الحجُّ من وجهة ِ نظر الامام الخميني (ره)

قيم هذا المقال
(0 صوت)

يعتبر احياء الفکر الديني من أهم هواجس الإمام الخميني (قدّس سرُّه) في النهضةِ الإسلاميةِ في السبعينيات ِ و قبلَ تلكَ الفترة.

کانَ يدرك منذُ اللحظاتِ الأولی من حياتِهِ الفکريةِ والاجتماعيةِ والسياسيةِ، أنَّ تبيينَ الإسلامِ الصحيحِ و تهذيبَهُ من الآراءِ و الأفکار الممزوجةِ بالجهلِ والجمودِ والخرافةِ هو الهدفُ في تغييرِ عقائد وأفکار الناسِ ورجوعِهم الی الإسلام الأصيل، و هو السببُ الرئيسي في الحرکةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ مِن أجل ِ تغييرِ هيکليةِ الحکومةِ الاستبداديةِ وإقامةِ حکومةٍ إسلامية.

تتبَّعَ الإمامُ الخميني (قدّس سرُّه) مسألةَ إحياءِ التفکُّر الإسلامي ِّ الأصيلِ قبلَ وقوعِ الثورةِ الإسلاميةِ بسنواتٍ عديدةٍ، وتابعَ ذلكَ الهدفَ المقدَّسِ بعدَ انتصارِ الثورةِ الإسلامية وإنبثاقِ النظام الإسلامي في الجمهوريةِ الإسلاميةِ في إيران و علی المستوی العالمي ولم يغفل لحظة واحدة عن هذهِ القضيةِ حتی الإيام الأخيرةِ من حياته ِ المبارکةِ.

أحدُ أبعادِ ومظاهرِ سعي وجهادِ الإمام الخميني (قدّس سرّهُ) في طريقِ تحقيقِ إحياءِ الفکرِ الإسلامي، هو أحياءُ «الحجِّ»، وذلكَ من خلالِ توضيحِ وشرحِ الآراءِ الفلسفيةِ والمحاضراتِ والخطبِ والرسائل والآثار الإجتماعية والسياسيةِ العميقةِ المتعلقة به.

ويتعلقُ الجزءُ الأکبرُ من خطبِ وبيانات الإمام (قدّس سرّهُ) في مجالِ إحياءِ الحجِّ الإبراهيمي والمحمدي (ص) وبشکلٍ طبيعي إن تحقيق هذا الامر المهم لن يتم إلا بتوضيحِ وبيانِ فلسفةِ وآثارِ الحجِّ وبتطهيرِ وإزالةِ الآراءِ والأفکارِ الخرافيةِ عن هذهِ العبادةِ والفريضةِ العظيمةِ، وکذلك بفضح القوی الاستعماريةِ وقطع الأيادي القذرةِ في الدول الإسلاميةِ .

وسنبحثُ في هذا المجال قسماً من رسالة الإمام الخميني (قدّس سرّهُ) العظيمةِ حولَ هذا الموضوع ..يتألفُ هذا القسم من ثلاثِ موضوعاتٍ مختلفةٍ، يحتاجُ کلُّ منها إلی تأمّلٍ عميقٍ.

1- التفاسيرُ الخاطئةُ عن فلسفة الحجِّ

إحدی وظائف المسلمين العظيمةِ هي معرفةُ هذهِ الحقيقةِ، وهي ما هو «الحجُّ» ولِمَ يجِبُ علينا دائماً أن نستهلكَ قسماً من قدراتنا الماديةِ والمعنويةِ لأداءِ هذه الفريضةِ.

کلُّ ما قالُه الجهلةُ والمحلّلونَ المغرضون عن فلسفةِ الحجِّ لحدِّ الأن هو أنَّ الحجَّ عبادةٌ جماعيةٌ وسفرةٌ سياحيةٌ لزيارةِ بيتِ اللهِ الحرامِ، فما علاقةُ «الحجِّ» في کيفَ نعيشُ أو کيفَ يجبُ أن نناضلَ أو بأي شکلٍ يجبُ أن نقفَ بوجهِ العالم الرأسمالي والاشتراکي!

و ما علاقةُ الحجِّ بحقوقِ المسلمينَ والمحرومينَ وکيفَ يجبُ أن تؤخذَ هذه ِ الحقوق من الظالمين؟ و لِمَ يجبُ علی الحجِّ أن يجدَ حلولاً للضغوطِ النفسيةِ والروحيةِ للمسلمين؟ وما علاقةُ الحجِّ في وجوب أن يظهرَ المسلمين کقوةٍ عظيمةٍ و القدرة الثالثه في العالم ! فالحجُّ هو ذلك السفرُ الترفيهي لزيارةِ الکعبةِ و المدينةِ فقط(1)!؟

فأحدی الآفاتِ والمخاطرِ التي کانت تهَدِّدُ المجتمعاتِ الإسلاميةَ علی مرِّ التاريخِ، هي تلك المفاهيمُ والتفاسيرُ المخالفةُ لحقيقةِ الحجِّ، و التبليغُ عنها والترويجُ لها بينَ الناسِ، هذه التفاسير الخاطئةُ کانت السببَ في امتزاج حقائق وتعاليم ومعارف هذهِ الفريضةِ بالجهلِ والجمودِ والخرافات وتبقی غير مثمرةٍ وبعيدةٍ عن التغيير والتحوّل، وتکونُ السببَ لتجعلَ هذه الفريضةَ التي يجبُ أن تکونَ بشکلِ مؤتمرٍ إسلامي عظيم يضمُّ جميعَ المسلمينَ ويجمعُهم في مکانٍ واحدٍ، ويتلمسوا آثارَهُ الاجتماعيةَ والسياسيةَ المفيدة بأمِّ أعينِهم يظهره بصورةِ سفرةٍ ترفيهيةٍ يجدونَ البهجةَ والسرورَ فيه، ويرجعون إلی أوطانِهم معَ ذخائرَ من مشاهدةِ الأماکنِِ المقدّسةِ وأفراد الأممِ الأخری، وشراءِ ما يحتاجونَ من الأشياءِ والهدايا!

وبرأي الإمام الخميني (قدّس سرّهُ) أنّ هذهِ التفاسيرَ الخاطئةَ والغيرَ صحيصةِ مطروحةٌ من قِبلِ مجموعتينِ وهي مستمرةٌ لحدِّ الآن.

المجموعةُ الاولی: الجهلة، وهؤلاءِ هم المسلمون الجهلةُ في الجتمعاتِ الإسلاميةِ وبسببِ جهلهم وعدم معرفتِهم ودرايتهم اللازمةِ، يعرّفون الحجَّ ويحصرونه بأمورٍ ترفيهيةٍ وسياحيةٍ ، وجهلُ وغباءُ هؤلاءِ الأفرادِ کانَ سبباً لعدمِ فهمهِم لآثارَ وفلسفةَ الحجِّ الاجتماعية إلی جانبِ أهدافِ الحجِّ العقائديةِ و العباديةِ.

المجموعةُ الثانيةُ: هُم المحلِّلونَ المغرضونَ الذين يسعونَ لتغييرِ فلسفةِ الحجّ ذلك من أجل منافِعهم الاقتصاديةِ والحزبيةِ والسياسيةِ، ولأنَّ الحجَّ الواقعي الحقيقي سيکونُ سبباً لخسارةِ هؤلاءِ لمنافِعهم ومطامحِهم وعدمِ تحقيقها بالشکلِ المطلوبِ. لذا يحاولونَ تفسيرَ وتحليلَ هذهِ العبادةِ العظيمةِ حسبَ أهوائِهم و رغباتِهم .

و اليومَ، هؤلاءِ المحلِّلون وباسم ِ الدينِ وفي لباسِ رجالِ الدينِ يسعونَ لتشويشِ الأفکارِ العامةِ. هؤلاءِ هم نفسُ الأفرادِ الذين حاربوا الإسلامَ بعدَ انتصارِ الثورةِ الإسلاميةِ من خلالِ مخالفتِهم لآثارِ الحجِّ الإجتماعيةِ والسياسيةِ. واليومَ أيضاً يقفونَ بوجهِ القضيةِ الحياتيةِ المهمةِ والحسّاسةِ ،ألا و هي قضيةُ وحدةِ المسلمينَ والتقارُبُ بينَ المذاهبِ الإسلاميةِ، ويعتقدونَ ويؤکِّدونَ علی الجانبِ الفردي ِّ الترفيهي للحجِّ. هاتانِ المجموعتانِ بنشرِهم الأفکارَ والتفاسيرَ الخاطئةَ بينَ الناسِ يحاولونَ أن يثبتوا أنَّ لا وجودَ لأيِّ رابطةٍ بينَ الحجِّ و القضايا الاجتماعيةِ والسياسيةِ، وأساساً ليس من الضروري الوقوفُ بوجهِ القوی الامبرياليةِ والاستعماريةِ أو السعي لأجل إحياءِ حقوقِ المحرومينَ ووصولِ المسلمينَ إلی مکانتِهم الحقيقيةِ المقتدرةِ وعدِّهم قوةً عالميةً، فمحاربةُ و مخالفةُ الأيادي الاستعماريةِ القذرةِ المنتشرةِ في الدولِ الإسلاميةِ فکرةٌ غيرُ صحيحَةٍ وباختصارٍ وفي جملةٍ واحدةٍ فإنَّ وظائفَ ومسؤولياتِ الحجِّ تتحدد فقط بالأمور الفرديةِ والعباديةِ والأخلاقيةِ.

2- الحقائقُ الکامنةُ في الحجِّ الحقيقي

حاولَ الإمامُ الخميني(قدّس سرّهُ) أن يوضِّحَ لنا بالعباراتِ الآتيةِ حقيقة الحجِّ الواقعي بعدَ أن حذّرَنا مباشرةً من مخاطرِ هذهِ التفاسيرِ والتحليلات الخاطئةِ عن الحجِّ ويعتقدُ أن الحجَّ الواقعي يعارضُ ويخالفُ کلَّ هذهِ التفاسيرِ الخاطئةَ عن هذه العبادةَ المهمةِ والعظيمةِ، إذ يقولُ:

«أنَّ الحجَّ اتصِّالٌ و تقارُّبٌ بينَ صاحبِ هذا البيتِ (عزَّ وجلَّ) وبينَ الإنسانِ وليسَ الحجُّ أعمالً وحرکاتٍ وألفاظً فقط، إذ لا يمکن للإنسانِ أن يتقرَّبَ إلی اللهِ سبحانَه وتعالی بألفاظٍ وکلماتٍ وحرکاتٍ جامدةٍ بلا معنی، بل أنَّ الحجُّ موطنُ العلومِ والمعارفِ الإلهيةِ التي يجبُ علينا أن نبحثَ ونُنقِّبَ في مضامينها عن سياسةِ الإسلام ِ في کلِّ جوانبِ وزوايا الحياةِ. الحجُّ هو رسولٌ ومُبلِّغٌ لتحقيق وبناءِ مجتمعٍ بعيدٍ عن الرذائلِ الماديةِ والمعنويةِ، الحجُّ هو توضيحُ وتکرارُ لحظاتِ مشاهدِ العشقِ في الحياةِ الدنيويةِ لأي إنسان ولأي مجتمعٍ متکاملٍ، ومناسكُُ الحجِّ هي مناسكُ الحياةِ؟، لذا فإنَّ مجتمعاتِ الأمةِ الإسلاميةِ من أي عرقٍ أوقوميةٍ يجبُ أن تکونَ مجتمعاً إبراهيمياً کي يلتحقَ برکبِ اُمةِ محمدٍ (ص) وتکونَ مجتمعاً موحَّداً و يداً واحدةً.

الحجُّ هو تنظيمُ وإختبارُ وتشکيلُ هذهِ الحياةِ الموحَّدةِ. الحجُّ مسرحٌ لعرضِ وموازنةِ الإمکاناتِ و القدراتِ الماديةِ والمعنويةِ للمسلمينَ، الحجُّ مثلَ القرآنِ إذ يستفيدُ منه کلُّ مسلمٍ.

لکنَّ المفکِّرينَ و العلماءَ الذين يحسّون بألآمِ الأمةِ الإسلاميةِ، إذا ما حاولوا الغوصَ في علومِ ومعارفِ الحجِّ عن قربٍ و أدرکوا عمقَ الأحکامِ و التعاليمِ الاجتماعيةِ ولم يخافوا من شيءٍ لاستطاعوا أن يحصلوا علی دررِ الحکمةِ والهدايةِ والحريةِ بشکلٍ أوفر، ولارتووا من زلالِ الحکمةِ والمعرفةِ الی الأبد»(2).

لقد وضحَّ الإمامُ الخميني(قدّس سرّهُ) بهذهِ العباراتِ البليغةِ والعميقةِ آثارَ وفلسفةَ الحجِّ، هذه الفريضةِ الإلهيةُ الکبيرةُ وشرح عظمة هذهِ الآثارِ ونتائجها.

3-ثابرَ الإمام الخميني(قدّس سرّهُ) علی توضيحِ وتبيينِ الحجِّ الحقيقي إلّا أنّه أظهرَ عدمَ ارتياحِهِ من أنَّ الناسَ سلّموا هذهِ الفريضةَ العظيمةَ مع آثارها الاجتماعية والسياسيةَ المهمَةَ ليدِ النسيانِ، وکيفَ أنَّ غبارَ الهجرِ قد غطّاها:

«ولکن ماذا نَفعلُ؟ ولمن نشکو حزننا وألَمنا الکبيرَ ؟ إذ أنَّ الحجَّ مثلَ القرآنِ قد تُرِك وأصبح مهجوراً، وبنفسِ المقدارِ الذي اُبتلي به هذا الکتابُ العظيمُ، کتابُ الحياةِ والکمالِ والجمالِ و أُخفي بينََ الأغلفةِ التي صنعناها بأيدينا و دُفِنَ هذا الکنزُ العظيمُ کنزُ الاسرار في أعماقِ أفکارنا المتلبِّدةِ و تبدَّلت لغتُه من لغةِ الهدايةِ والحياةِ وفلسفتها إلی لغةِ الخوفِ والموتِ والقبر! کذلك الحجُّ اُبتلي بنفسِ المصير، المصيرُ الذي هو أنّ ملايين المسلمينَ يذهبونَ کلَّ سَنةٍ إلی الحجِّ ويطاؤونَ بأقدامِهم مواضعً وطأها الرسولُ(ص) وابراهيمُ واسماعيلُ وهاجرُ ولکن ليس هناك من يسألُ نفسَه: من هو ابراهيمُ ومحمدٌ(ص) و ماذا فعلا؟ وما هو هدفهما؟ وماذا أرادوا منِّا؟ ولکنَّ الشيء الوحيدَ الذي لا نفکرُ به هو هذا الامرُ!! أيها المسلم، حجٌّ بلا روحٍ وبلا تحرُّكٍ ونهوضٍ، حجٌّ بلا براءةٍ، حجٌّ بلا وحدةٍ، حجٌّ لا يرادُ به هدم الشرك و الکفرِ ليسَ بحجٍّ مطلقاً. باختصار نقولُ يجبُ علی المسلمين أن يسعوا في إحياءِ الحجِّ والقرآنِ الکريم، وأن يعيدوا هذينِ الکنزينِ العظيمينِ إلی ميادينِ حياتِهم. وعلی باحثي الدين الإسلامي والذين ومن خلال نشرِهم التفاسيرَ الصحيحةَ والواقعيةَ عن الحجِّ سيمحونَ من الوجودِ تلك الأکاذيب الخاطئة والأفکار الخرافيةَ التي نشرها علماء البلاط بين الناسِ وسيرمونَها في بحرِ النسيان»(3).

ظهر الحزنُ والألمُ في هذا الجزءِ من رسالةِ الإمام الخميني(قدّس سرّهُ) والحديث عن هجرانِ الحجِّ ونسيانِهِ ونسيانِ فلسفةِ هذه العبادةِ العظيمةِ وآثارها الاجتماعيةِ والسياسيةِ القيمةِ والکبيرةِ، هذا النسيانُ و الهجرُ عظيمٌ لدرجةِ أنّه يذکِّرنا بنسيانِ وهجرِ القرآنِ الکريمِ، إذ تبدَّل هذا الکتاب، کتابُ الحقِّ مع تعاليمِهِ وقوانينهِ القيمةِ لبناءِ الحياةِ، تبدَّل في الدولِ الإسلاميةِ إلی کتابٍ تُتّلی آياتُه علی قبورِ الموتی ويذکّرنا بموتِ الأفرادِ ودفنِهم في الترابِ بالرغم من أنَّ القرآن هو کتابُ الحياةِ لا الموت! ذلك ليس فقط لتوضيحِ الحياةِ الفرديةِ بل انّه مفتاحُ الحياةِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ مع الأحکامِ والقوانينِ في کافةِ مرافقِ الحياةِ الثقافيةِ والاقتصاديةِ والسياسية.

المنابع:

1. صحيفة الإمام ، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني ، المجلد21، ص77.

2. المصدر السابق.

3. المصدر السابق، ص77-78

 

 

 

قراءة 3057 مرة