المنهج القرآني في دراسة التأريخ والسيرة

قيم هذا المقال
(2 صوت)

المنهج القرآني في دراسة التأريخ والسيرة

للقرآن الكريم عناية فائقة بسيرة الانبياء الهداة وله نهج خاص في عرض سيرتهم صلوات الله عليهم أجمعين.

والمنهج القرآني يقوم على مجموعة من الاُسس والاصول العلمية في كيفية عرضه لسيرة الهداة المصطفين.

 

دور الهداية الربّانية في حركة التاريخ

إنّ القرآن الكريم ينطلق من عنصر الهداية وهو عنصر ترشيد حركة الإنسان نحو الكمال اللائق به فيختار أهدافاً عُليا لمجموعة من الحوادث التاريخية التي تشكّل منعطفاً مهمّاً في حياة الأفراد والاُمم وتكون مفتاحاً للدخول الى ابواب واسعة من العلوم والمعارف التي تخدم حركة الإنسان التكاملية.

 

أهداف الاهتمام بالتاريخ الإنساني

والقرآن الكريم ـ للوصول الى تلك الأهداف المُثلى ـ يخاطب العقل والعقلاء ويفتح أمام الفكر الإنساني آفاقاً جديدة حيث يقول:

1 ـ {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1).

2 ـ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِولِي الاَْلْبَابِ} (2).

فــ (التفكر) و (الاعتبار) في حوادث التأريخ والسيرة (تاريخ الاُمم وسيرة القادة الهُداة) يشكّلان هدفين أساسيّين في المنهج القرآني في مجال عرض ودراسة التاريخ.

ولا تقتصر الأهداف على هذين بل تتعدّاهما الى أهداف رسالية اُخرى تتجلى في قوله تعالى:

3 ـ {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيء وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ} (3).

4 ـ وفي قوله تعالى : {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (4).

حيث تضمّنت كلّ آية أربعة أهداف رسالية لاستعراض أنباء المرسلين والتحدّث عن قصصهم.

 

مبادئ وأُصول المنهج القرآني

ويعتمد القرآن الكريم في منهجه التاريخي الذي يتفرّد به على الاُصول والمبادئ التالية:

1 ـ مبدأ إكتشاف الحقّ واتّباعِهِ.

2 ـ مبدأ إتباع العلم وتجنّب الظنون والأوهام.

3 ـ مبدأ المعاصرة للأحداث.

4 ـ مبدأ الإحاطة بها.

فلا يدع مجالاً للريب والافتراء فيما يحدّث عنه ويقصّه ويستعرضه من ظواهر تأريخية وحوادث إجتماعية سابقة أو معاصرة للتنزيل. ما دام يعتمد الحق والعلم دون الخرافة والخيال.

وقد أ كّد هذين الأصلين بقوله تعالى: {إِنَّ هذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ...} (5) وبقوله أيضاً في مطلع سورة الأعراف: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْم وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}(6) وفيه تصريح بعنصر المعاصرة للأحداث التي يقوم بعرضها .

 

منهج القرآن العلمي

وللقرآن الكريم بعد ذلك كله منهج علمي في التحليل والاستنتاج الى جانب اعتماده على الإستقراء تارة وعلى الإستدلال تارة اُخرى.

وحين يستعرض القرآن حياة الرسل بشكل عام يذكر خطوطاً عريضة تجعلهم في صف واحد وخندق واحد وخط واحد هو خط الإسلام العام، كما قال تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} (7) .

ثم إنه يغور في أعماق سيرة كل واحد من اُولي العزم من الرسل ليحيط المتلقي بأهم مفاصل سيرتهم وزواياها وليربط بينها وبين ما سبقها وما يلحقها من حوادث تتعلق بالخط الرسالي المستمر باستمرار الحياة.

 

موقف القرآن من التحريف التاريخي

إنّ من طبيعة البحث التاريخي أن تناله يد التحريف وقد يغطيه الإبهام والغموض وقد تستره سحب داكنة ريثما تتكشف الحقيقة بالتدريج وينمو الانكشاف حتى يبلغ حدّاً لا يستسيغ المجتمع الانساني التغافل عنه وتجاوز الحقائق فيه.

وتشير الآية المباركة السابقة من سورة يوسف، إلى إمكان الإفتراء والتلاعب بحقائق التاريخ أو المبالغة والبحث عن غير علم وسدل الستار على الحق الذي لابدّ أن يظهر.

ومن هنا; كان على المدرسة القرآنية أن تسلّح الباحث عن الحقيقة بسلاح موضوعي قادر على اكتشاف الحقيقة بشكل كامل.

 

نظرية الثوابت في القرآن وعند الإنسان

لقد طرح القرآن الكريم نظرية الثوابت التي لا يمكن للفكر إلانساني أن يتجاوزها في حال من الاحوال وسمّاها بالمحكمات واُم الكتاب. وهي الحقائق الثابتة والبينة للفكر إلانساني، وهي لا تقبل الريب أو الترديد أو التشكيك بحال من الأحوال.

والثوابت دائماً تشكّل الخطوط العريضة والمعالم الأساسية للفكر الإنساني الذي يستوعب ما لا يستوعبه عالم المادة، ولكنه لا يستسيغ أن يقف مكتوف اليدين أمام المبهمات وما يختلف فيه أبناء آدم ×.

ويسوق القرآن الكريم للقارئ الواعي موقفين واُسلوبين من التعامل مع المبهمات أو ما يختلف فيه بنو آدم، ويحاكم هذين الأسلوبين ليخرج الى نتيجة بيّنة تصبح معياراً وتقدم قاعدة عامة للتعامل مع كل خبر يرد على الفكر الانساني.

ويعود كل نوع من أنواع التعامل إلى جذور نفسية واضحة تنسحب على نوع التعامل وتنعكس في اُسلوب المواجهة مع كل حديث ينقل الى الإنسان ويراد من الفكر الإنساني أن يتخذ منه الموقف المناسب والجدير به.

قال تعالى بعد أن أشار إلى أن القرآن هو الفرقان الذي أنزله الله على رسوله الأمين:

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـبَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرَ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الأَلْبَابِ* رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْـكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}(8).

إن سلامة النفس من الزيغ تحول بين الإنسان وبين ابتغاء الفتنة. ومن هنا يتوقف الإنسان الذي يتحرّى الحقيقة عن اتّباع المتشابه من الآيات، بل يُرجع الأمر الى ربّه.

 

دور العقل في كشف الحقائق والأخطاء

فالعقل يقف حائلاً بينه وبين أيّ تفسير غير علمي أو غير مستند الى دليل صحيح وحقائق ثابتة، بل العقل هو الذي يرشده إلى الركون إلى المحكمات والالتزام بأم الكتاب حيث يشكّل ذلك الاطار العام والخطوط الثابتة التي لا يمكن تجاوزها بحال من الاحوال، وحينئذ من الطبيعي أن نلاحظ الآيات الأخرى في ظل هذه الثوابت وهذه المعالم التي لا يمكن تجاوزها.

وهنا تتفتح آفاق النفس لآفاق الفكر لتتأمل فيما لا يكون صريحاً أو واضحاً في بداية الامر. وبهذا سوف يضمن العاقل الذى آمن بربّه عدم الزيغ وعدم التسرّع في تفسير وتحليل ما يشاهده من الآيات المتشابهة، بل يقف منها موقف اللبيب الحكيم، وإن لم يفلح في اكتشاف الحقيقة فإنه لا ينكرها ولا يستنكرها، وإنّما يرجع الأمر إلى مصدره ويوكل الأمر إلى ربه الذي نزّل الآيات هذه ويستفهم منه ما يبتغيه، طالباً منه استمرار الهداية ونزول الرحمة.

إنّه الموقف السليم الذي يمثل النضج والتعامل المنطقي مع النصوص إذ لا يتسرع العاقل في التوجيه والتحليل.

ومن هنا: قد نفهم الوجه في قوله تعالى في مطلع سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيم خَبِير} (9) فإن التفصيل إنما يكون بعد الإحكام وبعد أن تتعين الآيات التي هي اُم الكتاب، والتي تعدّ هي الاُسس والخطوط الثابتة كما أفصحت بذلك الآية السابعة من سورة آل عمران {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ} (10).

والآية (39) من سورة الرعد تلقي بظلالها على هذه النقطة أيضاً إذ تقول: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَـبِ} (11) فإن ما لا يتعرض للمحو والتغيير هو أم الكتاب. وما دونه قد يتعرض للمحو والتغيير تبعاً لاختلاف الظروف والحالات والطوارىء.

وتكفي هذه الآيات لرسم المنهج العام الذي يسير عليه القرآن الكريم في تعامله مع وقائع التاريخ، فإنّ الاختلاف في التفاصيل لايسمح لنا بإنكار الأصل والتغافل عنه وإدانة ما ثبت لدينا وتحققنا من وجوده.

 

عرض كتب السيرة على كتاب الله ومنهجه

وفي ضوء هذا يمكن تقويم كل ما ورد في كتب السيرة النبوية أو التاريخ الإسلامي أو تاريخ ما قبل الإسلام مما يرتبط بالإنبياء واُممهم ; فإنّ الثوابت التاريخية هي محطّات الإشعاع وهي المحكمات التي لايمكن تجاوزها بحال من الأحوال وإليها نحتكم في تفسير أو قبول أو ردّ ما أثبتته كتب التأريخ من نصوص تحتوي على الصحيح والخطأ .

إذن; حقل التاريخ ـ وهو حقل اختلاط الحقائق بالأباطيل ـ يتطلب منا استعمال أدوات تسعفنا لكشف تمام الحقيقة الثابتة.

وثوابت التاريخ ـ التي أيّدتها محكمات العقل والنقل ـ هي المنطلق لأي تفسير أو تأويل أو محاكمة أو إدانة.

 

تطبيقات المنهج القرآني في القرآن

وقد طبّق القرآن الكريم هذا المنهج على سيرة الأنبياء واُممهم بالذات حينما رسم لنا صورة واضحة يشترك فيها كل الأنبياء واعتبر النبوّة والإصطفاء ناشئَينِ من مواصفات أساسية ـ في شخصية كل نبيّ ـ ، أهّلته لأن يختاره الله نبيّاً لِهداية الخلق على يديه، وهذه المواصفات هي : اكتمال العقل والوعي والصلاح والصبر والعبودية التامّة لله القائمة على الوعي والبصيرة، قال تعالى مخاطباً نبيّه: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَة مِن رَبِّي ...} (12)، كما قال له: {قُلْ هذِهِ سَبِيلي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي...} (13).

هذا هو المنطق القرآني الذي يمثّل الإحكام والثبات... فكيف يبعث الله نبيّاً لا يعي ولا يدرك أنه مبعوث أو مرسَل من ربه ولا يطمأن الى ما يراه من آيات ربه إلاّ أن يطمأنه الآخرون؟! فلا يعقل أن يُبعث ويهيّأ للنبوة وهو لا يعلم أنه نبي ومبعوث من الله الى الخلق، أو يتردد أو يشك في مهمّته، فضلاً عن تصوّره أنه يستلهم الحقيقة ممّن يراد منه هدايته. قال تعالى مُشيراً الى هذه الحقيقة : {... أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَن لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}(14).

إن الصورة الواضحة التى يرسمها القرآن الكريم عن شخصية أنبياء الله والتي تؤيّدها محكمات العقل هي التي تصبح موئلاً ومرجعاً محكماً وثابتاً لمحاكمة كل صورة تسرّبت من التوراة والانجيل أو جاءت فيما سمّي بالصحاح أو عامّة كتب التأريخ التي وردت فيها بعض القصص عن أنبياء الله، سواء كان ذلك النبيّ هو إبراهيم× أو موسى × أو عيسى× أو محمد’، وسواء كان الناقل لهذه الصورة بعض اُ مّهات المؤمنين، أو بعض الصحابة، أو من يَمُتُّ الى الرسول الأعظم ’ بصلة من قريب أو بعيد.

الهوامش


(1) الأعراف (7) : 176.

(2) يوسف (12) : 111 .

(3) يوسف (12) : 111.

(4) هود (11) : 120.

(5) آل عمران (3) : 62.

(6) الأعراف (7) : 7.

(7) آل عمران (3):19 .

(8) آل عمران (3) : 7 ـ 8 .

(9) هود (11) : 1.

(10) آل عمران (3) : 7 .

(11) الرعد (13): 39.

(12) الانعام (6) : 57.

(13) يوسف (12) : 108.

(14) يونس (10): 35.

قراءة 3702 مرة