الحياة المؤقّتة والحياة الدائمة

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الحياة المؤقّتة والحياة الدائمة

قال الله الحكيم في كتابه الكريم: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ * أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ1.

تشير الآية الأولى إلى أَنَّ للحياة الدنيا ظاهراً وباطناً، وأنّ ما يعلمه الناس عنها هو الظاهر فقط, بمعنى أنّهم يعلمون الأمور المادّية والقضايا المحسوسة التي لا تخرج عن دائرة الحواس والمدركات الظاهرية. وأمّا باطن هذه الحياة ـ التي هي الآخرة ـ فهم غافلون عنها كليّاً, لأنّهم أَنِسوا بالظاهر وانشغلوا بالمادة واطمأنوا بها، ولم يفكّروا بما وراء هذه الحياة الظاهرية. والحال أَنَّ الله تعالى يصف هذه الحياة في أكثر من آية بأنّها ليست بشيء أمام الآخرة، وليست هي الهدف والغاية من خلق الإنسان، بل ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ2.

في حين أَنَّ الآية الثانية تؤنّب الناس وتقرّعهم على اكتفائهم بالعلم الظاهري فقط، وتحثّهم على الخروج من دائرة الحسّ والمادّة، والتفكّر في أنفسهم وفي السبب الذي لأجله وُجدوا في هذه الحياة، وفي السبب الذي خلق الله لأجله السماوات والأرض وما بينهما، وبيّنت بأنّهم لم يفكروا بأيّ شيء وراء ما يرونه ويشاهدونه بحواسهم ويباشرونه بأنفسهم. حيث تعتبر أَنَّ عدم التفكّر في هذه الأمور تجعل الناس في غفلة عن لقاء الله تعالى، وفي غفلة عمّا وراء هذا العالم.

الله تعالى يبيّن بأنّه لم يخلق السماء والأرض وما بينهما إلا بالحق, فهو يقول في مكان آخر: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ3. إذاً، هناك غاية وحكمة من خلق السماوات والأرض وما بينهما، وعلينا أن نعيش في هذه الدنيا للوصول إليها، لا أن نمرّ عليها دون التفات ودون معرفة، فنكون من مصاديق الآية الكريمة: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ4.

عالم المادّة محدود بأجل معيّن:

ومن جهة أخرى تبيّن هذه الآية أَنَّ خلق عالم المادّة له أجل معيّن ووقت محدّد لا يمكن أن يتجاوزه، وهذا حال جميع الموجودات المادّية والطبيعية التي تخضع لقانون المادة، فإنّها لا تستطيع أن تخرج على هذا القانون العام وتبدّل زوالها وفناءها ومحدوديّة أجلها ومدّة حياتها إلى حيثية البقاء والدوام والاستمرار والخلود، وهذه الحقيقة مستفادة من الكثير من الآيات، من قبيل: ﴿وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى5، و ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى6.

والإنسان بصفته موجوداً مادّياً فهو غير خارج عن هذا القانون, إذ سوف ينتقل إلى عالم آخر، ولن يبقى في هذه الدنيا, حيث تشير هذه الآية إلى ذلك: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ7.

والإنسان مهما عمل لا يمكنه تغيير هذا الواقع أو الفرار منه, لذا يقول أمير المؤمنين عليه السلام بعدما ضُرب الضربة التي استشهد بها، ضمن خطبة له: "أيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ في فِرَارِهِ، والأجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ إلَيْهِ، والْهَرَبُ مِنْهُ مُوافَاتُهُ"8.

لذا عليه أن يعمل لذاك اليوم الذي لا مفرّ منه، ولن ينجو منه أحد, حتى الأنبياء والرسل والمقربين من الله تعالى، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ9.

قصّة النبي سليمان عليه السلام مع الرجل الخائف وملك الموت‏:
قيل إنّ رجلًا فزعاً جاء صباح يوم إلى النبي سليمان (على نبيّنا وآله‏ وعليه الصّلاة والسلام)، فلمّا شاهد سليمان اصفرار وجهه وازرقاق شفاهه من شدّة الخوف والهلع، سأله: ما بالك أيُّها المؤمن؟ وما علّة خوفك وفزعك؟!
أجاب الرجل: لقد نظر إليّ عزرائيل نظر غضب وعجب، فأفزعني ذلك كما ترى.
فقال سليمان: وما هي حاجتك الآن؟
قال: يا نبي الله، الريح طوع أمرك، فمُرها لتأخذني إلى الهند، لعلّني أنجو هناك من براثن عزرائيل.

فأمر النبي سليمان الريح لتحمله على وجه السرعة إلى الهند. وفي اليوم التالي، جلس سليمان في مجلسه، فجاء عزرائيل لرؤيته، فقال له: يا عزرائيل، لماذا نظرتَ إلى ذلك العبد المؤمن نظرة مغضب فدفعتَ بذلك المسكين الفزع إلى الفرار من أهله وبيته إلى ديار الغربة؟

فقال عزرائيل: لم أنظر إليه نظرة مغضب قطّ، ولقد أساء الظنّ بي، فقد كان الربّ ذو الجلال أمرني بقبض روحه في الهند في الساعة الفلانيّة، فوجدته هنا قريباً من تلك الساعة، فتعجّبت ودهشت من ذلك وتحيّرت في أمري، فخاف ذلك الرجل من تحيّري وظنّ خطأ أني أريد السوء به. لقد كان الاضّطراب من جهتي أنا، وكنتُ أحدّث نفسي: لو امتلك هذا الرجل ألف جناح لما أمكنه الطيران بها، والذهاب إلى الهند في هذا الزمن القصير، فكيف سأنجز هذه المهمّة التي أوكلها الله لي؟

ثم قلتُ لنفسي: فلأذهب كما أمرت, فليس ذلك من شأني. وهكذا فقد ذهبتُ بأمر الحقّ إلى الهند ففوجئتُ به هناك فقبضتُ روحه‏.

من خلال هذه القصّة نعرف مراد أمير المؤمنين عليه السلام بقوله المتقدّم: "أيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ في فِرارِهِ".

حقيقة الموت وسبب خوف الناس منه:

لا شكّ في أَنَّ الموت ليس كما يتصوّر الناس بأنّه عبارة عن فناء وانعدام وانحلال، كما يحصل للجسم العضوي، بل هو انتقال من عالم إلى عالم أعلى وأسمى, لذا يعتبر الفلاسفة أَنَّ النفس الإنسانية لا تفنى بالموت، بل تترك علائق المادّة التي لحقت بها، وتتجرّد عنها، وتنتقل من عالم الطبع إلى عالم المثال. وفي هذا الصدد يقول ابن سينا: "وأمّا من يخاف من الموت، فلأنّه لا يعلم أين ستكون عودته ورجوعه، أو لأنّه يظنّ أنّ ذاته ستنحلّ، ونفسه وحقيقته ستبطل بانحلال بدنه وبطلان تركيبه، فهو يجهل بقاء نفسه، ولا يعلم كيفية المعاد، فهو في الواقع لا يخاف من الموت، بل يجهل أمراً كان حريّاً به أن يعلمه. وعلّة خوفه إنّما هي جهله، هذا الجهل الذي دفع بالعلماء إلى طلب العلم ومشقّة سبيله، وجعلهم يتركون لذّات الجسم وراحة البدن في سبيله".

وسُئل الإمام الحسن المجتبى عليه السلام فقيل له: "مَا بَالُنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ وَلَا نُحِبُّهُ؟ قَالَ فَقَالَ الْحَسَنُ عليه السلام: لِأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمْ آخِرَتَكُمْ وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ، وأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ النُّقْلَةَ مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ"10.

الأولياء والصالحون يتمنّون الموت:

لقد جعل القرآن المعيار في إيمان الإنسان أو عدم إيمانه هو حبّه للموت أو فراره منه, فقد ورد في خطاب الله تعالى لليهود: ﴿قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ11.

وفي مورد آخر يوجّه خطابه للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ12.

وأمّا الإنسان الذي علم حقيقة الموت، وأنّه تحرير لروحه ونفسه من قفص الدنيا والمادة، وعمل صالحاً، ولم يتجاوز على حقوق الآخرين، ولم ينحرف عن مقام عبوديّته لله سبحانه، فسوف تحصل لديه حالة ارتباط بالله ومعرفة له. وهذا الأنس والعلاقة سيوجبان محبّته ونزوعه إلى لقائه والنظر إليه عزّ وجل. وباعتبار أنّ الموت يمثّل جسر العبور للّقاء والوصال، فإنّ المؤمن ينبغي أن يكون عاشقاً للموت ومنتظراً له بفارغ الصبر, لأنّ عاشق الحبيب يعشق أيضاً الطريق الذي يقوده إليه، وهذا ما تشير إليه الآيتان المتقدمتان، ومن هنا ينقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان يقول: "وَاللهِ لَابْنُ أبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أمِّهِ"13.

وذكر الزُّهْرِيّ حكاية عن الإمام عليه السلام: "وَكَانَ أمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام يَسْتَبْطِئُ الْقَاتِلَ فَيَقُولُ: مَتَى يُبْعَثُ أشْقَاهَا"14.
وأورد ابن سعد في الطبقات عن محمّد، عن عبيدة، قال: قَالَ عَلِيٌّ: "مَا يَحْبِسُ أشْقَاكُمْ أنْ يَجِي‏ءَ فَيَقْتُلُنِي, اللَهُمَّ قَدْ سَئِمْتُهُمْ وَسَئِمْونِي، فَأرِحْهُمْ مِنِّي وَأرِحْنِي مِنْهُمْ"15.

لذا، فقد نادى حين هوى سيف ابن ملجم المرادي على رأسه الشريف: "بِسمِ اللهِ وَبِاللهِ، وَعلى مِلَّةِ رَسُولِ اللهِ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ"16.

وينقل عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه قال يوم عاشوراء:
تَرَكْتُ الْخَلْقَ طُراً فِي هَواكَ وَأَيْتَمْتُ الْعِيَالَ لِكَي أَرَاكَ
فَلَوْ قَطَّعْتَنِي فِي الحُبِّ إِرَباً لَما حَنَّ الْفُؤادُ إِلَى سِوَاكَ


وهذا ما فعله أصحاب الإمام الحسين عليه السلام, عندما سُئِلوا عن الموت فداء لأبي عبد الله عليه السلام ، حيث أجاب كلٌّ منهم بجواب يكشف فيه عن رغبته في الموت واشتياقه إليه.

* كتاب محاسن الكلم، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة الروم، الآيتان 7 – 8.
2- سورة الحديد، الآية 20.
3- سورة الدخان، الآيتان 38 – 39.
4- سورة يوسف، الآية 105.
5- سورة الضحى، الآية 4.
6- سورة الأعلى، الآية 17.
7- سورة الأعراف، الآية 34.
8- الكُلَيْني، مُحَمَّد بن يعقوب، الكافي، ج 1، ص 299، ح 6، تصحيح وتعليق على أكبر غفاري، الطَّبعة الثّالثة 1367ش، دار الكتب الإسلاميَّة، طهران.
9- سورة الرحمن، الآيتان 26 – 27.
10- الشَّيْخ الصدوق، مُحَمَّد بن علي، معاني الأخبار، ص 390، باب: معنى العروة الوثقى، تصحيح وتعليق: على أكبر غفاري، نشر: مؤسسة النّشر التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، 1379ه.
11- سورة البقرة، الآيتان 94 – 95.
12- سورة الجمعة، الآيتان 6 – 7.
13- الشريف الرضي، محمد بن الحسين الموسوي، نهج البلاغة، ص 19، تحقيق وتصحيح: عزيز الله العطاردي، نشر: مؤسّسة نهج البلاغة، الطبعة الأولى 1414هـ، قم المقدسة.
14- سبط ابن الجوي، تذكرة الخواص، ص 100، الطبعة الحجرية.
15- ابن سعد، مُحَمَّد، الطَّبقات الكبرى، ج 3، ص 34، دار صادر، بيروت.
16- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 41، ص 2.

قراءة 272 مرة