمار.

ان اختلافاتهم، هي التي خلقت مشكلة فلسطين، وتحول دون حلّها فلو أنّ سبعمائة مليون مسلم، بأرضهم الغنية المترامية الاطراف، يمتلكون وعيا سياسيا، وكانوا متّحدين منتظمين في صفّ واحد، لما أمكن للدول الاستعمارية الكبري أن تنفذ إلي بلدانهم، فما بالك بحفنة من اليهود من عملاء الاستعمار...

أنا أشدّ علي يد أبناء الأمَّة الإسلاميّة، وأحرار العالم علي طريق قطع جذور الاستعمار والمستعمرين، واستقلال البلدان الإسلامية وتحطيم قيود الأسر وأسأل الله تعالي أن يدفع عنا شرّ الأنظمة المتجبّرة وأذناب الاستعمار القذرين، وأسئله أن يتقبل منكم أعمالكم ومناسككم.

إشارات عرفانية

والآن، ونحن علي أعتاب فريضة الحج المباركة، من اللازم أن يكون لنا توجه للأبعاد العرفانية والروحية والاجتماعية والسياسية والثقافية لهذه الفريضة، عسي أن يكون ذلك باعثا علي اتخاذ خطوات فعّالة أخري.

كثير من الاخوة الملتزمين تحدّثوا عن هذه الموضوعات، لهذا فانّي اكتفي باشارة عابرة الي بعض أبعاد (هذه الفريضة) لعلّها تكون تذكرة.

لمّا كانت هذه المناسك العجيبة من أول الإحرام والتلبية حتي آخر المناسك تنطوي علي اشارات عرفانية وروحية لا يتيسر الحديث عنها بتفصيل في هذا المقال، أكتفي ببعض إشارات التلبيات:

التلبيات المكرّرة تكونِ حقيقة من أولئك الذين سمعوا نداء الله فأجبوا دعوته سبحانه باسمه الجامع. المسألة مسألة الحضور في المحضر (الإلهي)، و مشاهدة جمال المحبوب وكأن الملبي قد ذابت ذاته في هذا المحضر فيكرِر تلبية (لبيك اللهم لبيك)، و يتبع ذلك سلب الشريك (لبيك لا شريك لك لبيك)... سلب الشريك بالمعني المطلق، وأهل الله يعلمون أن هذا السلب للشريك لا يقتصر علي الإلوهية، وإن كان سلب الشريك في (الالوهية) يشمل في نظر أهل المعرفة جميع المراتب حتي فناء العالم وتحوي (التلبية) جميع الفقرات الاحتياطية والإستحبابية، ففيها تخصيص الحمد بالله والنعمة به وتنفي عنه (مرّة أخري) الشريك (إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك) وهذه عند أهل المعرفة غاية التوحيد، وتعني أنّ كل حمد ونعمة في عالم الوجود إنما هو حمدالله ونعمة الله سبحانه بدون شريك ويجري هذا الموضوع والهدف الأعلي في كلّ موقف ومشعر وعمل وحركة وسكون، وخلافه الشرك بالمعني الأعمّ.

تعارف المسلمين

إنّ الحجّ يمثل أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلاميّة، حيث يتعرّف المسلمون علي اخوانهم وأخواتهم في الدين من شتّي أنحاء العالم، و يلتقون مع بعضهم في البيت الذي تتعلّق به كلّ المجتمعات الاسلامية من أتباع ابراهيم (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلي كلّ ضامر يأتين من كلّ فجّ عميق) الحج/ 27

وبنبذهم ما يمايزهم من اللون والقومية والأصل، يعودون الي أرضهم و بيتهم الأول وبمراعاتهم للأخلاق الإسلامية الكريمة، و تجنّبهم للجدال ومظاهر الزينة، يجسّدون صفاء الأخوة الاسلاميّة ومظهر وحدة الأمّة المحمديّة...

تجهزوا من مركز تحطيم الأصنام لتحطيم الاصنام الكبري

أنتم يا حجاج بيت الله الحرام، (يامن) و فدتم من أطراف العالم وأكنافه علي بيت الله مركز التوحيد و مهبط الوحي ومقام ابراهيم و محمد الرجلين العظيمين الثائرين علي المستكبرين، و سارعتم للوصول الي المواقف الكريمة التي كانت في عصر الوحي أرضا يابسة وهضابا جافة، غير أنّها كانت مهبط ملائكة الله ومحلا لهجوم جنود الله، و لتوقف أنبياء الله وعباد الله الصالحين!! اعرفوا هذه المشاعر الكبري وتجهّزوا من مركز تحطيم الأصنام لتحطيم الأصنام الكبري التي ظهرت علي شكل قوي شيطانية و(علي شكل) غزاة يمتصوّن الدماء و لا تخشوا هذه القوي الفارغة من الايمان، وبالإتكال علي الله العظيم و في هذه المواقف الكريمة اعقدوا بينكم ميثاق الاتحاد والاتفاق أمام جنود الشرك و الشيطنة، واحذروا من التفرّق والتنازع (...ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم...) الأنفال/46

أساس عظمة الأمة

ريح الايمان والاسلام، التي هي أساس النصر والقوة، تزول بالتنازع والتشرذم المنسجم مع الأهواء النفسية، والمخالف لأحكام الله تعالي والاجتماع علي الحق وتوحيد الكملة وكلمة التوحيد (عناصر تشكل) أساس عظمة الأمة الاسلامية وتؤدي إلي الإنتصار.

لا تتحق الأبعاد السياسية للحج الا بأبعاده المعنوية

إنّ المراتب المعنوية للحج هي رأس مال الحياة الخالدة، وهي التي تقرّب الانسان من أفق التوحيد والتنزيه، و لن نحصل عليها ما لم نطبق أحكام و قوانين الحج العبادية بشكل صحيح وحسن وحرفا بحرف، و اذا ما دفنتم في عالم النسيان الجهات المعنوية، فلا تظنوا أنكم قادرون علي التخلص والتحرر من مخالب شيطان النفس و ما دمتم في أسر وقيد ذواتكم وأهوائكم النفسانية، فلن تستطيعوا جهادا في سبيل الله ودفاعا عن حرماته تعالي.

علي الحجاج المحترمين والعلماء المعظّمين مسؤولي قوافل الحجاج أن يصرفوا وقتهم، و يكون كل همهم تعليم وتعلم مناسك الحج.

إعلموا جميعا أن البعد السياسي والاجتماعي للحج لا يتحقق الا بعد أن يتحقق البعد المعنوي الإلهي.

إن كلمة (لبيك) التي تتلفظون بها هي استجابة كبيرة وعميقة لدعوة الحق تعالي، وبها تنفون صفة الشرك بجميع مراتبها، و عليكم أن تشعروا بذلك انفسكم وبها تهاجرون بأنفسكم التي هي منشأ الشرك الكبير نحو الباري جلّ وعلا. وعندئذ تنالون أجركم وهو علي الله تعالي حتي وان أدرككم الموت في هجرتكم هذه.

في المواقيت الإلهية والمقامات المقدّسة، في جوار بيت الله المليء بالبركات، راعوا آداب الحضور في الساحة المقدّسة للعلي العظيم، وحرّروا قلوبكم أيّها الحجّاج الأعزاء من جميع الارتباطات المتعلّقة بغير الله، وأخرجوا من قلوبكم غير حبّ الله و نوّروها بأنوار التحليات الإلهية، حتي تكون الأعمال والمناسك في سيرها إلي الله مليئة بمضمون الحج الابراهيمي وبعده بالحجّ المحمدي، وبمقدار تخفيف الحمل من أفعال الطبيعة يسلم الجميع من أوزار المني والمنية، وبحمل ثقل معرفة الحق وعشق المحبوب تعودون إلي أوطانكم، و تجلبون للأصدقاء هدايا النعم الإلهية الأزلية بدل الهدايا المادية الفانية، و بقبضات مليئة بالقيم الإنسانية الإسلامية التي بعث لأجلها الأنبياء العظام من إبراهيم خليل الله إلي محمد حبيب الله صلّي الله عليهم وآلهم أجمعين، تلتحقون بالرفاق عشاق الشهادة. هذه القيم و الدوافع التي تحرر الانسان من أسر النفس الامارة بالسوء، و تنجي من الارتباط بالشرق و الغرب، و توصل إلي شجرة الزيتون المباركة اللاشرقية و اللاغربية.

الحج سفر إلي الله لا إلي الدنيا

يا حجاج بيت الله الحرام! انتبهوا إلي أن السفر إلي الحج ليس سفرا للتجارة، و ليس سفرا لتحصيل أمور الدنيا، إنما هو سفر إلي الله. أنتم ذاهبون إلي بيت الله الحرام، فأتموا كل الامور و الاعمال المطلوبة منكم بطريقة إلهية. إنّ سفر كم الذي يبدأ من حين التهيّؤ هو وفادة إالي الله، سفر الي الله تعالي و كما أن الانبياء (عليهم السلام) و العظماء من ديننا مسافرون الي الله في جميع أحوالهم و أوقات حياتهم، ولم يتخلّفوا خطوة واحدة عن أي شي ء في برنامج الوصول الي الله، أنتم. ايضا يجب أن يكون سفر كم الي الله تعالي، ففي الميقات الذي تذهبون اليه تلبون فيه نداء الله، و تقولون لبيك اللهم الدعوة، معاذالله أن تقوموا بعمل لا يرضاه الله تبارك و تعالي.

أنا لا أريدكم و لا اقبلكم اذ كنتم غير اسلاميين. معاذ الله أن تجعلوا هذا السفر سفرا للتجارة أو أن يكون ميدانا تبحثون فيه الامور و المسائل التجارية فيما بينكم.

أيها السادة أهل العلم، أيتها القوافل، يا رؤساء القوافل، يا سائر الحجاج، هذا السفر سفر الي الله و ليس سفرا الي الدنيا، فلا تلوّثوه بها.

ان أهم الامور في جميع العبادات هو الاخلاص في العمل. و اذا قام شخص لا سمح الله بعمل ما لاجل التظاهر به امام الاخرين، و عرض عمله الجيد أمامهم، فان عمله يصبح باطلا. ولينتبه الحجاج المحترمون وليواظبوا علي عدم اشراك غير الله في أعمالهم بأن تكون لوجهه الكريم فقط.

ان الجهات المعنوية للحج كثيرة والمهم فيها أن يعرف الحاج الي أين يذهب و دعوة من يلبّي؟ و أنه ضيف من؟ و ما هي آداب هذه الضيافة؟

و ليعلم أن الغرور و النظرة الذاتية لا يجتمعان مع حب الله و طلبه، بل يتناقضان مع حب الله و الهجرة اليه، و بالتالي تكونان سببا لنقص معنويات الحج و نقض أجره و ثوابه. و اذا ما اكتسب الانسان الحاج معنويات الحج و أجره و ثوابه و قطف ثمار مناسكه، و اذا ما تحققت لبيك صادقة و مقرونة بنداء الحق تعالي، حينها ينتصر الانسان في جميع الميادين السياسية و الاجتماعية والثقافية و حتي العسكرية، و مثل هذا الانسان لن يعرف الهزيمة.

الهي اجعل جزءا من هذا السير و السلوك المعنوي واجعل الهجرة الإلهية من نصيبنا جميعا.

ليلتفت أولئك الذين يذهبون الي الحج أن لا يخلطوا لحظة واحدة حجّهم بالمعاصي. ينبغي أن يكون كلّ شي ء اسلاميا و كل شي ء عبادة، لتكن المظاهرات عبادة، ولتكن الشعارات عبادية، خالية من المعصية، لتكن علي النحو الذي أراده الله، و أن لا يفعل كلّ واحد منكم ما يريد، و أن يقول يكون كلامنا و فعلنا و كل شي ء طبق برنامج اسلامي صحيح و أن لا نغفل عنه أبدا.

مكة و المدينة مسرح نهضة الاسلام

من النقاط المهمة التي ينبغي علي الحجاج الكرام الالتفات اليها أن مكة المكرمة و المشاهد المشرفة هي أساس الاحداث الكبيرة لنهضة الانبياء و الاسلام و رسالة النبي الاكرم (صلي الله عليه و آله) و هي مكان نزل فيه الانبياء و جبريل الامين، هذا المكان الذي يذكرنا بالمصائب والصعوبات، التي تحملها النبي الاكرم (صلي الله عليه و آله) في سبيل الاسلام و البشرية لسنين طويلة و أن التواجد في هذه المشاهد المشرقة و الاماكن المقدسة لهو من الاهمية بمكان. و اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الشروط الصعبة لبعثة النبي عرفنا أكثر مسؤولية الحفاظ علي انجازات هذه النهضة و هذه الرسالة الالهية، و كم عاني النبي الاكرم (صلي الله عليه و آله) و أئمة الهدي (عليهم السلام) من الغربة لاجل دين الحق و ازهاق الباطل. لقد استقاموا و وقفوا ولم يهابوا أو يجزعوا علي كثرة التهم و الاهانات التي كالتها ألسنة امثال أبي لهب و أبي جهل و أبي سفيان. وفي نفس الوقت استمروا و أكملوا طريقهم مع وجود الحصار الاقتصادي في شعب أبي طالب، ولم يستسلموا و لم يهنوا، و من بعدها تحمّلوا الهجرة و الغربة و مراراتها و آلامها في سبيل دعوة الحق، و تبليغ رسالة الله، و تواجدوا في الحروب المتتالية و غير المتكافئة. و رغم المؤامرات و مع كثرة المنافقين، قاموا بهداية و ارشاد الناس بهمّة عالية و صلبة حيث شهدت صخور و حصي مكّة والمدينة و صحاريها و جبالها و أزقتها و أسواقها آثار تبليغ رسالتهم.

و اذا ما رفعنا الستار و كشفنا النقاب عن سرّ و رمز تحقق، (فاستقم كما أمرت). لعرف و علم زوّار بيت الله الحرام كم سعي رسول الله (صلي الله عليه و آله) لاجل هدايتنا و حصل المسلمين علي الجنة، و كم أن مسؤولية أتباعه ثقيلة، و يقينا أن حجم الظلم و العذاب و الصعوبات التي مرت علي أئمتنا كانت أكبر و أكثر بمراتب من مشاكلنا و آلامنا نحن، مع أن الشعب في ايران قدم الشهداء و خاصة ابان الحرب المفروضة و أثناء أحداث الثورة المباركة، و عاني الكثير من الصعوبات و الالام، و تحمل الظلم الكبير و قدم الشباب الاعزاء في سبيل الله.

ان الكعبة المعظّمة هي المركز الاوحد لتحطيم الاصنام، لقد رفع نداء التوحيد من الكعبة ابراهيم الخليل في أول الزمان، و سيرفعه حبيب الله ولده المهدي العزيز الموعود. (روحي فداه) في آخر الزمان، و سيبقي مرتفعا. قال الله تعالي لخليله ابراهيم: (و أذّن في الناس بالحج يأتوك رجالا و علي كل ضامر يأتين من كل فج عميق)

عودة الحياة للمساجد

... بيت الله الحرام أوّل بيت بني للناس، هو بيت للجميع، الجميع سواسية هناك. فأهل البادية، و سكّان الصحاري، الذين يحملون بيوتهم علي أكتافهم، متساوون مع العاكفين في الكعبة و سكّان المدن، و رعايا الدول.

هذا البيت شيّد للناس و لاجل نهضتهم و منافعهم.

انّ المسجد الحرام و المساجد الاخري في زمان رسول الله الاكرم (صلي الله عليه و آله و سلم) كانت مراكز عسكرية و سياسية و اجتماعية) و لم يكن مسجد رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم) لاجل الامور العبادية فقط كالصلاة ... بل كانت المسائل السياسية هي الاغلب، حيث كانت الامور التي تتعلق بارسال الرجال الي الحرب و تعبئة الناس انّما تبدأ من المسجد في أي وقت يحتاجون فيه لذلك.

لاتخضعوا لغير الله

ان الطواف حول الكعبة المشرّقة يعني أنّ الانسان لن يطوف لغير الله. ورجم العقبات هو رجم شياطين الانس و الجن، و أنتم عندما ترجمون عاهدوا الله أن تقتلعوا شياطين الانس والقوي العظمي من البلاد الاسلامية. اليوم كلّ العالم الاسلامي أسير بيد أمريكا، احملوا من الله رسالة الي مسلمي القارات المختلفة للعالم الاسلامي رسالة أن لا تخضعوا لغير الله و لا تكونوا عبيدا لاحد.

لقد وفقتم أنتم لزيارة البيت الذي جعله الله قياما للناس و جعله الله لاجل جميع البشر و تفضيل قائلاً: (انّ أوّل بيت وضع للنّاس للذي ببكّة) و هذا دليل علي أنّ اللّه تبارك و تعالي دعا العالم كلّه الي الاسلام، و جعل هذا البيت لجميع العالم منذ زمن البعثة و حتّي النهاية.

هذا بيت للنّاس، ولا توجد أولوية لاحد علي أحد، أو لمجموعة علي أخري، أو لطائفة علي أخري، الجميع بشر، الموجودون في جميع أنحاء الدنيا في مشارق الارض و مغاربها، مكلّفون أن يصبحوا مسلمين، و أن يجتمعوا ويزوروا هذا البيت الذي جعله الله للنّاس.

لبيك اللهم لبيك ... لا لجميع الاصنام

عندما تلفظون لبيك اللهمّ لبّيك قولوا: لا، لجميع الاصنام، و اصرخوا: لا، لكلّ الطواغيت الكبار والصغار.

وأثناء الطواف في حرم الله حيث يتجلّي العشق الالهي، أخلوا قلوبكم من الاخرين، وطهروا أرواحكم من أي خوف لغير الله. وفي موازاة العشق الالهي، تبرأوا من الاصنام الكبيرة والصغيرة و الطواغيت و عملائهم و أزلامهم، حيث انّ الله تعالي و محبيه تبرّأوا منهم، و انّ جميع أحرار العالم بريئون منهم.

و حين تلمسون الحجر الاسود أعقدوا البيعة مع الله أن تكونوا أعداء لاعداء الله و رسوله والصالحين و الاحرار، و مطيعين و عبيدا له، أينما كنتم و كيفما كنتم. لا تحنوا رؤوسكم و اطردوا الخوف من قلوبكم، و اعلموا أن أعداء الله و علي رأسهم الشيطان الاكبر جبناء ، و ان كانوا متفوّقين في قتل البشر و في جرائمهم و جناياتهم.

أثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يريد الوصول الي المحبوب، حتي اذا ما وجدتموه هانت كل الامور الدنيوية، و تنتهي كل الشكوك و الترددات، و تزول كل المخاوف والحبائل الشيطانية والارتباطات القلبية المادية، و تزهر الحرية، و تنكسر القيود الشيطانية و الطاغوتية التي أسرت عبادالله.

اطمئنوا لوعد اقامة حكم المستضعفين

سيروا الي المشعر الحرام و عرفات و أنتم في حالة احساس و عرفان، و كونوا في أي موقف مطمئني القلب لوعد الله الحقّ باقامة حكم المستضعفين. و بسكون و هدوء فكّروا بآيات الله الحقّ، و فكّروا بنجاة المحرومين و المستضعفين من براثن الاستكبار العالمي، واطلبوا من الحقّ تعالي في تلك المواقف الكريمة تحقيق سبل النجاة. بعد ذلك عندما تذهبون الي مني اُطلبوا هناك أن تتحقّق الامال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحب شي ء في طريق المحبوب المطلق، واعلموا أنه ما لم تتجاوزوا هذه الرغبات، التي أعلاها حبّ النفس و حبّ الدنيا التّابع لها، فسوف لن تصلوا الي المحبوب المطلق. و في هذا الحال ارجموا الشيطان، واطردوا الشيطان من أنفسكم، و كرروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناء علي الاوامر الالهي ء لدفع شر الشياطين و أبنائهم عنكم.

ان هذا السفر الالهي الذي تذهبون اليه، و ترجمون فيه الشيطان، و اذا ما كنتم لا سمح الله من جنود الشيطان سترجمون أنفسكم أيضا. يجب أن تكونوا فيه رحمانيين، و أن تصبحوا رحِمانيين، حتي يكون رجمكم رجم أتباع الرحمن، و جنوده للشياطين، و أنتم تقفون في تلك المواقف و المواضع الكريمة، معاذ الله أن يتلوث و قوفكم بشي ء خلاف الشرع، أو يتلوّث بالمعصية، ففضلا عن اراقة ماء الوجه أمام الله تسقط كرامة الاسلام في الدنيا. اليوم كرامة الاسلام شامخة بوجودكم، أنتم الذين تذهبون جماعات جماعات الي تلك المواقف الكريمة، ويشاهدكم سائر المسلمين من شتي بقاع الدنيا.

الحج دستور علمي للجهاد

علي الحجّاج و الزوار الاعزاء أن يتوجهوا من الكعبة، و هي أفضل و أقدس بقاع الحبّ و الجهاد، نحو كعبة أسمي كما هو سيد الشهداء الامام «أبي عبدالله الحسين (عليه السلام)» حيث توجّه من احرام الحجّ الي احرام الجهاد، و من طواف الكعبة الي طواف صاحب البيت، و من الوضوء بزمزم الي غسل الشهادة، و بهذا تُبدَّل الامة الي أمّة ذات بنيان مرصوص لا تعرف الهزيمة. ولن تجرأ لا القوي الشرقية و لا الغربية علي مواجهتها.

ولا شك في أنّ روح الحج و نداءه، لا يمكن أن يكون غير هذا، حيث أن المسلمين يستلهمون من الحج الدستور العلمي للجهاد ضد النفس و الهوي، و النهج لمقارعة الكفر والشرك.

علي أية حال، انّ اعلان البراءة في الحج تجديد لميثاق النضال، و هو تمرين لاعداد صفوف المجاهدين، و مواصلة الصراع ضد الكفر والشرك و عبدة الاوثان.

كما أنّه لا ينحصر برفع الشعارات، بل انه منطلق علني لاعلان النضال، و تنظيم صفوف جنود الرحمن في مواجهة جنود الشيطان و المتأسين بابليس. لهذا فالحج من مبادي التوحيد الاولي.

اذا لم يعلن ألمسلمون براءتهم من أعداء الله، في بيت الله، فاين اذن يعلنون عن ذلك؟

و اذا لم يكن الحرم والكعبة والمسجد والمحراب، معقلا و سندا لجنود الله، وللمدافعين عن الحرم و حرمة الانبياء، فاين اذن يكمن مأمنهم و ملجاهم؟

و بكلمة واحدة، انّ اعلان البراءة يمثل المرحلة الاولي للنضال، و انّ مواصلة المراحل الاخري هي من واجبنا، و أنّ أداءها في كل عصر و زمان، يختلف باختلاف الاساليب والبرامج الخاصة بذلك العصر والزمان، و لابد من أن نري ما الذي نتمكن من عمله في عصر كعصرنا، الذي عرض فيه زعماء الكفر و الشرك كل وجود التوحيد للخطر، وجعلوا من المظاهر القومية، والثقافية، والدينية أهوائهم و شهواتهم الخاصة؟!

هل ينبغي ملازمة البيوت، والاكتفاء بالتحصيلات، و بالتالي، القاء روح العجز و الخنوع في قلوب المسلمين، والحيلولة دون وصول المجتمع الي الاخلاص، الذي هو غاية الكمال و نهاية الامال؟

الحج والحياة الكريمة

الحج هو نداء لايجاد و بناء المجتمع البعيد عن الرذائل المادية والمعنوية. الحج و مناسكه هو تجلّ عظيم لحياة كريمة و مجتمع متكامل في هذه الدنيا. و من ذلك المكان و من ذلك الموقع الذي يتواصل فيه مجتمع المسلمين من اي قوميه كانوا، و يصبحوا يدا واحدة، ينطلق أداء هذه الفريضة المباركة، التي يجب أن يكون أداؤها و جوهرها توحيديا ابراهيميا محمديا. انّ الحج هو ساحة عرض و مرآة صادقة للاستعدادت و القابليات المادية و المعنوية للمسلمين، الحج كالقرآن يستفيد منه المجتمع. فالمفكرون و العارفون بالآم الامة الاسلامية اذا ما فتحوا قلوبهم، ولم يهابوا الغوص عن قرب في أحكامه و سياساته الاجتماعية، سيصطادون الكثير من صدف هذا البحر، جواهر الهداية و الرشد والحكمة و الحرية، و سيرتوون الي الابد من زلال حكمته و معارفه، ولكن ماذا نفعل؟ و أقولها بألم و حزن: ان الحج أصبح مهجورا كالقرآن و بنفس النسبة التي اختفي فيها هذا الكتاب كتاب الحياة و الكمال و الجمال بسبب حجب النفس التي صنعناها بأيدينا، و دفنا هذا الكنز، كنز أسرار الخلق، فكذلك الحج أصبح أسير هذا القدر، قدر أن الملايين من المسلمين يجتمعون كلّ سنة و يضعون أقدامهم محل قدم محمد و ابراهيم و اسماعيل و هاجر و لا يوجد أحد يسأل ماذا فعل ابراهيم(ع) و محمد(ص)؟ ما هو هدفهما؟ ماذا طلبا منّا؟ و هذا ما لانفكر فيه!

من المسلّم أن حجا دون معرفة ووعي و دون روح و دون حركة و نهوض، و حجا دون براءة، و حجا دون وحدة، و حجا لا ينتج هدما للكفر و الشرك، ليس حجا. و خلاصة الامر أنه يجب علي جميع المسلمين السعي لاجل تجديد حياة الحج و القرآن و اعادتهما ثانية الي ساحة حياتهم، و علي المحققين المؤمنين بالاسلام أن يبينوا التفاسير الصحيحة و الواقعية لفلسفة الحج، ويرموا في البحر كلّ نسيج خرافات و ادعاءات علماء البلاط.

و انني اُوصي جميع العلماء المحترمين و الكتاب والمتحدّثين الملتزمين أن يوضّحوا لجميع المسلمين و خاصة الحجاج منهم أهداف هذه الفريضة المقدسة... كما أني أوصيهم بتعليم الحجاج مناسك الحج و كيفية أدائها بشكلها الصحيح حتي يكون عملهم خاليا من الاخطاء ، و عدم الاكتفاء بأننا أدينا الفريضة و أنجزنا الواجب كيفما كان، فانّ الاخطاء في هذه الفريضة تترك آثارا و اشكالات علي صحتها قد تكلفهم وقتا وجهدا مضاعفا لتصحيحها.

ضحوا بأنفسكم و اعزائكم وأقيموا دين الله

أقدم التهاني و التبريكات الخالصة لجميع المسلمين في العالم بمناسبة حلول عيد الاضحي المبارك. هذا العيد الذي يذكر الناس الواعين بمذبح الفداء الابراهيمي، هذا المذبح الذي قدم درس الفداء و الجهاد في سبيل الله تعالي لابناء آدم و أصفياء و أولياء الله، هذا العمل بعمق أبعاده التوحيدية و السياسية لا يستطيع ادراكه غير الانبياء العظام و الاولياء الكرام و خاصة عباد الله. هذا أبو التوحيد و محطّم أصنام العالم، علّمنا و البشرية جمعاء أنّ التضحية في سبيل الله و قبل أن تكون ذات بعد توحيدي و عبادي، تمتلك أبعادا سياسية وقيما اجتماعية، علمنا و جميع الناس كيف نقدّم أعزّ ثمرات حياتنا في سبيل الله، لذا فاني أناشدكم: ضحّوا بأنفسكم و أعزّائكم و أقيموا دين الله و العدل الالهي.

لقد عرفنا نحن ذرية آدم أنّ مكّة و مني أماكن لنشر التوحيد و نفي الشرك، الذي من مصاديقه التعلّق بالنفس و الاعزاء.

لقد تعلّم أبناء آدم من هذه الاماكن الجهاد في سبيل الله فعليكم أن تعلموا العالم قيمة الفداء والتضحية، وقولوا له، انّه في سبيل الله و اقامة العدل الالهي و قطع أيادي المشركين في هذا الزمان، يجب أن يخلد الحق بتمامه ببذل أيّ شي ء حتي ولو كان مثل اسماعيل. انّ ابراهيم و اسماعيل و ولده العزيز سيد الانبياء محمد المصطفي (صلي الله عليه و آله) محطمو الاصنام و معلمو البشرية أنّه يجب تحطيم كل الاصنام و الاوثان كيفما تكون. و أنّ الكعبة، أم القري علي امتدادها وسعتها و حتّي آخر نقطة من الارض، و حتّي آخر يوم في العالم يجب أن تطهّر من دنس الاصنام، أي صنم كان و كيفما كان أكان هياكل أو شمسا أو قمرا أو حيوانا و انسانا آو صنما و هل هناك أسوا و أخطر من الطواغيت علي امتداد التاريخ، من زمن آدم صفي الله حتّي ابراهيم خليل الله، الي محمد حبيب الله (صلي الله عليه و آله) حتّي آخر الزمان الذي يظهر فيه امامنا المهدي الموعود ليحطم آخر الاصنام و يطلق نداء التوحيد من الكعبة. أو ليست القوي الكبري في زماننا أصناما كبيرة سيطرت علي العالم ودعته لعبادتها و فرضت نفسها عليه بالقوة و التزوير؟! ... انّ الكعبة المعظّمة هي المركز الاوحد لتحطيم هذه الاصنام و تطهير هذه البقاع من كلّ أنواعها. قال الله تعالي: (... و طهّر بيتي للطائفين و القائمين و الركّع السجود)

كونوا يدا قرآنية واحدة

أيّها الحجاج. احملوا من ربّكم نداء الي شعوبكم الا تعبدوا غير الله، و أن لا تخضعوا لغيره.

الاسلام دين عبادته سياسة و سياسته عبادة.

الحج الخالي من الروح والحركة و القيام والبراءة والوحدة والحج العاجز عن هدم صروح الكفر والشرك، ليس هذا حجا.

انّ صرخة البراءة من المشركين في مواسم الحج هي صرخة سياسية. عبادية قد أمر بها رسول الله (صلي الله عليه و آله)، و ليست مختصةً بزمان خاص، و ان انقرض المشركون من الحجاز، فنهضة الناس ليست مختصة بزمان بل هي دستور كلّ زمان و مكان، و في هذا التجمع البشري العام سنويا تعد من جملة العبادات المهمّة الخالدة الي الابد.

الحج هجرة الي الله

انّ حجّاج بيت الحرام، الذين يتحررون من قفص البدن و قيود الدنيا، و يهاجرون الي الله و رسوله، حيث يصبح البيت القلب، و لا شي ء فيه غير المحبوب الحقيقي، بل لا شي ء غيره في الداخل و الخارج. يجب أن يعلموا أن الحج الابراهيمي المحمدي صلوات الله عليهما و آلهما، مهجور و غريب منذ سنين طويلة سواء من الناحية المعنوية و العرفانية أم من الناحية السياسية و الاجتماعية، و يجب علي الحجّاج الاعزّاء من سائر الدول الاسلامية أن يعيدوا الكعبة و بيت الله من غربتهما و بجميع أبعادهما ...

انّ هذا المؤتمر الذي ينقعد بدعوة من ابراهيم و محمد و آلهما، و يقصد اليه من كلّ زوايا الدنيا، و من كلّ فجّ عميق للاجتماع فيه، لاجل منافع النّاس و القيام بالقسط ، و للاستمرار بتحطيم الاصنام التي بدأ بتحطيمها ابراهيم و محمد، و طواغيت فرعون التي محاها موسي ...

انّ فريضة الحجّ التي هي لبيك بحقّ، و هجرة الي الله انّما هي ببركة ابراهيم و محمد صلوات الله عليهما و آلهمآ بمعني «لا» لجميع الاصنام و الطواغيت و الشياطين و أبنائهم.

عبادات الاسلام تلائم سياساته

(كثير من الاحكام العبادية تصدر عنها معطيات اجتماعية و سياسية، فعبادات الاسلام عادة تلائم سياساته و تدابيره الاجتماعية.

و اجتماع الحجّ يؤدّي بالاضافة الي ما له من آثار خلفية و عاطفية الي نتائج و آثار سياسية. استحدث الاسلام هذه الاجتماعات و ندب الناس اليها، و ألزمهم ببعضها حتي تعمّ المعرفة الدينية و العواطف الاخوية، و يتمّ التعرف بين الناس، و تنضج الافكار و تنمو و تتلاقح، و تبحث المشاكل السياسية و الاجتماعية و حلولها.

في الدول غير الاسلامية تنفق الملايين من ثروة البلاد و ميزانيتها من أجل عقد مثل هذه الاجتماعات، و اذا انعقدت فهي في الغالب صورية شكلية تفتقر الي عنصر الصفاء و حسن النيّة، والاخاء المهيمن علي الناس في اجتماعاتهم الاسلامية، و لا تؤدّي بالتالي الي النتائج المثمرة التي تؤدي اليها اجتماعاتنا الاسلامية.

وضع الاسلام حوافز و دوافع باطنيّة تجعل الذهاب الي الحجّ من أغلي أماني الحياة، و تحمل المرء تلقائيا الي حضور الجماعة و الجمعة والعيد بكلّ سرور و بهجة. فما علينا الا أن نعتبر هذه الاجتماعات فرصا ذهبية لخدمة المبدأ والعقيدة لنبيّن فيها العقائد و الاحكام و الانظمة علي رؤوس الاشهاد و في أكبر عدد من الناس.

علينا أن نستثمر موسم الحجّ و نجني منه أطيب الثمار في الدعوة الي الوحدة و الدعوة الي تحكيم الاسلام في النّاس كافّة، علينا أن نبحث مشاكلنا و نستمدّ حلولها من الاسلام. علينا أن نسعي لتحرير فلسطين و غيرها.

فالمسلمون الاوائل كانوا يجنون من جماعاتهم و جمعاتهم و مواقف حجّهم أحسن الثمار).(1)

الحج في أحاديث الامام الخامنئي

الحج نعمة الهية

قال الله الحكيم: (و اذ قال ابراهيم ربّ اجعل هذا البلد آمنا واجنُبني و بنيّ أن نعبد الاصنام ربّ انهنّ أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانّه منّي و من عصاني فانّك غفور رحيم).

أطل علينا موسم الحجّ، و ملات نغمة التلبية المتصاعدة من قلوب المشتاقين حرم الامن الالهي، و هرعت الشعوب الاسلامية من أرجاء المعمورة الي ميعاد الذكر و الاستغفار و القيام والاتحاد، و تلاقي الاخوة المتباعدون ... أتوجّه الي الله العزيز الحكيم شاكرا خاضعا، و أحمده حمدا عظيما عظم صفاته الحسني، وأثني عليه سبحانه ثناءا واسعا، سعة بحار رحمته، أن وفّق المسلمين المشتاقين مرّةً أخري لاداء هذه الفريضة، و أعلا جلّ شأنه. بذلك رايةَ العزّة والعظمة علي رؤوس المسلمين في بيته الامن، واستضاف الحجاج الايرانيين أيضا علي مائدة الرحمة و العظمة.

انّ الانسان ليعجز عن و صف هذه النعمة الكبري و قدرها و ان أوتي فصاحة اللسان و قوّة البيان. و لعل الله سبحانه ينير قلوبكم المضيئة المشتاقة فتتجلّي فيها تلك الحقيقة المستغنية عن وسائط القول والكلام.

أيّها الاخوة و الاخوات مَنَّ أي بلد كنتم و الي أي شعب انتميتم انّ ما يهمّني أن أقوله لكم هو أنّ الحج نعمة الهيّة من بها الله سبحانه علي الاجيال المسلمة. و شكر هذه النعمة و معرفة قدرها يزيدها، والكفران بها ونكران قدرها يسلبها من المسلمين، و هو العذاب الالهي الشديد: (ولئن كفرتم انّ عذابي لشديد).

واعلموا أنّ سلب نعمة الحجّ ليس في عدم توجّه المسلمين لاداء هذه الفريضة، بل في حرمان المسلمين من منافعه التي لاتحصي، و زيادة هذه النعمة ليس في زيادة عدد الحجاج كلّ عام، بل في استثمار منافعه: (ليشهدوا منافع لهم).

الحج الصحيح

جدير بنا أن نفكّر جيّدا، هل العالم الاسلامي استطاع أن يستثمر منافع الحج؟ و ما هي هذه المنافع أساسا؟

الحج الصحيح يستطيع أن يحدث تغييرا في المحتوي الداخلي لكلّ فرد من أفراد المسلمين. يستطيع أن يغرس في نفوسهم روح التوحيد، و الارتباط بالله، و الاعتماد عليه، و روح الرفض لكلّ الاصنام الداخلية و الخارجية في وجود الكائن البشري، هذه الاصنام المتمثلة في الاهواء والشهوات الدنيئة، والقوي الطاغية المسيطرة. الحج يستطيع أن يرسخ الاحساس بالقدرة والاعتماد علي النفس والفلاح والتضحية. و مثل هذا التحوّل يستطيع أن يصنع من كلّ انسان موجودا لا يعرف الفشل ولا ينثني أمام التهديد و لا يضعف أمام التطميع.

والحجّ الصحيح يستطيع أن يصنع من الاشلاء الممزّقة لجسد الامة الاسلامية كيانا واحدا فاعلا مقتدرا، و أن يجعل هذه الاجزاء المتفرقة تتعارف و تتبادل الحديث عن الامال و الالام، والتطورات والاحيتاجات المتقابلة، والتجارب المستحصلة.

ولو أنّ الحجّ وضع ضمن اطار برنامج يتوخّي هذه الاهداف والنتائج و تتضافر عليه جهود الحكومات والعلماء، و أصحاب الرأي و الكلمة في العالم الاسلامي، لعاد علي الامة الاسلامية بعطاء ثرّ آ لا يمكن مقارنته بأي عطاء آخر في دنيا الاسلام. كما يمكن القول بكل ثقة: انّ هذا التكليف الالهي وحده، لو استثمر استثمارا صحيحا كما أرادته الشريعةُ الاسلامية، لاستطاع بعد مدة غير طويلة أن يبلغ بالامة الاسلامية ما يليق بها من عزة و منعة.

لابد من أن نذعن بمرارة الي أنّ الفاصلة كبيرة بين الشكل الحالي الاداء هذه الفريضة الالهية والشكل المطلوب. الامام الراحل العظيم بذل جهودا فعّالة في هذا السبيل، و وضع نصب أعين الامة الاسلامية تصويرا واضحا عن الحجّ الابراهيمي، حجّ العظمة والعزة، حجّ الرفض و التحوّل. و كان طرح هذا التصوّر بحد ذاته مبعث بركات وافرة في العالم الاسلامي. غير أنّ نشر هذه الفكرة و هذا المنهج العملي بين جميع الشعوب المسلمة بحاجة الي جهود مخلصة ينهض بها علماء الدين، و وعي و تعاون يبديه حكام كلّ البلدان الاسلامية، و آمل أن تكون هذه المهمة الحساسة موضع اهتمامهم و عملهم.

الحج شعائر

(و أذّن في الناس بالحجّ يأتوك رجالا و علي كلّ ضامر يأتين من كلّ فج عميق) الحج / 27.

أقبل شهر ذي الحجه الحرام بكلّ ما يحمله من عطاء أبدي للأمة الاسلامية.

حمدالله. سبحانه علي ما أنعم به من هدية خالدة و ينبوع دفّاق، يستطيع المسلمون أن يتزودوا منهما كلّ سنة بقدر همتهم و بقدر معرفتهم.

المصالح والمنافع التي أودعها العلم الالهي و الحكمة الالهية في فريضة الحج تبلغ من السعة و التنوع بحيث لا يري لها شبيه في فريضة اسلامية أخري. الذكر والحضور المعنوي، ووعي الانسان المسلم لنفسه في خلوته مع الله، و غسل القلب من صدا الذنب و الغفلة، و احساس الحضور في المجموع، واستشعار وحدة كلّ مسلم مع جميع الامة المسلمة و تحسس القدرة المنبثقة عن عظمة جماعة المسلمين، و سعي كلّ فرد لان يبرأ من أسقامه و أمراضة المعنوية، أي الذنوب، ثم البحث والسعي لمعرفة ما يعاني منه جسد الامة المسلمة من آلام و جراحات عميقة، و معرفة دوائها و علاجها، و مواساة الشعوب المسلمة التي تشكل أعضاء هذا الجسد العظيم كل ذلك قد أودع في الحجّ ... في تركيب أعماله و مناسكه المختلفة.

القرآن يطلق علي أعمال الحجّ اسم «الشعائر» و هذا يعني أنها لاتنحصر في أعمال فردية و تكاليف شخصية، بل آنهامعالم تثير شعور الانسان و تفتح معرفته علي ما ترمز له تلك المعالم و تدل عليه. و وراء هذه المعالم يقف التوحيد، أي رفض كلّ القوي التي تهيمن بشكل من الاشكال علي جسم الانسان و روحه، و ترسيخ الحاكمية الالهية المطلقة علي كل الوجود، و بعبارة واضحة و مألوفة: حاكمية النظام الاسلامي و القوانين الاسلامية علي الحياة الفردية والاجتماعية للمسلمين.

اجتنبوا الرجس من الاوثان

... في آيات الحج نري القرآن يدعو الجميع الي البراءة من أوثان المشركين:

و هذه الاوثان كانت يوما تلك الاوثان المنتصبة في الكعبة، لكنها اليوم و دائما، تلك القوي التي تمسك دون حقّ بزمام الحاكمية علي نظام حياة البشر، و تتجلّي اليوم بوضوح أكثر في قدرة الاستكبار و قدرة أمريكا الشيطانية، و قدرة ثقافة الغرب، والفساد و التحلل المفروض علي البلدان و الشعوب المسلمة. واضح آن أذناب الحكومات المهزوزة و مأجوريها يصرون علي أنّ الاوثان ليست الا «منات» و «لات» و «هبل»، التي سحقت و خطمت تحت أقدام جيش رسول الله (صلي الله عليه و آله) في الفتح الاسلامي الظافر.

هدف وعاظ السلاطين هؤلاء أن يفرغوا الحج كما يصرّحون هم بذلك من أي محتوي سياسي ... غافلين أن هذا التجمع المليوني الاسلامي من كلّ حدب و صوب، في بقعة معينة و في زمان معين، ينطوي بنفسه علي أكبر مضمون سياسي، انه استعراض للامة الاسلامية تذوب فيه الاختلافات العنصرية و اللغوية والجغرافية والتاريخية، وينبثق من «كلّ» واحد.

هؤلاء و أسيادهم يلفّقون كلّ ألوان الاكاذيب و الخداع و الاباطيل من أجل أن لا يعي المسلمون حقيقة هذا التجمع الكبير، و أن لا يستشعروا الروح الجماعية فيه... ولكي يضيقوا الساحة علي الداعين الي الوحدة، والمنادين بالبراءة من أئمة الشرك.

ايران الاسلام أرادت أن تقوم بأقل عمل. ان لم يكن بأكبر عمل. يتناسب مع موضوع الحج، و هو دعوة المسلمين الي الإتحاد، و تبادل الاخبار بين الشعوب، و اعلان النفرة والبراءة من أئمة الشرك و الفساد. و كل من يجابه هذه الاهداف السامية القيمة، فهو مهما قال، فقد قال زورا. والقرآن يقول: (... واجتنبوا قول الزّور) الحج / 30

(قول الزور) هو ذلك الحديث الباطل الذي يسي ء الي الجمهورية الاسلامية، لان الجمهورية الاسلامية رفضت حاكمية دولة الصهاينة علي فلسطين الاسلامية، وردّت كلّ تسوية تقوم بها حفنة من الفاسدين المطرودين مع الغاصبين، وأدانت التدخّل الاميركي الاستيلائي في البلدان العربية، واستنكرت خيانة بعض حكّام العالم الاسلامي لشعوبهم المسلمة ارضاء لامريكا والصهيونية، ودعت المسلمين الي معرفة قوتهم الكبري التي لا تقوي أية قوة كبري اليوم أن تقف بوجهها، و قررت أن المعرفة الاسلامية و أحكام الشريعة قادرة علي ادارة البلدان الاسلامية، و حذّرت من غارة الثقافة الغربية علي البلدان الاسلامية، متمثلة ... و بعبارة موجزة أصرت علي اتّباع القرآن.

اغتنموا فرصة الحج

... واذ وفّق الله سبحانه جمعا من السعداء الذين توافدوا من كلّ فجّ عميق لينالوا حظّهم من الايام المعلومات و حج بيت الله الحرام، فاني أتضرّع و أبتهل الي الله سبحانه و تعالي أن يكون حجّهم مقبولا مأجورا، أن ينعم بمنافعه علي كلّ الامة المسلمة، وأتقدّم ضمنا بتوصيات الي الاخوة و الاخوات بما يلي:

1 اغتنموا هذه الفرضة لبناء النفس و الانابة و التضرّع، و خذوا منها زادكم المعنوي لجميع عمركم.

2 اسألوا الله سبحانه أن يفرّج عن المسلمين مشاكلهم الكبري، و كرروا هذا الطلب مرّات و مرّات في أدعيتكم و مناجاتكم.

3 اغتنموا كلّ فرصة للتعرّف علي المسلمين الوافدين من جميع أرجاء العالم، واستفيدوا ممّا في مجريات حياتهم من جوانب سلبية أو ايجابية. و علي المسلمين، غير الايرانيين خاصة، أن يسمعوا حقائق و قضايا ايران الاسلام من لسان اخوتهم الايرانيين، ليميزوا الصحيح عن غير الصحيح ممّا سمعوه بشأنهم من الاعلام العالمي.

وليسعوا اليوم و دائما أن يستوعبوا تعاليم الامام الراحل العظيم الامام الخميني رضوان الله تعالي عليه بشأن ما يرتبط بمسائل المسلمين، و أن يتعرّفوا عن قرب، و بشكل أفضل، علي هذا المصلح الكبير في تأريخ الاسلام.

4 انقلوا كلّ معلوماتكم و اطلاعاتكم الصحيحة عن وضع الامّة الاسلامية، أو عن بلدكم الي المسلمين القادمين من البلدان الاخري.

5 في حديثكم مع اخوانكم المسلمين، من أَي صقع كانوا، ركّزوا علي مسألة «الامة الاسلامية» والنظرة الشمولية التوحيدية للعالم الاسلامي، ولتتجاوز أفكاركم و أفكار من تحاورونه اطار الحدود الجغرافية والعنصرية والعقائدية والحزبية و أمثالها، وارتفعوا الي مستوي هموم الاسلام والمسلمين.

6 ذكّروا مخاطبيكم دائما بما أنعم الله به علي المسلمين من نفوس تزيد علي المليار، وبلدان تبلغ العشرات، و من ثروات مادية و معنوية ضخمة، وتراث عظيم ثقافي و حضاري و ديني و أخلاقي.

7 حطموا اسطورة قدرة الغرب التي لا تقهر! خصوصا أمريكا. هذه الاسطورة التي يحاول الاستكبار العالمي دائما أن يلقيها في أذهان المسلمين عن طريق تهويل قوّته. و ذكّروا أنفسكم و ذكّروا المسلمين الاخرين أنّ قوّة المعسكر الشيوعي، التي كانت تبدو أنها لا تقهر، قد تحطمت منذ قريب أمام أعين هذا الجيل، وأصبحت أثرا بعد عين ... القوي المتعملقة الحالية، و منها قوّة أميركا، هي الاخري من الممكن أن تنهار بالسهولة نفسها و ينقطع أثرها.

8 ذكّروا علماء الدين و المثقّفين في البلدان المسلمة بمسؤولياتهم الكبري الثقيلة دائما، وذكّروا الاخرين أيضا بذلك.

9 انطلاقا من واجب النصيحة لائمة المسلمين، ذكّروا زعماء البلدان المسلمة بمسؤولياتهم تجاه الامة المسلمة، وتجاه اقامة وحدة المسلمين و الابتعاد عن القوي الاستكبارية ... ذكّروهم بضرورة التوجه الي شعوبهم و الاعتماد عليها، و احلال الرابطة الحسنة بين الشعوب والحكّام. واطلبوا من الله سبحانه اصلاح أمورهم.

10 كونوا مهتمين دائما أن مسؤولية الزعماء لا تعني رفع المسؤولية عن كلّ فرد من أفراد الشعوب المسلمة، فكل أبناء الامة يستطيعون أن يكون لهم دور فاعل في كل هذه الاهداف الكبري.

آمل من الله بفضله، وبدعاء وليّ الله الاعظم المهدي المنتظر (أرواحنا فداه و عجّل الله تعالي فرجه) أن يمنّ بحج مقبول علي الحجّاج المحترمين، و برحمة واسعة و نعمة سابغة علي الامة الاسلامية و آحاد المسلمين.

الحج توحيد لكلمة المسلمين

قال الله الحكيم: و اذ بوّأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا و طهّر بيتي للطائفين والقائمين والركّع السجود.

شاءت الارادة الالهية النافذة أن تجمع المؤمنين مرّة أخري في منبثق التوحيد، و مشهد رحمة ربّ العالمين و فضله، وحول محور كعبة القلوب، و في ساحة قبلة أرواح المسلمين في العالم ... فتفوّق النداء المكوتي: (وأذّن في الناس بالحجّ) علي كلّ الفواصل الطبيعية منها والمفتعلة المفروضة بين الاخوة المسلمين، و دفع مجاميع القلوب النابضة بالايمان و الامال المشتركة نحو مركز التوحد و وحدة الامة. منذ سنوات طوال سعت يد الجهل و العناد الي أن تفصل الاسرة الاسلامية الكبري عن حضورها العقائدي، و عن روابطها الايمانية.

ولكن فريضة الحجّ السنوية تؤدّي دورها في تغذية الاسرة العريقة الاصيلة بدرس التوحيد والوحدة ... و في كلّ سنة تنفتح أزاهير جديدة، تزيد عمّا مضي، مبشّرة بعودة ربيع الايمان، والحياة في ظل الدين، والتالف و التوادد بين المسلمين ... و محبطة عمل الاعداء و ما كانوا يأفكون.

انّها لمعجزة الحجّ أن نري الوشائج الفكرية و العاطفية و الايمانية بين الشعوب المسلمة لمّا تنقطع أبدا، و أن التفاعل بين هذه الشعوب يزداد باطراد رغم كلّ النزاعات و الصراعات التي تختلقها و تبثها حكوماتها وأعداؤها.

من أسرار الحج

أسرار الحج و رموزه أكثر من أن يحتويها مقال، غير أن بينها ثلاث خصائص بارزة تستطيع كلّ عين مستقصية أن تتعرّفها في أول نظرة:

الاولي: أن الحج هو الفريضة الوحيدة التي دعا ربّ العالمين الي أدائها جميع المسلمين من استطاع اليه سبيلا و من أرجاء العالم كافة، وصوب نقطة واحدة، و في أيام معلومات، ليربط بينهم في ألوان من السعي والحركة والسكون والقيام والقعود.

(ثمّ أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفرواالله ان الله غفور رحيم)

الثانية: أن الهدف الاسمي في هذا العمل الجماعي والعلني والقلبي والنفسي هو ذكر الله:

(ويذكروا اسم الله في أيام معلومات علي ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها و أطعموا البائس الفقير)

الثالثة: أن الحج يعرض علي شاشته المضيئة البيّنة تصويرا كاملا لحياة الانسان الموحّد. و بعمل رمزي يلقن المسلمين درس الحياة المتحركة الهادفة. منذ ورود الميقات و حضور ساحة الاحرام و التلبية والتروك حتي الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا و المروة، والوقوف في محشر عرفات والمشعر و ما فيهما من ذكر و تضرّع و تعارف، و حتي وصول مني و أضحيتها و رمي جمارها و حلقها، ثم العودة الي الطواف والسعي ... يتلقّي المسلم فيها جميعا دروسا واضحة بينة في الحركة الهادفة و الجماعية والعارفة في ساحة التوحيد، و علي درب الحياة و حول محور «الله» سبحانه.

الحياة في منهج الحج سير دائم بل صيرورة مستمرة نحو الله. والحج هو الدرس العملي الحي البنّاء الذي ان و عيناه يرسم لنّا طريق حياتنا في صورة عملية مشرقة.

العالم الاسلامي عرضة لتهديدين

الحجّ ... هذا الينبوغ الفياض بالتقوي والمعنوية والخير والبركة، يتدفّق بعطائه كلّ عام و الي الابد علي العالم الاسلامي، و علي كلّ مسلم موفّق لاداء هذه الفريضة المباركة، فينال كلّ فرد و كلّ جماعة من عطائه بقدر الوسع و القابليّة.

عطاء هذا الينبوع الفيّاض لايقتصر علي حجّاج بيت الله الحرام، اذ لو عرفت هذه الفريضة العظيمة و جري العمل بها بشكل صحيح، فان كل الافراد والشعوب في جميع أرجاء العالم سينعمون ببركاتها.

الافراد والجماعات البشرية يتعرضون للكوارث والمصائب والالام من جانبين. الاول: من داخل أنفسهم، و منشأ ذلك الضعف البشري والاهواء الجامحة والشكوك وجدب الايمان والخصال المخرّبة. والثاني: الاعداء الخارجيون. فهم النكد لحياة الافراد والجماعات بسبب طغيانهم و أطماعهم و عدوانهم و وحشيتهم، وهم البلاء الداهي بسبب حروبهم و ظلمهم و تجبّرهم و تعنّتهم.

العالم الاسلامي بأفراده و شعوبه كان دائما عرضة لهذين التهديدين، و هو اليوم مهدّد أكثر من ذي قبل، فمن جانب نري اشاعة الفساد في البلدان الاسلامية وفق خطة مدروسة وضعها الاعداء، و نري فرض الثقافة الغربية. بمساعدة بعض الانظمة العميلة. علي مظاهر الحياة بدءا من السلوك الفردي و حتي تخطيط المدن و الحياة العامة والصحافة و غيرها، هذا من جانب، و من جانب آخر نشاهد الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية علي بعض الشعوب المسلمة، والمذابح الوحشية في لبنان و فلسطين والبوسنة و كشمير و افغانستان ... و كلها شواهد بارزة علي هذين التهديدين في أجوائنا الاسلامية.

الحجّ، هو تلك الهدية الالهية، والرحمة التي لا ينضب معينها، به يستطيع المسلمون أن يتخلصوا الي الابد من نكد العيش و مرارته، و من مرض الانحراف ولوثته، و بمساعدة هذا الذخر الابدي يستطيعون تحصين أنفسهم في كل زمان من هاتين الكارثتين.

ما في الحج من عناصر التقوي و الذكر و حضور القلب والخشوع و التوجه الي الله سبحانه و تعالي هي كفيلة بمواجهة التهديد الاول، و ما فيه من عناصر التجمع والتوحد و الاحساس بعظمة الامة الاسلامية الكبري و قدرتها علي ساحة الحج هي كفيلة بمقابلة.

التهديد الثاني:

كلما قوي هذان الجانبان في الحج ازدادت حصانة و مقاومة الافراد والمجتمعات الاسلامية ازاء هذين التهديدين، و متي ما ضعف او زال أحدهما أوكلاهما فان الامة الاسلامية بافرادها و شعوبها و بلدانهاتصبح أكثر عرضة للكوارث والمحن.

في نصّ القرآن الكريم، و في نصوص الشريعة الاسلامية المقدسة تصريح بكلا الجانبين بحيث لا يبقي مجال للشك لكل ذي عين و قلب و انصاف. مافرضه الله سبحانه في قوله: (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) البقرة / 200 جاء الي جانبه فريضة أخري حيث يقول سبحانه: (و أذان من الله و رسوله الي الناس يوم الحج الاكبر أن الله بري ء من المشركين و رسوله) التوبه / 3.

و اتساقا مع قول الحكيم جلّت قدرته: (لن ينال الله لحومها و لا دماؤها ولكن يناله التقوي منكم كذلك سخرها لكم لتكبّروا الله علي ما هداكم و بشّر المحسنين)

الحج / 37، نزل قول اللطيف سبحانه: (ليشهدوا منافع لهم) الحج / 28.

كل توصية و اعلام و سعي لتضعيف واحد من هذين الجانبين او ابعاده انّما هو مجابهة مع آيات القران الكريم و تعاليمه.

ليس ثمة خسارة للامة الاسلامية أفدح من أن تتعرّض تعاليم الاسلام و توجيهاته، برصيدها الحياتي للمسلمين و جميع البشرية، لغفلة و جهل الزعماء الدينيين و السياسيين، و أن يحال بينها و بين أن يتزود من عطائها الناس جميعا.

الحج جزء من هذا الرصيد الحياتي الدائم، و علي كل المسلمين أن يتعمقوا في معرفته و يزدادوا انتهالا من زاده.

الحج التوحيدي

... انّ الحديث عن الحجّ أمر عظيم، خاصّة عن قدراته. لو ادي كما فرضه الله. علي معالجة الامراض الاساسية وازالة بؤر التخلف. و هذا العلاج لا يأتي دفعة واحدة، الا أنّ اجتماعا مليونيا، علي مرّ السنين، من الرجال و النساء الوافدين من كلّ فج عميق، في بقعة واحدة، و علي صعيد أعمال متناسقة مليئة بالمعاني، و تحت لواء التوحيد العظيم، و في أجواء عبقة بذكريات صدر الاسلام من بدر وأحد، و صعيد زيارة مسجد لا تزال جدرانه تعيد الي الاسماع صدي التلاوة القرآنية العطرة منطلقة من حنجرة رسول الله (صلي الله عليه و آله و سلم)، و لا يزال نداء تكبير المجاهدين في صدر الاسلام يموج في أجوائه، كلّ ذلك في جوّ مفعم بالذكر و الاستشعار و مناجاة الله عزّ و جلّ، جوّ ينتشل الانسان من ضعفه و ذاتيتة واعوجاجه ليرفعه الي معدن المجد و العظمة و قدرة رب العالمين ... كلّ ذلك كاف في أن يكون بلسما شافيا يبعث القوّة في أن يكون بلسما شافيا يبعث القوّة في القلوب و الرفعة في الهمم، والصلابة في الارادة، و الاعتماد في النفوس، والسعة في الافق، والسرعة في تحقق الامال، والاتحاد بين الاخوة. و يجعل الهوان في الشيطان، والضعف في كيده.

نعم، الحجّ الصحيح و الكامل ... الحجّ التوحيدي ... الحجّ حين يكون منطق حبّ الله و حبّ المؤمنين و البراءة من الشياطين، و من الاصنام والمشركين ... يعمل أولا علي وقف اتّساع دائرة مشاكل الامّة الاسلامية، ثمّ يستأصل هذه المشاكل، و يعود علي الاسلام بالعزّة، و علي حياة المسلمين بالازدهار، و علي البلدان الاسلامية بالاستقلال والتحرر من شرّالطامعين. واستنادا الي هذا الفهم الصحيح للحجّ، وضعت هذه الفريضة، بعد انتصار الثورة الاسلامية الكبري، في رأس قائمة اهتمامات الجمهورية الاسلامية علي الساحة الدولية، و ركّزت هذه الدولة المباركة علي تقريب الحجّ مما كان عليه في صدر الاسلام، و ذلك بالمواءمة بين الجانب السياسي الالهي لهذه الفريضة و هو مظهر عزة الحي القيوم و قدرته، والجانب العبادي، و هو مظهر غفران الربّ و رحمته، ولتجسيد هذا الاقتران أحيت شعيرة البراءة من المشركين ثانية في الحجّ، و هي تواصل العمل بهذا الواجب الاسلامي رغم كلّ المعوّقات السياسية، و رغم كلّ المضايقات الناشئة عن دوافع غير اسلامية.

الجمهورية الاسلامية باعتبارها النظام الذي أثبت قدرة الاسلام علي ادارة المجتمعات البشرية الكبري، و رغم كلّ ما شاع تجاه هذه القدرة من تشكيك و اعلام مضادّ خلال القرن الاخير، تنظر الي الحجّ، لا كوسيلة لتكريس الذات، بل باعتباره ساحة توعية المسلمين، و غرس روح التقوي و الايمان و الاندفاع نحو تطبيق الشريعة الاسلامية، و نحو تحقيق العزّة و الاستقلال في نفوسهم.

انّ أولئك الذين يرفضون روح الحركة و النظرة الشمولية في الحج انّما يرفضون في الواقع عزّة المسلمين و استقلالهم و نجاتهم من براثن الاستكبار و الصهونية، كلّ فتوي و رأي في مجال هذا الرفض انّما هو حكم بغير ما أنزل الله، صادر علي أغلب الظن عن جهل بحقائق العالم و عن انعدام البصر و البصيرة في أمور المسلمين.

كلّ مطلع علي ما تعانيه الشعوب المسلمة اليوم من وضع مرهق و من سيطرة أمريكية متجبّرة عليهم.

كلّ من يعلم بما يرتكبه الصهاينة من جرائم، و مايحيكونه من مؤامرات خفية ضد البلدان الاسلامية.

كلّ من يحسّ بخطر انتشار هذه الغدّة السرطانية الخبيثة في الاجهزة الاقتصادية والسياسية لدول المنطقة.

كلّ من يشاهد ما يعيشه الشعب الفلسطيني من وضع متأزّم في مخيّمات الغربة، و من احتلال الجلادين لارض هذا الشعب.

كلّ من يعلم بما يجري في جنوب لبنان و في مناطقه المحتلة بيد الصهاينة و في أراضية المعرضة دائما للهجوم.

كلّ من سمع بالمآسي المفجعة في لبنان حيث الصهاينة بدعم حكومة امريكا يقصفون بين فترة و أخري هذا البلد من الجو والارض والبحر، و يقتلون بشكل جماعي الاطفال والنساء والمدنيين.

كلّ من يطّلع علي أوضاع البوسنة و أفعانستان و كشمير و تاجيكستان والشيشان.

كلّ من يدري بما تدبره أمريكا الطاغية والصهونية عدوة البشرية من مؤامرات متواصلة و أعمال عدوانية ضدّ الجمهورية الاسلامية التي تمثل اليوم مظهر حاكمية القرآن و الاسلام.

نعم ... من يعلم كلَّ هذه الحائق و هو يتحلّي بغيرة اسلامية و يحس بمسؤولية دينيّة، لا يتردد في الحكم علي أن تضييع رصيد الحج العظيم، و فقدان هذا السند الالهي المستحكم للاسلام والمسلمين خسارة لا تعوض و ذنب لا يغتفر.

انّ ما تعانيه الدول الاسلامية من ضعف، و ما يوجد بينها من تمزّق مؤلم حقيقة لا يمكن كتمانها أو انكارها. العالم العربي دفع بنفسه اليوم الي حالة لا يستطيع معها مع الاسف أن يدخل ساحة الحرب حتي ليوم واحد مع العدو الغاصب لاراضيه، الذي أضحي ضحية جرائم الكيان الصهيوني الغاصب.

نحن نري المعدّات الحربية الجوّية و معدّات الدفاع الجوي المشتراة بأثمان خيالية من مصانع الغرب تملا مستودعات هذه البدان، بينما تقصف طائرات الصهاينة بسهولة بيوت الشعب العربي اللبناني، و تهدم عليهم منازلهم، و لا تستطيع أية واحدة من هذه الدول أن تقطع الطريق أمام هذا القصف الوحشي و تمنعه.

هذه الحقائق المرّة لو أضفت لها ما تمارسه القوي الاستكبارية من نفوذ سياسي، و من هجوم دون مانع للسيطرة الثقافية التامّة علي كثير من هذه البلدان، و ما تشهده الساحة من مصائب فادحة تنذر بالخطر، فانّها كافية لكلّ ضمير حي و عقل سليم أن يتوصّل الي أن البلدان الاسلامية والشعوب الاسلامية والعينة الانسانية المجتمعة حول الكعبة المشرفة، والمواقف المباركة في أرض الوحي بحاجة أكثر من أي وقت مضي الي معني الحجّ و روحه وقوّته المودعة فيه، ولا بدّ لها من أن تستثمر عطاءه.

هذا هو حديثنا عن الحجّ و هذا هدف دعوتنا الي احياء الحج و سائر شعائر الاسلام الحياتية.

الحج مشهد لعظمة الأمّة

بيت الله الحرام هذه الايام يستضيف مرة أخري سيول القلوب المتلهفة المشتاقة، التي هوت الي كعبة الامال من كلّ فجّ عميق. حيث الملايين تستشعر الوحدة والوئام في ظل عبودية الله الواحد القهّار و حيث العيون التي تسخو بدموعها و هي تقف علي ربوع النبي الاعظم (صلي الله عليه و آله) و أولياء الله (عليهم السلام) والمجاهدين والعظام في تاريخ الاسلام و حيث الارواح تصفو و تشرق في ظلّ معنوية بيت الله الحرام و حريم تربة المصطفي عليه و علي آله آلاف التحية والسلام و حيث الايدي المتضرعة التي تسوق قوافل حاجتها و رجائها الي ساحة الغني العزيز، و حيث المهمومون الذين يقفون علي باب الحكيم ليجدوا علاج هموم العالم الاسلامي، وليجدوا من يحمل مثل همومهم من أرجاء المعمورة، و حيث الضعفاء الذين يحسّون هناك بالقدرة والعظمة.

في هذه الايام تعرض الامة الاسلامية العظيمة مشهدا من أبهتها و عظمتها أمام أعين من لم يعرف قدرها، فتزيد المحبين أملا و الاعداء خوفا، في هذه الايام تهطل أمطار الرحمة والحكمة علي العطشي، فتنتعش القلوب الكئيبة، و تتفتح العقول الراكدة.

نعم، هذه الايام هي للعالم الاسلامي و الامة الاسلامية أيام عيد و أيام ميعاد، و جدير بالمسلمين في كل أرجاء الارض، و خاصة حجاج بيت الله الحرام، أن يغتنموها بقضاء ساعات و أوقات في التعبد والتعقل، و أن يعود من ظفر بفرصة الحج والزيارة الي دياره بيد مملوءة برحمة الله و حكمته، مستقبله و مستقبل الامة الاسلامية.

من بين الفرائض الدينية، يعد الحج أكبر فريضة تجمع الجانبين الفردي و الاجتماعي بشكل واضح جلي.

الحج في جانبه الفردي

الهدف في الجانب الفردي التزكية والوصول الي حالة الصفاء والاشراق والتحرر من الزخارف المادية التافهة، والخلوة مع الذات المعنوية، والانس بالله تعالي، والذكر و التضرع والتوسّل الي الحقّ سبحانه ليجد الانسان طريقه الي العبودية، ويسير علي هذا الطريق الي العبودية، و يسير علي هذا الطريق الذي هو صراط الله المستقيم نحو الكمال.

تنوع الفرص والاختيارات في هذا الجانب كثير بحيث لو أراد شخص أن يجتازها بتوجه و تدبر فانه ينال دون شك أعظم العطاء : فرصة الاحرام والتلبية، فرصة الطواف والصلاة، فرصة السعي والهرولة، فرصة الوقوف في عرفات والمشعر، فرصة الرمي و التضحية، و فرصة ذكر الله، تشكل كلها جوا زاخرا بالروح والحياة يمتدّ علي جميع هذه المراحل. مجموع هذه الفرص يمكن أن يوفّر لكل فرد دورة قصيرة من الرياضة الشرعية، و تمرينا علي الزهد والسلم والحلم، و خصالا خلقية حميدة أخري.

الحج في جانبه الاجتماعي

في الجانب الاجتماعي، الحج من بين جميع الفرائض الاسلامية فريضة فريدة لانه مظهر قوّة الامة الاسلامية و عزّتها و اتحادها، ولا ترقي اليه أية فريضة أخري في قدرته علي تلقين الافراد دروسا و عبرا بشأن الامة الاسلامية والعالم الاسلامي، و علي تقريبهم روحا و واقعا من القدرة والعزّة والوحدة. و شلّ هذا الجانب من الحج انّما هو غلق نبع يفيض علي المسلمين بمنافع لا يمكن تحققها من أية وسيلة أخري.

الاقتدار الوطني في المجتمعات البشرية مفتاح النجاح والتطور، والوسيلة اللازمة لتحقيق الحياة الطيبة لأفراد المجتمع. والمقصود بالاقتدار الوطني أن يتمتع المجتمع والبلد بالاخلاق والعلم والثروة والنظام السياسي الفاعل والارادة الشعبية. صحيح أن المجتمعات المقتدرة ان افتقدت التوجيه والارشاد والعدالة فستكون علومها و ثرواتها عاملا علي طغيانها، و علي زوال أخلاقها و ارادتها، و علي دفعها نحو الانحطاط، كما تظهر اليوم أمارات ذلك الاقتدار سيجعل كثيرا من الانحدار في أمريكا و نظائرها، غير أن فقدان ذلك في الانحطاط الاخلاقي والسياسي، و سيسلب الشعوب دنياها و آخرتها و علمها و أخلاقها و كلّ شي ء لديها. من هنا فان تعاليم الاسلام السياسية و الاجتماعية تتّجه جمعيا نحو اعتلاء الامة الاسلامية سلّم الاقتدار والسيادة في الحقول العلمية و الاخلاقية والسياسية والروحية والمادية. واليوم فانّ المخلصين الواعين من قادة شعوب العالم يسعون الي استثمار كلّ الامكانيات والطاقات المتاحة لتصعيد اقتدار شعوبهم.

الامة الاسلامية الكبري مع وجود عددها و عدتها تفتقد العزة والاقتدار علي الساحة العالمية. كيف يمكن أن تستعيد عزّتها و قدرتها اللائقة بها؟ هذا السؤال يجب أن يتردد علي الالسنة و في الاذهان لدي كلّ المسلمين، خاصة القادة والمسؤولين والعلماء والمثقفين والشخصيات الاسلامية، و أن يجدوا للاجابة عنه.

الحج معرفة جامعة

حلّ موسم الحجّ و هو يحمل بشائر أكبر لقاء سنوي للمسلمين، و جدير بقلوب آلاف المشتاقين الذين نالوا فيض اللقاء في هذا الموسم أن تخفق و تنتفض لاعداد نفسها، و جدير بالملايين من المسلمين الراجين الذين لم يُدرجوا هذا العام في قائمة النائلين لهذا الفضل أن يملاوا قلوبهم و أذهانهم بشذي و عبير استذكار كل لحظات أيام السعداء و يدعوا لهم و لانفسهم، ليعيش كلّ المسلمين العارفين خلال أيام الحج مع الحج و شعائره و آيات جلاله و جماله.

فريضة الحجّ كلّ عام تشكل حادثة كبري من حقها أن تستقطب في تلك الايام المعلومات الافكار و الاهتمامات و العقول و المشاعر في جميع أرجاء العالم الاسلامي، و أن يعيش المسلمون معها، و يفكروا فيها كل بحسب موقعه الروحي والفكري والسياسي، و من الطبيعي أن الذين نالوا فيض الحج يحتلون مركز هذا التكليف و التوقع. و اذا كانت أبدانهم و أرواحهم و أفكارهم و مساعيهم ممزوجة بالحج و بركاته و آثاره، فالاجدر أن يحصلو علي أكثر ما يمكن من العطاء المعنوي والروحي والفردي والاجتماعي لهذه الفريضة، و سيحصلون باذن الله علي ذلك.

بركات الحجّ و ان كانت تستوعب كلّ جوانب الحياة البشرية، و يعمّ مطر رحمتها جميع المجالات ابتداء من خلوة القلب والفكر، و مرورا بساحات السياسة و الاجتماع و عزّة المسلمين و تعاون الشعوب المسلمة، فتثرها و تحييها و تبث فيها نشاط الحياة. ولكن قد يمكن القول: انّ مفتاح كلّ هذا هو «المعرفة» و أولي هدايا الحج. لمن أراد أن يبصر الحقيقة و يستثمر ما ألهمه الله من قدرة علي فهم «الظواهر» هي المعرفة المتكاملة، التي ينفرد بها الحج، و لا يحصل عليها المسلمون عادة الا من هذه الفريضة، و لا تستطيع أية ظاهرة دينية أخري أن تقدم للامة الاسلامية تلك المنظومة الكاملة من المعارف كما يقدمها الحج، و من هذه المنظومة المتكاملة من المعارف:

معرفة الذات علي الصعيد الفردي، و معرفة الذات علي صعيد الانتماء للامة الاسلامية العظمي، و معرفة النموذج الموجود في الحج من تلك الامة الواحدة، و معرفة عظمة الله و رحمته، و معرفة العدو ...

البلاد الاسلامية بين عمالة الحكام و غفلة الشعوب و خوف العلماء

أيّها الحجاج الكرام ... امتنا الاسلامية تمتلك اليوم أكثر مصادر النفط التي تعد بدون مبالغة شريان حياة الحضارة العالمية الراهنة، و هي اليوم موجودة في أرض العالم الاسلامي، أكثر المناطق استراتيجية في العالم و تحت تصرّفكم كما أن القسم الاعظم من المصادر الارضية الضرورية لبناء العالم في الحاضر و المستقبل تتوفر في بلدان المسلمين، كما أنّ أكبر الاسواق الاستهلاكية لمصنوعات البلدان التي فرضت نفسها علي المسلمين تكون في بلدانكم، هذا و أن ثقافة المسلمين الغنية العريقة و علومهم و معارفهم شكلت الدفعة الاولي لاعتلاء الغربيين ذروة صرح علوم العالم المعاصر، فللمسلمين حقّ الحياة علي علوم الغرب و حضارته .

و مع كلّ ذلك لا يمتلك المسلمون اليوم علي الساحة العالمية و في معترك السياسة الدولية أي دور في اتخاذ القرارات الكبري و في تعيين النظام الدولي، وأفظع من ذلك فانّ كثيرا من البلدان الاسلامية تنهج في سياستها الوطنية منهجا ذليلاً تابعا وتخضع لاحدي البلدان المستكبرة المتعنتة ... حكوماتها عملة، و ضعيفة النفس، و شعوبها مضطهدة أو مغفلة، و علماؤها و مثقفوها مصابون بالخوف والتغافل، و بحبّ البطر والراحة ... و كانت النتيجة أن تبددت ثروات الامة الاسلامية، و أصبح تعيين مكانتهم السياسية باشارة القوي المستكبرة، و أن لا يحسب لعددهم و عدتهم حساب، و أن تحرم الامة الاسلامية من قسم عظيم من امكاناتها، و أن يستفيد أعداء الاسلام والمسلمين، من تلك الامكانات للاضرار بالاسلام والمسلمين بينما كان ينبغي أن تستفيد الامة الاسلامية الكبري من كلّ ما تمتلكه من طاقات لا ستحصال ما تستحقه من عزّة و اقتدار.

انّ الاوضاع الراهنة للعالم الاسلامي والحوادث والمحن التي أذاقت المسلمين القهر و المرارة، كمأساة فلسطين المغتصبة و افغانستان و غيرها ... و وضع الاقليات المسلمة في بعض البلدان الاوربية ... كلها شواهد ناطقة علي هذه الحقيقة المرّة...

فعليكم أيها الحجاج الكرام أن تجعلوا فريضة الحج مؤتمرا تتداولون فيه تلك المشاكل و المحن، وتتدارسون فيه أفضل السبل لحلّها و لتوعية شعوبكم بكل ذلك.

فالامة الاسلامية الكبري تعد أكبر سند للعالم الاسلامي و أن الشعوب المسلمة بوحدتها و تلاحمها و تفاهمها و بما فيها من ثروات طبيعية و خيرات كثيرة ... تذيب قلب كل مستكبر و تصم اذنه و تقصهم ظهره و الحج هذه الفريضة المباركة، يعرض لنا مظهرا جميلا و نموذجا رائعا لهذا السند العظيم.

الحج و معرفة الاعداء

معرفة عظمة الله و رحمته في الحجّ تعني التأمّل في رفع قواعد هذا البيت الذي هو بيت الله و هو في الوقت نفسه بيت الناس أيضا. (انّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا و هدي للعالمين) آل عمران / 69

انّه البقعة التي يتّجه اليها الانسان الخاشع المتبتّل، و أنّه أيضا محلّ تجلّي عظمة الدين الالهي. خليط من العظمة و الصفاء والبساطة، ذكري أوّل نداء للتوحيد و محطّ لتحقّق وحدة الكلمة، يحمل آثار أقدم المجاهدين في صدر اسلام الذين جاهدوا فيه و هم غرباء، و هاجروا منه و هم مظلومون، و عادوا اليه و هم فاتحون أعزاء، و طهّروه من رجس جاهلية العرب، ثم هو المعطّر بشذي المتهجدين هو محلّ سجود العابدين، و مهوي قلوب الشاكرين، انّ مطلع فجر الاسلام في البلاد ومشرق طلوع المهدي الموعود في الخاتمة، هو ملجأ القلوب المضطربة و محطّ آمال النفوس المتبرّمة.

تشريع فريضة الحجّ و ترتيب مناسكه يحمل دلائل العظمة و يحمل آيات الرحمة أيضا. بهذه المعرفة تستيقظ القلوب و بمشاهدة الكعبة المشرّفة والمسجد الحرام بوعي يعود التائهون الي الصراط المستقيم ...

معرفة العدو حصيلة كلّ هذه الالوان من «المعرفة» و مكملة للنفوس و بدونها يكون قلب المسلم و ذهنه بدون أسوار ضد الغزاة والخونة.

انّ أعمال الحجّ، و منها رمي الجمار تجسيد للمعرفة و مقارعة العدو. والنبي الاكرم (صلي الله عليه و آله) رفع الاذان في الحج، و تليت آيات لبراءة في موسم الحجّ بلسان أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). ولو أنّ الامة الاسلامية تخلصت يوما من وجود جحافل الاعداء وأمكن حدوث ذلك فانّ البراءة ستفقد تمبررها ولكن مع وجود الاعداء و عدوانهم الحالي فان الغفلة عن العدو و اهمال البراءة منه خطا كبير و خسارة فادخة.

الحج تجسيد للجهاد المسلم

هذه المناسبة الخالدة التي يقدم الحجيج علي أدائها، تشكّل بنفسها مجموعة ناطقة معبّرة طافحة بالذكر والنشاط المعنوي والداخلي في اطار حركة و سعي و تنسيق بناء جماعي.

انّ الحج بتعاليمه المفعمة بالاسرار والرموز، و بمظاهره الرائعة الجامعة بين العظمة والتذلل، والاقتدار والتواضع، و الحركة الداخليّة و الخارجيّة. تجسيد لجهاد الانسان المسلم في مجالي النفس والعالم باتّجاه تحقيق الحياة الانسانيّة الطيّبة، و تدريب للحاج علي واجباتة الكبري في الحياة.

انّ المجتمعات البشريّة المختلفة و هي تعاني اليوم من فراغ روحي و ضياع و حيرة من مآس و ويلات اجتماعية و فردية فرضها طواغيت الثروة و القوة علي الساحة العالمية. تحتاج الي الاسلام و الي تعاليمه و دروسه الكبري. و انّ الدعوة الاسلامية لتجعل عناصر الاستقطاب والنفوذ و الامل، ليس فقط للشعوب التي تحترق بنيران الفقر و الاستضعاف، بل و بنفس القدر للشعوب التي تتخبّط في مستنقعات الفراغ والحيرة والفقر الروحي في البلدان الثريّة المتطورة. و ما تذكره الاحصائيات و الدراسات من تزايد التوجّه الي الاسلام بين فئات الشباب و بين كلّ الرافضين لخواء الحياة المادية في البلدان الغربية المتطورة، دليل علي هذا الاستقطاب والنفوذ.

المسلمون بتفهمهم لهذه الثروة الكبري و منحها ما يناسبها من وعي، سيكونون قادرين علي أن يخلقوا تحولا حقيقيا في حياتهم، و أن ينقذوا البلدان الاسلامية ممّا تعانيه اليوم من ضعف و تبعية و تخلّف و انحطاط.

نداء التوحيد والوحدة

قال الله الحكيم: (انّ هذه امتكم امة واحدة و أنا ربكم فاعبدون) الانبياء / 92

يعود مرة أخري موسم الحج، و يعود معه المشهد الاستعراضي العظيم المدهش المفعم بالحركة والنشاط في قاعدة الوحي والنبوة. أمواج بشرية هادرة من الشعوب الاسلامية تتحرك من كل حدب و صوب لتصب في البحر الكبير، ولتجسد تعايش الامة الواحدة تحت لواء التوحيد. مشاعر مترابطة تجمع هذه الكتل البشرية، تفصح عن آمال هذه الامة الاسلامية العظيمة و آلامها و تطلعاتها و قدراتها.

ساحة الحج تستضيف الان أناسا من ايران و العراق، من فلسطين و لبنان، من شبه القارة و شمال أفريقيا، من تركيا و البوسنة، و من أرجاء آسيا و اروبا. هذه الافئدة المشتاقة تستطيع أن تتحدث عما تحمله قلوب الامة الاسلامية، و انما الحج من أجل هذا التقارب و التجاوب بين المسلمين من جميع أرجاء العالم.

الرباط المقدس الذي يشدّ كلّ هذه القلوب هو نفسه النداء الذي انطلق لاول مرّة من هذه الارض، و ملا الخافقين طولا و عرضا و امتدّ علي كل مساحة التاريخ ... انه نداء التوحيد والوحدة، توحيد الله و وحدة الامة. التوحيد: رفض الوهية الطواغيت والمستكبرين و جبابرة الثروة والقوة. الوحدة: مظهر عزّة المسلمين و قدرتهم ...

العالم الاسلامي يحسّ بهبوب نسيم الصحوة الاسلامية علي وجهه المرهق الملتهب. و يري مظاهر ذلك في كل بقاع العالم الاسلامي خاصة في ايران العزّة والجهاد، وكذلك في فلسطين و لبنان. نور الامل يملا قلوب الشباب في كل مكان، و طلاسم تحكّم الغرب و اهانته و تحقيره للشعوب قد انفضّت. و هذه الفرصة لم تتوفر مجانا، بل بتضحية آلاف الارواج الطاهرة علي هذا الطريق. و ما نستقبله من درب هو أيضا صعب طويل، لكنه مفعم باليقين و خال من أي شك و ترديد.

الشعب الفلسطيني أخذ علي عاتقه اليوم السهم الاكبر من مسؤولية شقّ هذا الطريق والسير عليه. و علي الجميع أن يعاضدوا هذا الشعب المظلوم والشجاع و المتيقظ. الشعوب الاخري تستطيع بمناصرتها الشعب الفلسطيني البطل أن تفي بسهمها في مواصلة هذا الطريق.

الحرب النفسية المعادية

العدو المستكبر الذي يري في الصحوة الاسلامية تهديدا لاطماعه و مصالحه العدوانية، عمد الي أهم ما في يده من سلاح لمواجهة هذا المدّ المتصاعد، و هو سلاح الحرب النفسية: استعراض العضلات، و سيشهد المستقبل ممارسة آلاف الادوات والاساليب الاعلامية الاخري ... كلّ ذلك من أجل بثّ اليأس في قلوب المسلمين من مستقبلهم، و بالتالي دعوتهم الي مستقبل منسجم مع أهدافه الخبيثة. هذه الحرب الثقافية و النفسية منذ بداية عصر الاستعمار حتي الان كانت أمضي أسلحة الغرب في فرض سيطرته علي البلدان الاسلامية. و كانت هذه السهام السامة تستهدف بالدرجة الاولي النخب والمثقّفين ثم سائر الجماهير. و مواجهة هذه الدسيسة انما يكون بالاعراض عن ثقافة الغرب المتهكمة المفروضة.

الثقافة الغربية يجب غربلتها حتي يؤخذ منها ما كان مفيدا، و يلفظ من الفكر والعمل ما كان منها مضرا و مخربا و مفسدا.

والحكم في هذه الغربلة الكبري الثقافة الاسلامية و ما يقدمه القرآن والسنة من فكر معطاء و ضاء و موجه. هذا فصل أساسي من النضال الشامل الواعد الذي ينههض به علماء الدين والمثقفون و السياسيون المخلصون في جميع أرجاء العالم.

علي آمل أن يستطيع حجّ هذا العالم ترسيخ و تقوية عزم الجميع علي مواصلة هذا الطريق المبارك الكريم.(2)

قراءة 4 مرة