أفكار في قضايا الوحدة بين المسلمين

قيم هذا المقال
(0 صوت)

محمد المحفوظ

الوحدة بين المسلمين غاية من أسمى الغايات، وهي جسر القوة والمجد.. ولكن ما السبيل إليها؟ وكيف يمكننا أن نحققها وننجز مفرداتها المتعددة في واقعنا الخارجي..

 

ولعل من البديهي القول، أن الاختلاف الفكري والاجتماعي بين البشر من المسلمات، التي لا تحتاج إلى مزيد بيان وتوضيح.. وذلك لأن مساحة الاختلاف بين البشر، هي جزء من الناموس وقانون الوجود الإنساني.. قال تعالى ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم﴾ [1] ..

 

من هنا فإن مفهوم الوحدة، لا يمكن اكتشافه إلا من خلال منظور الاختلاف.. وذلك لأن الاختلاف جزء أصيل من منظومة الوعي الذاتي، كما أنه «الاختلاف» هو الذي يثري مضمون الوحدة، ويمده بأسباب الحيوية والفعالية..

 

فالاختلاف وفق هذا المنظور ضرورة لما له من وظيفة في بلورة معنى الوحدة وهويته الحضارية والإنسانية..

 

وبين الاختلاف والوحدة مسافات، لا يمكن اجتيازها إلا بالتسامح والحرية والاعتراف بقانون التعدد ومبدأ التنوع.. لذلك فإن الاختلاف المفضي إلى الوحدة الصلبة، هو ذلك الاختلاف الذي تسنده قيم التعدد والحرية وحقوق الإنسان.. أما الاختلاف الذي يجافي هذه القيم، فإنه يفضي إلى المزيد من التشرذم والتشتت والتجزئة..

 

ولعل من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها العرب والمسلمون في العصر الحديث، رؤيتهم المنمطة لمفهوم الوحدة..

 

فالرؤية السائدة عن هذا المفهوم، أنه يعني إلغاء حالات الاختلاف والتعدد الطبيعية والتاريخية والثقافية.. وبفعل هذا المنظور النمطي لمفهوم الوحدة، ما رست السلطات التي رفعت شعار الوحدة كل ألوان القمع والإرهاب والتنكيل بحق كل التعبيرات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تختلف رؤيتها عن هذه الرؤية أو تتباين في أصولها العرقية أو الأثنية.. ولقد دفع العرب من جراء ذلك الكثير من التضحيات والخسائر والجهود.. أدناها أن مفهوم الوحدة لم يعد يشكل في هذه الحقبة من الزمن، ذلك البريق أو الشعار الذي يستقطب جميع الفئات والشرائح..

 

مفهوم الوحدة قراءة جديدة:

 

لذلك فإنه آن الأوان لنا جميعا، أن نعيد قراءة مفهوم الوحدة بعيدا عن كل أشكال التوحيد القسري وأساليب تدمير حالات الاختلاف الحضارية المتوفرة في الجسم العربي والإسلامي..

 

فالاختلاف الفكري والثقافي، لا يدار بعقلية الإقصاء والنفي، لأنه لا ينهي الاختلافات، وإنما يشحنها بدلالات ورموز خطيرة على مستوى العلاقات والوجود الاجتماعي والسياسي..

 

وحالات الإجماع والوحدة في المجتمعات الإنسانية، لا تنجز إلا على قاعدة تنمية قيم التسامح والتعاون والتعدد والإدارة الواعية والحضارية للاختلافات العقدية والفكرية والسياسية على مستوى الواقع والتاريخ وليس فقط على مستوى النظر والنص..

 

وإن أخطر الهويات على حد تعبير «داريوش شايغان» على الإطلاق هي تلك التي لا تتحقق إلى على أنقاض هويات الآخرين.. ينبغي أن تكون هويتي متصالحة، مثقفة أو متوافقة مع هويات الآخرين لا أن ترفضها وتهددها بالإلغاء..

 

فالممارسات العدوانية والانفعالية، لا تلغي الاختلافات والتمايزات، وإنما تدخلها في علاقة صراعية، عنفية، بدل أن تكون العلاقة تواصلية وتفاعلية ولا يمكن فهم الآخر، إلا بتقدير وتحديد مساحة الاختلاف معه، وكيف سيتم إدارة هذا الاختلاف..

 

فالاختلاف في حدوده الطبيعية والإنسانية ليس أمرا سيئا.. الأمر السيئ والخطير في هذه المسألة هو عدم الاعتراف بشرعية الاختلاف وحق صاحبه في أن يكون مختلفا..

 

فالتوحيد القسري للناس، يزيدهم اختلافا وتشتتا وضياعا.. وذلك لأن محاولة إنهاء الاختلاف بالقمع والقهر يزيدها اشتعالا.. كما أن هذا المنطق والخيار يخالف مخالفة صريحة ناموس الوجود الإنساني، القائم على التنوع والاختلاف والتعدد..

 

الوحدة ووهم المطابقة:

 

فالتنوع مكون للوحدة، ولا وحدة صلبة في أي مستوى من المستويات من دون إفساح المجال لكل التعبيرات للمشاركة في إثراء هذا المفهوم، وإعطاؤه مضامين أكثر فعالية وقدرة على هضم كل الأطياف والقوى..

 

وإن أي تغييب للاختلافات الطبيعية في المجتمع، فإنه يفضي إلى غياب الوحدة والاستقرار السياسي والمجتمعي.. وذلك لأن مفاعيل الوحدة الحقيقية متوفرة في فضاء الاختلاف الثقافي والسياسي المنضبط بضوابط الأخلاق وتطلعات الإجماع والوحدة..

 

ولقد أبانت التجارب التاريخية، استحالة إنجاز مفهوم الوحدة على قاعدة القهر والقسر.. فالنموذج السوفيتي عرى هذا المنظور وأبرز الثقوب والثغرات الكبرى في مسيرته..

 

فلا وحدة مع القهر والفرض، كما أنه لا إجماع سياسي أو وطني بدون مشاركة كل القوى والتعبيرات المجتمعية في إنجاز مفهوم الإجماع الوطني والسياسي..

 

ولقد أبانت التجربة السوفيتية أيضا، أن إنكار حركية الواقع وتعدد مكوناته الاجتماعية والثقافية والسياسية وتنوعاتها، لا يفضي إلى الوحدة الاجتماعية والدولة القوية، وإنما هذه الممارسات السياسية والثقافية والاجتماعية الناكرة لتعددية الواقع وتنوعه على مختلف الصعد، تؤدي إلى بلورة القوة المضادة لهذه المفاهيم والممارسات البالية..

 

لذلك كله تلح الحاجة اليوم إلى إحياء وتأسيس المؤسسات المجتمعية المتحررة من هيمنة المفهوم القسري للوحدة، والانطلاق في بناء فعل مؤسساتي، يستند في كل أموره على رعاية الاختلاف، ومحاربة كل نزعات الاستفراد والتغول التي لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور والتشرذم..

 

وفي نطاق هذه المؤسسات يتم إطلاق حوار وطني يستوعب كل القوى والتعبيرات والوجودات، قوامه حرية الرأي والتعبير واحترام الآخر رأيا ووجودا، وتفعيل وتنمية مستويات المشاركة السياسية والثقافية والاقتصادية..

 

وهذا الحوار الوطني الشامل بدوره، ينتج حقائق مجتمعية تكرس مفهوم الوحدة الجديد، وتبلور منظور الاختلاف والحوار المفضيان إلى الوحدة والاستقرار السياسي والمجتمعي..

 

فالوحدة لا تساوي التطابق التام، كما أن الاختلاف لا يعني التشرذم والتشتت والتجزئة.. فنزعات الوحدة القسرية والقهرية، لم تنتج إلا المزيد من التشرذم والضياع، كما أن نزعة ترذيل الاختلاف بالمطلق، لم تؤد إلا إلى المزيد من التوترات والنزاعات والصراعات..

 

فالاختلاف ليس انقطاعا عن الوحدة، كما أن الوحدة ليست توقفا عن الاختلاف والتمايز والتنوع..

 

من هنا ندرك أهمية حضور قيمة العدل في الاختلافات الإنسانية.. حيث أن مجرد الاختلاف، ينبغي أن لا يفضي إلى الظلم والخروج عن مبادئ وقواعد العدالة.. يقول تبارك وتعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾ [2] ..

 

ويقول تعالى ﴿ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون﴾ [3] ..

 

فالاختلافات الفكرية والاجتماعية والسياسية، ينبغي أن لا تكون سببا للقطيعة مع قيم العدالة والوحدة، بل وسيلة من وسائل الالتزام بهذه القيم، وذلك من أجل تحديد مجالات الاختلاف وتنمية القواسم المشتركة، لأنها جزء من عملية العدالة المطلوبة على كل حال..

 

لذلك نجد أن الإمام علي بن أبي طالب حينما سمع بعض أهل العراق في معركة صفين يسب أهل الشام قد قال لهم «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به» [4] ..

 

من أين تبدأ الوحدة:

 

فالوحدة السليمة هي التي تبدأ من الاعتراف بالآخر وجودا وفكرا، لا للانحباس المتبادل، وإنما لانطلاق فعل تواصلي - حواري، ينمي المشتركات، ويحدد نقاط المغايرة، ويسعى نحو مراكمة مستوى الفهم والاعتراف..

 

كما أن الاختلاف المشروع، هو الذي لا ينقطع أو ينفصل عن مفهوم الوحدة، وإنما يجعل من الاختلاف في المواقع والقناعات، وسيلة لانجاز المفهوم الحضاري للوحدة، القائم على احترام التنوع ومراكمة قيم التسامح وحقوق الإنسان في المحيط الاجتماعي.. فحضور الوحدة مستمد من غياب التشرذم والتشتت، وأي محاولة لمساواة الاختلاف مع التشرذم والتشتت، لا تفضي إلا إلى المزيد من بعدنا جميعا عن التطلع الوحدوي بمستوياته المتعددة..

 

ومن هنا ندرك أن من الأخطاء الفادحة، والتي دفع الجميع ثمن باهضا بسببها.. هو النظر إلى مفهوم الوحدة، على أساس أنه يعني غياب أو تغييب التنوعات والتعددية والآخر.. إذ عملت قوى الوحدة وسلطاتها، على إفناء كل التنوعات، وممارسة القهر والاستبداد تجاه كل مستويات التعدد، مما أدى إلى اهتراء حياتنا المدنية والسياسية، وبعدنا كل البعد عن إنجاز مفهوم الوحدة السليمة القائمة على مشاركة الجميع في اجتراح وقائعها وحقائقها.. وإن الوحدة الحقيقية تتجسد، حينما نخرج من سجن أنانيتنا، ونعترف بحقوق الآخرين، ونبدأ بتجسيد مبدأ «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»..

 

الاختلاف والتواصل:

 

وإن القهر لا ينتج وحدة، وإنما تشتتا واحتقانا وتوترا، كما أن التعدد والتنوع المعرفي والسياسي المنضبط بضوابط القيم الإسلامية العليا، هو الذي يؤسس لحالة وحدوية فعالة ومستديمة، وذلك لأنها مفتوحة ومتواصلة مع جميع القوى والتعبيرات السياسية والمجتمعية..

 

وإن إبطال تأثيرات التجزئة التي يعاني منها الواقع الإسلامي المعاصر، بحاجة إلى جهود مكثفة وأنشطة متواصلة، تؤسس لقيم الوحدة، وتعمق في الواقع حقائق التضامن والاتحاد، وتزيل كل الرواسب التي تحول دون تراكم الفعل الوحدوي في الأمة..

 

من هنا فإننا نرى، أن مشروع الوحدة في الدائرتين العربية والإسلامية، لا يعني نفي الاختلافات القومية والأثنية والمذهبية، وإنما يعني احترامها وتوفير الأسباب الموضوعية لمشاركتها الإيجابية في هذا المشروع الحضاري الكبير، الذي يستوعب الجميع، كما أنه بحاجة إلى مشاركة الجميع في إرساء قواعد المشروع الوحدوي في الأمة..

 

وذلك لأنه في زمن التخلف والانحطاط، تنمو الانقسامات وتزرع الأحقاد وتربى الإحن.. يقول الزمخشري في تفسيره عند الكلام على رؤية الله في الاشعرية:

 

وجماعة سموا هواهم سنة * لجماعة حمر لعمري مؤكفة

 

قد شبهوه بخلقة فتخوفوا * شنع الورى فتستروا بالبلكفة

 

ويذكر التاريخ أن الحنابلة من أهل جيلان، كانوا إذا دخل إليهم حنفي قتلوه، وجعلوا ماله فيئا حكمهم في الكفار.. ويذكر أيضا أن بعض بلاد ما وراء النهر كان فيه مسجد واحد للشافعية، وكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد فيقول: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق! وغيرها من القصص والنماذج التي تفوح منها رائحة الشقاق والانقسام بكل أسلحته وعنفه وعنجهيته..

 

فالاختلافات المعرفية والفقهية والاجتماعية والسياسية، ينبغي أن لا تدفعنا إلى القطيعة واصطناع الحواجز التي تحول دون التواصل والتعاون والحوار.. وذلك لأن الوحدة الداخلية للعرب والمسلمين، بحاجة دائما إلى منهجية حضارية في التعامل مع الاختلافات والتنوعات، حتى يؤتي هذا التنوع ثماره على مستوى التعاون والتعاضد والوحدة..

 

والمنهجية الأخلاقية والحضارية الناظمة والضابطة للاختلافات الداخلية، قوامها الحوار والتسامح وتنمية المشتركات وحسن الظن والإعذار والاحترام المتبادل ومساواة الآخر بالذات..

 

هذه المنهجية هي التي تطور مساحات التعاون وحقائق الوحدة في الواقع الخارجي.. فالوحدة لا تفرض فرضا ولا تنجز بقرار أو رغبة مجردة، وإنما باكتشاف مساحات التلاقي، والعمل على تطويرها، ودمج وتوحيد أنظمة المصالح الاقتصادية والسياسية كما يذهب إلى ذلك المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين [5] ..

 

ومن الأهمية بمكان أن ندرك، أن وحدة مصادر العقيدة والأحكام، لم يلغ الاختلافات بين المسلمين، وذلك لاختلافهم في مناهج النظر والاستنباط..

 

وفي هذا التعدد والتنوع في مناهج النظر إثراء للمسلمين في مختلف الجوانب، ولا ضرر نوعي لهذا التنوع على المستوى النظري أو العملي.. ولكن الضير كل الضير، حينما يفضي الاختلاف خلافا وقطيعة وخروجا عن كل مقتضيات الأخوة الدينية والوطنية، وسيادة هوس التعصب الأعمى.. قال تعالى ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾ [6] ..

 

فالإنسان الوحدوي حقا، هو ذلك الإنسان الذي يحترم خصوصيات التعبيرات الثقافية والسياسية، ويسعى نحو توفير الأسباب الموضوعية لمشاركتها في بناء الأمة وتطوير الوطن.. ف «الإنسان الذي يعيش الوحدة هو الذي يحترم خصوصية صاحبه كما يريد من صاحبه أن يحترم خصوصيته.. عندما تكون وحدويا، فإن عليك أن تفتح المجال لتحمي حرية صاحبك بأن يقول ما يشاء، تحميه من كل عواطفك وانفعالاتك، تحميه من كل ذلك وتقاتل في سبيل حريته، لأن الآخر إذا استطاع أن يأخذ حريته في أن يعبر عن فكره بصراحة، فمعنى ذلك أنك تستطيع مناقشة أرائه، كما يستطيع هو مناقشة آرائك، لا أن تحجب حريته عنه ويحجب حريته عنك، وبعد ذلك تختبئان في زاوية المجاملة، وتنتهي القضية بنقطة مقابل نقطة، أو أكثر من ذلك، ويتفرق بعدها المتفرجون، ويرجع كل لاعب إلى مكانه» [7] ..

 

فدحر التنوعات والتعدديات، لا يؤدي إلى وحدة، وإنما إلى شرذمة وتفتت متواصل، يغذي كل النزعات الانفصالية والكانتونية بكل عنفها وعقدها وتشابكاتها..

 

وإن واقعنا الإسلامي المعاصر، قد ورث خلال الحقب التاريخية المديدة، العديد من المشاكل والعقد والرواسب التمزيقية، وإن الإنصات إلى هذه الرواسب يكلفنا الكثير على مستوى حاضرنا وراهننا..

 

لذلك فإن المطلوب هو إطلاق عملية حوارية مستديمة، لا تقف حائرة أمام عناوين التمزق، وإنما تسعى بعقل منفتح وحكمة ونفس طويل إلى تفكيك هذه العناوين، ومنع تأثيرها السلبي على راهننا.. وذلك لأن «المسلمين قد ورثوا من التاريخ الكثير من الخلافات المذهبية المتمحورة حول عناوين وقضايا عدة، لعل أبرزها ماله صلة بشؤون الخلافة والإمامة، وبشؤون الفقه والشريعة، وبقضايا الفلسفة والكلام، وبجوانب الحكم والسياسة العامة..

 

وقد كان لهذه الخلافات التاريخية دور كبير في إثارة الحقد والبغضاء والعداوة، وفي تفجير الحروب، وفي إهراق الدماء البريئة الطاهرة» [8] ..

 

وإن العمل على منع تسرب عقدنا وأزماتنا التاريخية إلى واقعنا المعاصر، بحاجة منا جميعا الوعي العميق بمبدأ الوحدة والتعاون على البر والتقوى، وتجاوز كل الإحن النفسية التي تحول دون تنمية المشتركات والاستجابة الفعالة إلى التحديات.. إذ يقول تبارك وتعالى «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون» [9] ..

 

فالوحدة لا تعني بأي شكل من الأشكال مصادرة الاختلافات وحالات التنوع والتعدد المتوفرة في المحيط الاجتماعي والسياسي للعرب والمسلمين، وإنما تعني تنمية المشتركات والالتزام السياسي والعملي بالقضايا المصيرية للأمة.. والعمل معا انطلاقا من هذه المشتركات والقضايا الحيوية للأمة.. ف «الوحدة تعني الأرض الواحدة التي يقف الجميع عليها، والروحية التي ينطلق الجميع منها، ليختلفوا أو ليتفرقوا في التفاصيل على أرض موحدة أو من خلال الروحية الموحدة، ولذلك لا نعتبر أن هناك ساحة جاهزة للوحدة الإسلامية في دائرة المسلمين الشيعة، كما ليست هناك ساحة لهذه الوحدة في دائرة المسلمين السنة.. إننا عندما ندعو إلى الوحدة، لا ندعو إليها ونحن نختزن حالا طائفية معينة، حتى يقال إن عليكم أن تؤكدوها في الواقع من هذه الدائرة حتى تطلبوا من الدائرة الثانية أن تلتقي بها» [10] ..

 

فتفعيل اللقاء حول القضايا المشتركة، هو الكفيل بتطوير مستوى الوحدة في العالمين العربي والإسلامي..

 

فالوحدة الحقيقية والصلبة، لا يمكن أن تعيش إلا في ظل الاختلاف المشروع، لأنه يغني مفهوم الوحدة ويمده بأسباب الحيوية والفعالية، ويؤسس لوقائع وحقائق جديدة تحول دون تقهقر المفهوم الوحدوي على مستوى الواقع..

 

ولا شك أن حيوية المجتمع وحضور قيم الإسلام العليا في حركته في مختلف الاتجاهات، سيساهم بشكل أو بآخر في اكتشاف وتطوير مواقع ومجالات الاشتراك واللقاء، ويحدد مواطن الخلاف والسبل العملية لإنهاءها أو تجميدها وعدم تأثيرها السلبي على المسيرة الاجتماعية..

 

كما أن المعنوية الرفيعة والروحية المندفعة، تساهمان في تذليل الكثير من الحواجز النفسية التي تحول دون التواصل والتعاون والتضامن..

 

و «إن الجهاد في الإسلام يمكن أن يفهم على أنه شرع لحماية الاختلاف لا لإزالته، لأنه يمنح المختلف حق البقاء رغم أنه مختلف، وبعد الانتصار عليه، وقتال الآخر في الإسلام ليس لأجل كفره، وإنما لشيء آخر ارتكبه واقترفه، هذا الشيء الآخر الذي شرع الجهاد من أجله هو محاولة الإنسان أن يفرض على الناس ما يعتقده بالقوة والقهر، كما كان يفعل القرشيون، أهل مكة، بالمسلمين، يعذبونهم ليتركوا دينهم.. شرع الجهاد حتى لا يكون إكراه في الدين، في الرأي، في العقيدة، وحتى المسلم فإنه يقاتل إن مارس هذا وبدأ بتقتيل الذي يخالفه..

 

خطوات في طريق الوحدة:

 

وإن الخطوة الأولى الضرورية في مشروع الوحدة طويل الأمد، هو أن نتخلى عن لغة الشعارات الفضفاضة التي لا مضمون لها، كما نتجاوز كل الخطابات الإطلاقية والكلانية، التي ترى الوحدة بمنظور شوفيني، ينزع إلى إلغاء التنوعات وإقصاء كل حالات التعدد والاختلاف، ويعتبرهما جميعا من عوائق الوحدة ومضادات التوافق الداخلي للعالمين العربي والإسلامي..

 

فلا بد أن نتحرر من منطق المطابقة الذي لا يرى الوحدة إلا بتوحيد قسري لكل المكونات والتعبيرات.. وإن مفهوم الوحدة بحاجة أن ينفتح ويتواصل مع كل التجارب الوحدوية والتوافقية، والتي استطاعت أن تؤسس لذات وطنية جديدة، قوامها المزيد من الاحترام الوجودي والمؤسسي لكل تعبيرات السياسة والثقافة ومكونات المجتمع..

 

والقواسم المشتركة المجردة بوحدها لا تصنع وحده، وإنما هي بحاجة دائما إلى تفعيل وتنمية، وحقائق وحدوية، ومصالح متداخلة، حتى تمارس هذه القواسم دورها ووظيفتها في إرساء دعائم الوحدة وتوطيد أركان التوافق..

 

وعلى المستوى الفعلي، يبدو أن من العوامل الأساسية التي حالت دون تقدم مشروع الوحدة، هو التعامل مع هذا المفهوم كشعار بعيدا عن تأسيس وتوفير المقدمات الضرورية والشروط الذاتية والموضوعية لإنجاز هذا المفهوم في الواقع الخارجي..

 

فالقوة والقسر في ترجمة القواسم المشتركة للوحدة، لا يفضيان إلى وحدة، وإنما إلى تمزق واحتقانات مجتمعية تزيد من فرص العنف في العلاقات الإنسانية، وتولد فروقات عميقة في المحيطين السياسي والاجتماعي.. فلا وحدة بدون التحرر من وهم المطابقة وأحادية النظرة وديكتاتورية المفهوم المجرد..

 

ونحن بحاجة دائما أن نتعامل مع الحقائق التاريخية والمجتمعية لتشكيل القناعات الجمعية المتجهة صوب التوافق والوحدة، القائمة على مشاركة كل الحقائق المجتمعية في اجتراح واقعها وصناعة حقائقها..

 

فالبحث عن التطابق في مشروع الوحدة لا يفضي إليها، وإنما إلى التحجر واليباس والبعد عن المفهوم الحضاري للوحدة ومشروعاتها السياسية والمجتمعية، وذلك لأنه سيمارس استبداده ضد كل التنوعات والحقائق السياسية المتوفرة في الأمة والوطن والمجتمع..

 

فالوحدة كمشروع مجتمعي لا يتحقق صدفة أو دفعة واحدة، وإنما هو عمل تراكمي يتكامل من خلال كل الأعمال والمفردات المتجهة صوب البناء والعمران.. وإن تجاوز مفهوم التوحيد القسري الذي يلغي كل الفعاليات والديناميات المجتمعية المتوفرة، يفضي بنا جميعا إلى التحرر من كل الأوهام المتعلقة بخيار ومشروع الوحدة المنشود، ويؤسس في واقعنا المعاصر البدايات الصحيحة لهذا المشروع الذي يتطلب رؤية حكيمة وفعل إنساني متواصل..

 

واختزال الوحدة ببعض التصورات الديماغوجية والشكليات الفوقية، هو الذي كلفنا كثيرا، وأسس حقائق مضادة لهذا المشروع الحضاري..

 

وإن التنوع المجتمعي، هو الذي يزيد من مفهوم الوحدة كثافة وغنى وتجددا، أي يجعله ثريا في مضامينه على المستويات كافة.. ودون الاستناد على قاعدة التنوع وبناء مساحات للتواصل والتعاون في بناء مشروع الوحدة، يكون هذا الأخير مسكونا بشكل دائم بالانفصال والتشظي والانخراط في مشروعات تمزيقية تحت مسميات مختلفة.. «فالسؤال المطروح فعلا هو: لماذا كلما حاول العرب ممارسة الوحدة، حصدوا مزيدا من الفرقة؟ هذا السؤال يحمل على وضع مقولة الوحدة موضع المساءلة والفحص.. طبعا إن الغارقين في سباتهم العروبي، الدوغمائي، يرون أن الفشل يعود إلى سوء التطبيق.. وأما الذين تثيرهم أسئلة الحقيقة والواقع، فإنهم يخضعون المقولة إلى النقد والتفكيك لفضح عجزها وقصورها.. والنقد يبين أن الذين فكروا في مسألة الوحدة انطلقوا من نظرة أحادية ضيقة أو من تصور تبسيطي ساذج، أو من نموذج مسبق جاهز، وربما انطلقوا من طيف وحدوي آت من أقاصي الذاكرة، حاولوا إقحامه على الواقع العربي المعقد، الحي باختلافات أهله وتنوعهم.. فكانت المحصلة أن شعار الوحدة، عندما جرى وضعه موضع التطبيق على الأرض، ارتد على أصحابه صراعات وحروبا، تماما كما ترتد الرصاصة على مطلقها عندما تصطدم بأرض صلبة ملساء.. والأرض هي هنا أرض الاختلافات القائمة بين عناصر العالم العربي ومجموعاته.. ولا عجب أن تأتي النتائج بعكس المطلوب.. فهذا هو ثمن القفز فوق واقع الاختلاف.. وهكذا فالعقل الوحدوي تعامل مع الاختلاف، بوصفه ظاهرة مصطنعة زائفة ينبغي إزالتها، فلم يحصد سوى المزيد من الانقسام، لأن عمل التوحيد هو اعتراف بالاختلاف واشتغال عليه وتعامل معه، أي هو صناعة تنطلق من المختلف، لا من فكرة طوباوية عن الوحدة لم تتحقق في يوم من الأيام.. بهذا المعنى الوحدة لا تقمع الاختلاف، وإنما هي التي تتيح للاختلافات أن تتجلى وتبرز، بصورة إيجابية وبناءة» [11] ..

 

فالمطلوب أن ننفتح على مساحات الاختلاف ونتواصل مع المختلفين، من أجل استنبات مفاهيم وقيم جديدة، تزيد من فرص تقدمنا، وتحررنا من آليات العجز، وتجعلنا نقتحم آفاق جديدة، تحملنا على نسج علاقة جديدة مع مفهوم الوحدة والتوافق الداخلي..

 

ولا مناص لنا من تجديد فهمنا ومنظورنا إلى الوحدة، وتغيير طرائق تفكيرنا في إرساء دعائم الوحدة، وامتلاك القدرة النفسية والعملية على تجاوز كل الموروثات السياسية والفكرية التي تتعاطى مع شأن الوحدة، باعتباره معطى ناجز ولا يحتاج إلى إبداعات الإنسان المعاصر، واستيعاب متطلبات اللحظة الراهنة..

 

ومن الضروري أن لا يتحول مشروع الوحدة إلى مشروع مغلق، جامد، ساكن، لأنه يغدو حينذاك إلى متراس يصد ويمنع كل الإبداعات، ويحارب كل المحاولات التي لا تنسجم والرؤية الجامدة لمفهوم الوحدة..

 

والتطلع الوحدوي في الأمة، ينبغي أن يتحول إلى فعالية مجتمعية لطرد المعوقات، وإزالة الرواسب، وخلق الوقائع، وإجتراح السبل، وإنضاج الظروف الذاتية والموضوعية للإنجاز والبناء الوحدوي السليم..

 

الهوامش

[1] القرآن الكريم، سورة الروم، آية 22..

[2] القرآن الكريم، سورة المائدة، آية 8..

[3] القرآن الكريم، سورة الأنعام، آية 152..

[4] نهج البلاغة، الخطبة «206»، ص 236..

[5] مجلة المنطلق، فكرية إسلامية، العدد 113، ص 103، خريف 1995م..

[6] القرآن الكريم، سورة الأنفال، آية 46..

[7] السيد محمد حسين فضل الله، أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة، ص289، إعداد نجيب نور الدين، دار الملاك، الطبعة الأولى، بيروت 2000م..

[8] المصدر السابق، ص 40، 41..

[9] القرآن الكريم، سورة البقرة، آية 134..

[10] أحاديث في قضايا الاختلاف والوحدة، مصدر سابق، ص85..

[11] علي حرب، الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي، ص 96، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1998 م..

 

قراءة 3212 مرة