بعد مكر قريش وتخطيطها لقتل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما كان من كيدهم، وأخبره الخبر. قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾[1]. ثمّ جاءه بأمر من الله في ذلك ووحيه، وما عزم له من الهجرة، ثمّ إنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منع مَن بقي من أصحابه ولم يهاجر بعد من الخروج من داره في تلك الليلة[2]. ثمّ دعا عليًّا بن أبي طالب عليه السلام لوقته، فقال له: "يا عليّ، إنّ الروح هبط عليّ يخبرني أنّ قريشًا اجتمعت على المكر بي وقتلي، وإنَّه أوحي إليّ عن ربي عزَّ وجلّ أن أهجر دار قومي، وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وإنّه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي لتخفي بمبيتك عليهم أثري، فما أنت صانع؟".
فقال عليّ عليه السلام: "أوتسلمنّ بمبيتي هناك يا نبيّ الله؟"، قال: "نعم".
فتبسّم عليٌّ ضاحكًا، وأهوى إلى الأرض ساجدًا شاكرًا لما أنبأه به رسول الله من سلامته. فلمَّا رفع عليّ عليه السلام رأسه، قال لرسول الله: "امض بما أُمرت، فداك سمعي وبصري، وسويداء قلبي، ومرني بما شئت، وإنْ توفيقي إلّا بالله".
فقال له: "فارقد على فراشي، واشتمل ببردي الحضرميّ، ثمّ إنّي أخبرك، يا عليّ، أنَّ الله تعالى يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم، ومنازلهم من دينه، فأشدّ الناس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا ابن عمّ، وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل عليهما السلام، فصبرًا صبرًا، فإنَّ رحمة الله قريبٌ من المحسنين.
ثمّ ضمَّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى صدره وبكى وجدًا به، وبكى عليّ عليه السلام لفراق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولبث رسول الله بمكانه مع عليّ عليه السلام، يوصيه ويأمره في ذلك بالصبر حتّى صلّيا العشاءين[3].
فشل المؤامرة القرشيّة
لمَّا أمسى الظلام، جاء الرصد من قريش، قد أطافوا بدار النبيّ ينتظرون أن ينتصف الليل، وتنام الأعين، ليدخلوا عليه.
ونام عليّ عليه السلام في فراش النبيّ، واشتمل ببرده الحضرميّ، بينما كانت عيون الرصد من قريش تطوف بداره، وقد اجتمع القتلة في خارج الدار ينتظرون خروج النبيّ.
فجاء جبرئيل، وأخذ بيد رسول الله، فأخرجه على قريش، وهو يقرأ هذه الآية: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾[4]. فمرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بينهم، ولم يشعروا به، ومضى وهم لا يرونه، ووضع التراب على رؤوس المحاصِرين لبيته[5]، وقال له جبرئيل: "خذ على طريق ثور"[6]، وكان ذلك في ليلة الخميس، أول ليلة من شهر ربيع الأوّل.
ثمّ أقبلوا يقذفون النائم - على أنّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - بالحجارة، فجعل الإمام عليّ عليه السلام يتضوّر (أي يتلوّى ويتقلّب)، وقد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه حتّى أصبح، وهم يرون ولا يشكّون أنّه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى إذا برق الفجر، وأشفقوا أن يفضحهم الصبح، قال لهم قائل منهم: "خبتم وخسرتم، قد والله مرّ بكم، فما منكم رجل إلاّ وقد جعل على رأسه ترابًا!". قالوا: "والله ما أبصرناه!"، ثمّ هجموا، فلمّا بصر بهم عليّ عليه السلام قد انتضوا السيوف وأقبلوا عليه، شدّ عليهم عليّ عليه السلام، فأجفلوا أمامه وتبصّروه، فإذا هو عليّ عليه السلام، ثمّ تركوه، وتفرّقوا في طلب رسول الله[7].
* من كتاب: السيرة النبوية المباركة - دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة الأنفال، الآية 30.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج19، ص73، قطب الدين الراوندي، الخرائج والجرائح، ج1 ص144.
[3] الخوارزمي، المناقب، ص73، الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص133، أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج1، ص321، الحاكم الحسكاني، عبيد الله بن أحمد، وشواهد التنزيل لقواعد التفضيل، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، إيران، 1990م، ط1، ج1، ص99، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص100، النسائي، أحمد بن شعيب، تحقيق وتصحيح الأسانيد ووضع الفهارس: محمد هادي الأميني، خصائص أمير المؤمنين، مكتبة نينوى الحديثة، طهران، إيران، لا.ت، لا.ط، ص63، الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج9، ص120، محب الدين الطبري، ذخائر العقبى، ص87، ابن عساكر، علي بن الحسن، تاريخ مدينة دمشق، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1415هـ، لا.ط، ج1، ص186، للتوسعة حول الموضوع، راجع: السيّد جعفر مرتضى العامليّ، الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم، ج4، ص181.
[4] سورة يس، الآية 9 .
[5] أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج3، ص103، القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص21.
[6] وهو جبل على طريق منى له سنام كسنام الثور، راجع: علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمّيّ، ج1، ص277، الشيخ الطبرسي، إعلام الورى، ص61، قطب الدين الراوندي، قصص الأنبياء، ص335.
[7] القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج3، ص21 – 25، أبو حيان الأندلسي، محمد بن يوسف، البحر المحيط، تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2001م، ط1، ج2، ص118 – 122، الطبرسي، تاريخ الأمم والملوك، ج2، ص102، الشيخ الطوسي، الأمالي، ج2، ص446، ابن إسحاق، سيرة ابن إسحاق، ج2، ص127، السهيلي، الروض الأنف في تفسير السيرة النبويّة لابن هشام، ج2 ص245، الذهبي، تاريخ الإسلام، ج4، ص272، البخاري، صحيح البخاري، ج1، ص184، النسائي، سنن النسائيّ، ج2، ص92، أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج3، ص103، للتوسعة حول الموضوع، راجع: السيّد جعفر مرتضى العامليّ، الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم، ج4، ص182.