كيف أغرت قريش النبي (ص) للعدول عن دعوته للإسلام؟(16)

قيم هذا المقال
(2 صوت)
كيف أغرت قريش النبي (ص) للعدول عن دعوته للإسلام؟(16)

بعدما اصطدمت قبيلة قريش بمواقف أبي طالب وابن أخيه الرسول محمد (ص) الرافضة لكل أشكال التسويات والمفاوضات، يطرح السؤال ماذا بعد فشل المفاوضات وما هي الخطوات والأساليب الجديدة التي اتبعتها قريش في مواجهة النبي (ص) لردعه عن متابعة تبليغ الدين الإسلامي.؟.

إن من يدقّق في التاريخ يجد أن المشركين قاموا يعدة خطوات وسياسات بعد فشل المفاوضات لتضعيف النبي (ص) والوقوف في وجه دعوته. وطبعاً لم تكن الحرب المسلحة ضده وضد أتباعه إحدى هذه الأساليب. وذلك لأن خيار الحرب لم يكن وارداً عندها في تلك المرحلة لأسباب ذكرناها في مقالات سابقة. ولذلك فإن أول خطوة التي اتبعها المشركون في هذه المرحلة هي مفاوضة النبي (ص) مباشرة ومساومته على الدعوة عبر إغرائه بالمال والمنصب والجاه وغير ذلك. فأرسلوا إليه عتبة بن ربيعة، الذي كان سيداً من سادات قريش، لمحادثته مباشرة فجاء إليه وقال له :" فإن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وإن كنت تبغي شرفاً جعلناك سيداً علينا حتى لا نقطع أمراً دونك. وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا ....".

ومضى عتبة يتحدث إلى النبي (ص) بأسلوب هادئ ولين محاولاً بذلك إغراؤه وإقناعه بالعدول عن تبليغ رسالته. أما النبي (ص) فقد رفض عروضه كلها وأسمعه شيئاً من آيات القرآن الكريم ولما يدعو إليه من المبادئ والقيم الإنسانية. فرجع عتبة إلى أصحابه خائباً إنما مدهوشاً بعظمة هذا الرجل وببيانه. فقد رأى أمامه رجلاً من نوع أخر، لا طمع له في مال ولا في تكريم ولا في تعظيم ولا في سلطان ..!! إنه رجل يدعو إلى الحق والخير وإلى إله واحد صمد يتساوى عنده جميع الناس، العبيد والأشراف، الفقراء والأغنياء، الرجال والنساء.. لا يرضى الزنى ولا الربى ولا القتل ولا كبرياء الأغنياء ولا تسلط المستكبرين والطغاة.

ولذلك بدأ عتبة يحدّث أصحابه بما سمع وشاهد من النبي (ص). فقال لهم :"لقد سمعت منه قولاً والله ما سمعت مثله قط. والله ما هو بالشعر ولا بالسحر.. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واتركوه. فوالله لا يكونن لقوله الذي سمعته منه نبأ عظيم. فإن تصبه العرب فقد كفاكم غيركم عنه، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزّه عزّكم وكنتم أسعد الناس به".

فقالو له :"لقد سحرك الرجل يا أبا الوليد ببيانه ولسانه". فقال :"هذا هو رأي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم". ويبدو من كتب التاريخ والسيرة أن المشركين جرّبوا أكثر من مرة إقناع النبي (ص) بالتراجع عن دعوته، عن طريق الإغراء بالمال والجاه. إلا إن جميع محاولاتهم على اختلاف أساليبها باءت بالفشل، ولم تغيّر مواقفه بل زادته إصراراً على متابعة الدعوة بشكل متصلب في جميع مواقفه وقراراته. فالرسول (ص) لم يكن طالباً للمال أو المنصب أو الجاه أو الحكم والسلطان، بل كان طالب حق وداعياً للخير والهدى لأولئك الذين تكتلوا ضده ووقفوا في وجه رسالته.

وهناك خطوة ثانية قام بها المشركون مع النبي (ص) للحد من انتشار دعوته، فراحوا ينهون الناس عن الالتقاء به وعن الاستماع ما جاء به من القرآن الكريم. ولقد قال الله تعالى عن ذلك :"وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون". وبعدما فشلوا في كل ذلك، اتبعوا خطوة ثالثة، وهي التعرض لشخص النبي (ص) بالسخرية والتهكم والاستهزاء والإيذاء المباشر، حيث رجموا بيته بالحجارة وألقوا رحم الشاة المذبوحة عليه، وألقوا التراب على رأسه الشريف، وسلّطوا الصبيان عليه يرمونه بالحجارة، وألقوا بالنجاسات أمام داره، إلى غير ذلك من الممارسات العدوانية الحاقدة.

ولقد كان يتولى القيام بهذه الممارسات المشينة سفاؤهم وعبيدهم، وأحياناً كان يتولى ذلك زعماؤهم ووجاؤهم أيضاً، مثل أبي جهل وعقبة بن أبي معين، حيث حاول الأخير خنق الرسول (ص) ذات مرة وهو يطوف في المسجد، وأبي لهب وزوجته وغيرهم. ويحدّثنا المؤرخون أن رسول الله (ص) تعرّض لأذى لا مثيل له، من قبل عمه أبي لهب وزوجته أم جميل، فقد ألقيا التراب والرماد على رأسه الشريف أكثر من مرة. وكانت أم جميل تضع الأشواك في طريقه، وأمام باب داره، وكانت تشجع العبيد والجواري على الإساءة إليه، فكانوا يقذفونه بالكذب والسحر، أينما وجدوه، ويلقون عليه الأوساخ وهو قائم يصلي في محرابه. ولقد أنزل الله قرآناً بشأن أبي لهب وامرأته بسبب ذلك، فقد قال تعالى :"تبّت يد أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد".

لقد نال رسول الإسلام (ص) من أتباع الجاهلية في سبيل دعوته ما لم ينله نبي من الأنبياء (عليهم السلام)، حتى كان يقول :"ما أوذي نبي مثل ما أوذيت". ولكن رسول الله (ص) كان يواجه كل هذا الأذى بصبر عظيم، وبتحمل لا نظير له، محتسباً كل ذلك عند الله عز وجل.

وعندما شعر المشركون بإصرار النبي (ص) على متابعته تبليغ الدعوة رغم كل الأذى الذي يلحق به، ووجدوا أنه لا يكاد يمرّ يوم إلا ويدخل شخص في الإسلام، فقرروا اتباع سياسة أخرى ضده، ومن أجل الضغط على المسلمين لإجبارهم على التراجع عن الإسلام. وكانت سياسة الإرهاب والتعذيب والتنكيل بالصفوة المؤمنة من المسلمين، وخاصة الفقراء والمساكين، والذي لا يتبعون لأي عشيرة كي لا ينالوا حمايتها. وقرروا أيضاً أن تتولى كل قبيلة تعذيب المسلمين فيها تفادياً لأي صدام بين القبائل. فأقدمت كل قبيلة على تعذيب من فيها من المسلمين بالضرب والحبس والتجويع، وإلقاء النار والأحجار الثقيلة على صدورهم، وغير ذلك من الأساليب الوحشية.

وكان من اولئك الذين عذّبوا عمّار بن ياسر وزوجته وأبوه وأمه. فقد جاء أبو جهل ومعه جماعة من المشركين – كما يحدّثنا التاريخ – إلى دار آل ياسر وأضرموا النار فيها ووضعوا عماراً وأبويه في الأغلال، واقتادوهم إلى بطحاء مكة، حيث انهالوا عليهم هناك بالضرب حتى سالت دماؤهم، ثم سلّطوا النار على صدورهم وأيديهم ووضعوا الأحجار الثقيلة على صدورهم. واستمروا في تعذيب ياسر وزوجته بوحشية لم تعهدها الجاهلية من قبل إلى أن استشهدا تحت التعذيب. وكانا أول شهيدين في الإسلام.

وممن عذّبهم المشركون في تلك المرحلة أيضاً بلال الحبشي وعامر بن مهيرة، ومصعب بن عمير وغيرهم. ولقد ضرب لنا هؤلاء ولكل الأجيال والأحرار والشرفاء في العالم المثل في الصمود والثبات والجهاد من أجل العقيدة والمبدأ ومن أجل قضية الحق مع معرفتهم بأنهم لا يملكون قوة تستطيع أن تدفع عنهم غير إرادة الله سبحانه، وأنهم كانوا يتحدون العالم كله، الذي كان بكل ما فيه ومن فيه ضدهم. وهنا تكمن عظمة هؤلاء وسر امتيازهم عن غيرهم.

قراءة 3029 مرة