الدرس الثاني عشر: مکانة أهل البيت (ع) عند الشيعة

قيم هذا المقال
(1 Vote)
الدرس الثاني عشر: مکانة أهل البيت (ع) عند الشيعة

لقد اجتمع في أهل بيت النبي(ع) كل ما يفرض المحبة والمودة، ويدعوا إلى الموالاة والطاعة لهم، من الطهارة من الرجس،والتحلي  بالصفات المجيدة والخصال الحميدة والكمالات الإنسانية،إضافة لشرف إنتمائهم لرسول الله(ص) ، ولا أظن أنَّ أحداً من المسلمين يجهل ذلك أو يشك فيه، وقد وردت الآيات العديدة والأخبار الكثيرة التی تعرف المسلمين بمکانة أهل البيت في الإسلام ، وإستناداً إلی تلک النصوص من الآيات والروايات تکوَّن عند الشيعة مکان خاصّ لأهل البيت(ع) يختلف جوهرياً مع سائرالمسلمين مهما بلغوا من الفضل والعلم والصحبة مع رسول الله (ص) وا لکي نعرف تلک المکانة لا بدَّ أن ندرس تلک النصوص:

ضرورة معرفة أهل البيت (ع)

 لاريب أنَّ من أهمِّ حقوق النبي وأهل بيته (ع)هومعرفتهم کما أکَّدت عليه النصوص من الآيات والروايات والأدعية ، منها ما جاء في دعاء زمن الغيبة للإمام الصادق (ع) :«اللهم عرِّفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني نبيك فإْنك إن لم تعرفني نبيك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللتُ عن ديني، أللَّهمّ لا تمتني ميتة جاهلية ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني...» ([1]).

وعلی ضوء هذا الدعاء والآيات والروايات التي تحثُّ الإنسان علی طلب المعرفة، ينبغي علی كل مسلم ان يدعوا الله دائماً أن يوفقِّه لمعرفته وهي أم المعارف، وبها تحصل كل معرفة وهي حق من حقوق اللّه علينا ولأجلها خلق الانسان  حيث يقول تعالی: « وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» ([2]) اي: ليعرفون،كما جاء في تفسيرالآية، ثمَّ ينبغي أن يسعى المسلم بقدر الامكان لتحصيل معرفة النبي والحجج من بعده، ولذلك جاء التأکيد علی خصوصية المعرفة في الروايات التي تحثُّ المسلم المؤمن علی زيارة مراقد أولياءالله فينبغي للزائر قبل الشخوص والبدء بالزيارة أن يزوِّد نفسه بمعرفة المزور كي يعرف مضمون زيارته وما تحمله من المسؤولية،  فإذا حصل على هذه المعرفة وسار على ضوئها، يصبح على بصيرة من دينه وشريعته وتصلح دنياه وآخرته، وإذا غفل عن هذه المعرفة، ولم يهتدِ ضلّ عن دينه، ويموت ميتة جاهلية، كما جاء في مجموعة من الأحاديث والأدعية المأثورة .ولكن من جهة أخري نری بأنَّه من الصعب ولعلَّه من المحال أن نحصل على المعرفة الحقيقية الكاملة للّه وللنبي (ص) وأهل بيته (ع)،  فالرسول (ص) وأهل بيته (ع) الذين خلقهم اللّه من نور واحد، وأمرهم صعب مستصعب لا يستطيع أحد أن يعرفهم بالمعرفة الحقيقية إلا اللّه ورسوله، ولكن من باب ما لا يدرك كله لا يترك كله، يمكننا ان نتعرف علی طرف من سيرتهم من خلال مراجعة القرآن الكريم لأنَّهم عدله وأحاديث الرّسول (ص) وأهل بيته (ع)، فإنَّ ذلك أحسن الطرق وأسلمها لمعرفتهم (ع)، فنرى كيف يعرّف القرآن الرّسول (ص) وأهل بيته (ع)، وكيف يعرّف الرّسول وأهل بيته، بعضهم البعض، وهذه المعرفة بهذا المقدار هي من أهم حقوق أهل بيت النبي (ص) على المسلمين.

أهل البيت (ع) في القرآن

إنّ کلمة أهل البيت(ع) قد استخدمها القرآن في موردين : المورد الأول في جواب سارة زوجة  النبي إبراهيم لمَّا بشَّرتها الملائکة بولادة إسحاق فتعجَّبت فجاءها الخطاب من الملائکة في قوله تعالی:  «قالُوا أَتَعْجَبينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَميدٌ مَجيدٌ» ([3]). والمورد الثاني  اختصَّت بأهل بيت نبينا محمد (ص) وهي الآية الثالثة والثلاثون من سورة الأحزاب قال تعالى واصفاً أَهْل بيته : «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» ([4]). وقد نزلت آيات اُخری تُعرِّف أهل بيت النبي (ص)، وتبين فضلهم ومقامهم، ومنزلتهم، وتثني عليهم وتوّجه المسلمين نحوهم، وتدعوالمسلمين لمودتهم لهم، والإقتداء بهم وتأدية حقوقهم التي فرض اللّه لهم، و نحن نكتفي بذكر آية التطهير والأحاديث المرتبطة بها في هذا المقطع من البحث :

آية التطهير مفهومها ومصاديقها

لقد تظافر في كتب التفاسير أنَّ المقصود بأهل البيت (ع) في آية التطهير هم: علي وفاطمة والحسن والحسين (ع)، ومن خلال حديث الكساء وبمقتضى التأمل في الأحاديث الأخرى التي وردت في شأن نزول آية التطهير، نعلم أنَّ الآية نزلت على النبي (ص) في بيت أم سلمة، حيث أنه جمع رسول اللّه (ص) علياً وفاطمة والحسن و الحسين (ع)، ثم أدار عليهم الكساء، وقال(ص): «هؤلاء أهل بيتي، اللهم اذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»، وهمَّت أمُّ سلمة أن تدخل معهم تحت الكساء، فمنعها النبي (ص)، وقال لها مرتين أو ثلاث مرات: إنّك على خير، واستأذن بعد ذلك جبرائيل (ع) ليدخل معهم تحت الكساء، فأذن لـه الرّسول (ص) فدخل([5]). واستجابة لدعوة رسول الله نزلت آية التطهير([6]) وإليک نصُّ حديث الواقعة کما ينقلها الرواة :

لقد أخرج الطبري بإسناده عن حُكيم بن سعد، قال: «ذكرنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عند أمّ سلمة رضي الله عنها فقالت: في بيتي نزلت آية «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»([7]).فقالت أمّ سلمة: جاء رسول الله صلي الله عليه (و آله) إلي بيتي فقال: «لا تأذني لأحدٍ»، فجاءت فاطمة رضي الله عنه فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها، ثم جاء الحسن رضي الله عنه فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل علی جدّه واُمّه، ثمّ جاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه عن جدّه واُمّه، ثمّ جاء عليّ رضي الله عنه فلم أستطع أن أحجبه، فاجتمعوا، فجلّلهم رسول الله بكساء كان عليه ثم قال(ص): «هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً»، فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا علی البساط.

قالت (اُم سلمة): فقلت: يا رسول الله وأنا؟

قالت: فوالله ما أنعم، وقال: «إنّك إلی خير»([8])..

وجاء في روايات متعددة أنَّ رسول اللّه (ص) بعد نزول آية التطهير والآية الكريمة: «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوة وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا» ([9])، كان يمرّ على بيت فاطمة (س) تسعة أشهر ـ على بعض الروايات ـ كلما خرج إلى صلاة الفجر، ويقول: «الصلاةَ يا أهل البيت، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً »، فقد أورد السيوطي مسنداً عن ابن عباس قال: «شهدت رسول الله صلي الله عليه (و آله) و سلم تسعة أشهر يأتي في كلّ يوم باب عليّ بن أبي طالب عند وقت كلّ صلاة فيقول:«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.الصلاة رحمكم الله» في كل يوم خمس مرات»([10]).  هذا وقد استفاضت الروايات الحاكية لفعل النبي (ص) ولا يمكننا استيعابها في هذا المختصر([11]).

وما حديث الكساء ومواظبة الرسول (ص) على الوقوف على باب علي و فاطمة عليهما السلام، شهوراً عديدة ومناداته (ص) لهم عند الفجر، يدعوهم إلى الصلاة، ويسمّيهم أهل البيت، أمام مرأی ومسمع المسلمين وأثناء اجتماعهم لأداء صلوات الجماعة إلاّ ليعّرفهم بشخصيات أهل البيت (ع) ويفسّر للمسلمين آية التطهير، لكي لا يشتبه عليهم أن الآية تشمل الآخرين، أو تشمل نساء النبي (ص) بحسب السياق الموجود فيها، كما استدل بذلك بعض علماء أهل السنة، وإن كانت الآية واضحة الدلالة معنى ولفظاً على أن المراد بأهل البيت(ع) هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها(ع)، لأنَّ الآية إنّما تدلّ على الطهارة المطلقة والعصمة من الذنوب، وليس في المسلمين من يشهد لـه التاريخ بالطهارة المطلقة والعصمة من الذنوب والآثام بعد الأنبياء والمرسلين سوى أهل البيت(ع) بهذا المعنى والمصاديق.وقد أقرّت عائشة وسائر نساء النبي(ص) كما اعترف الكثير من الصحابة بهذه الحقيقة، ونقلها الكثير من الرواة والمحدثين و المفسرين.

 لقد أجهد النّبيّ(ص) نفسه ليبين معاني آية التطهير للمسلمين، فبيّن حدودها وشخّص مصاديقها بأساليب في غاية الوضوح، نظراً إلی مكانة أهل البيت(ع) المستقبلية في حفظ الرسالة، واعتصام الأمّة بهم. ولكي لا يبقی لأحد عذر بدعوی عدم معرفتهم، وكي يقطع الطريق أمام المغرضين والطامعين. ولکن  وفي مقابل هذا التأكيد النبوي وتحديده لمصاديق أهل البيت(ع) ، واعتراف نساء النبي وأصحابه بهذه الحقيقة تجد بعض المتطرفين أمثال «عكرمة» يقف مواجهاً لرسول الله (ص) وجهوده في تعيين أهل البيت (ع) فتراه يسير في الطرقات والأسواق وينادي: «مَن شاء باهلته أنّها نزلت في أزواج النّبيّ صلي الله عليه (و آله) و سلم »([12]). ، وكان يقول أيضاً: «ليس بالذي تذهبون إليه، إنّما هو نساء النّبيّ صلي الله عليه (و آله) و سلم»([13]) ، وحينما يبرز لنا دليله فنجده اجتهاداً في مقابل النصوص المتضافرة فيقول: «أراد أزواج النّبيّ صلي الله عليه (و آله) و سلم لأنّ أول الآية متوجه إليهنّ»([14]). وقد تأثّر برأی عكرمة مَن تأثر، وكان منهم الألباني([15]).

وبطلان هذا الكلام والإستدلال بسياق الآية ظاهر لايخفی علی باحث في العلم ، فالآية لم تكن بحسب النزول جزءاً من آيات نساء النّبيّ (ص) ولا متّصلة بها وإنما وضعت بينها لمصلحةٍ، صاحب الشريعة أعرف بها، وعليه فلا موضوع للسياق حتي يمكن التمسّك به، وأيضاً إنّ الأصل في كلمة أهل حقيقة: هم أهل الرجل: عشيرته وذوو قرباه ومن المجاز الأهل للرجل زوجته ويدخل فيه الأولاد([16]).ويعضده رواية زيد بن أرقم في صحيح مسلم حينما سئل عن أهل البيت «قالوا: يا زيد أنساؤه من أهل بيته؟ قال: لا وأيمُ الله إنّ المرأة تعيش العصر من الدهر ثمّ يطلّقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصلُهُ، وعصبتُهُ الذين حُرموا الصدقة بعده»([17]) .

النّبي (ص) ينصّ علي عدد أهل البيت(ع)

لاريب أنَّ شأن نزول آية التطهير أصحاب الكساء الخمس إلاّ أنَّ الآية تشمل سائر الأئمة الاثني عشر(ع)  من أهل البيت أيضاً ،حيث أنهم کانوا من الذين أذهب الله عنهم الرجس بشهادة التاريخ، وکذلک بدليل الروايات المنقولة عن النبي(ص) حيث نصَّ علی عددهم. لقد أخرج مسلم في صحيحه بإسناده عن جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي علی النّبيّ صلی الله عليه (و آله) و سلم فسمعته يقول:«إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتّی يمضي فيهم إثنا عشر خليفة» قال: ثمّ تكلّم بكلام خفي عَلَيَّ، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: قال(ص): «كلّهم من قريش» ([18]). وهذه الرواية وغيرها من روايات قد تضمّنت الإشارة إلي عدد خلفائه(ص)، وكونهم من قريش، أو من بني هاشم  وعددهم لا يتجاوز الإثني عشر ولاينقص منه ([19])، وهکذا مقتضی تشبيههم بعدد نقباء بني إسرائيل وهم إثنا عشر أنّ هؤلاء الخلفاء معيّنون بالنصّ كما دلّت عليه رواية ابن مسعود ([20])، فهذا التشخيص وهذا التصديق لا يلتئم إلاّ مع مبنی الشيعة الإمامية الإثني عشرية في عدد الأئمّة وبقائهم وكونهم من المنصوص عليهم من قبل النّبيّ (ص) وبهم يحفظ الدين إلی يوم القيامة. وبحسب القول بالوصية والنص في خلافة هذا العدد وبحسب الأدلة العقلية والنقلية والقرائن والشواهد التاريخية فإنَّ  حديث أن الأئمة اثنا عشر وأنهم كلهم من قريش، لا ينطبق على الخلفاء الراشدين، ولا على خلفاء بني اُمية، ولا على خلفاء بني العباس .

هذا وقد وردت من طرق الشيعة أحاديث عديدة عن النبي (ص) تبين منزلة أهل البيت(ع) و عددهم نکتفي بذکر بواحدة منها فعن الإمام الصادق (ع) عن آبائه (ع): قال رسول اللّه (ص): «إنّي مخلّف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب اللّه، وعترتي أهل بيتي، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علیّ الحوض. فقام إليه جابر بن عبد اللّه الأنصاري وقال: يا رسول اللّه من عترتك؟ قال: علي والحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين إلى يوم القيامة».([21])

وحيث وصل البحث بنا حول أهل البيت(ع) إلی حديث الثقلين فلابدَّ من الوقوف عليه لشرحه ولو بالإجمال لعرض مفهومه ودلالاته علی خصوصيات أهل البيت(ع)، وإثبات مرجعيتهم العلمية والدينية والسياسية علی ضوء هذا الحديث الشريف:

أهل البيت (ع)في حديث الثقلين

لقد ورد حديث الثّقلين أوحديث (التمسّك) عن رسول الله (ص) في مصادر كثيرة من كتب علماء الفريقين الشيعة والسُّنة، وبنصوص مختلفة، ولكن بمعانٍ متقاربة، وبمضمون واحد، وعلی رغم الاختلاف في نقل ألفاظ الحديث،  بقي المعنی محفوظاً فيها، وإليك  بعضاً من هذه النّصوص: أخرج الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلي الله عليه (و آله) و سلم :«إنّي أُوشك أنْ أُدْعی فأُجيب وإنّي قد تركت فيكم ما إنْ تمسّكتُم به لَن تضلوا: الثَّقَلَين أحدُهما أكبر من الآخر، أمّا الأكبر كتاب الله حبلُ ممدود من السماء إلی الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا إنّهما لن يفترقا حتّي يردا عَلَيَّ الحوض» ([22]).وأخرجه مسلم عن زيد بن أرقم وألفاظه قريبة ممَّا أخرجه أحمد بن حنبل وفيه زيادة وهي: فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤهُ؟ قال (ص) : «لا وَايْمُ الله إنّ المرأة تكونُ مع الرّجل العَصْرَ مِن الدّهر، ثُمّ يطلّقُها فترجعُ إلي أبيها وقومها، أهل بيته أصلُهُ، وعَصَبَتُهُ الذين حُرِمُوا الصّدَقَة بَعْدَه» ([23]).

وأخرجه الطبراني عن زيد بن أرقم أنَّه قال : قال رسول الله صلي الله عليه (و آله) و سلم :  «إنّي لَكُمُ فَرطٌ([24]) وَإِنَكُم وَارِدُونَ عَلَيَّ الحوضَ عرضُهُ ما بَيْنَ صَنْعاءَ إِلي بُصري،([25])  فِيه عَدَدُ الكواكِبِ مِنْ قِدْحانِ الذَّهَبِ وَالفِضَّة، فَانْظُرُوا كَيْفَ تُخْلّفُوني فِي الثَّقَلَيْن». فقام رجل فقال: يا رسول الله وما الثَّقلان؟ فقال رسول الله صلي الله عليه (و آله) و سلم :«الأكْبَرُ كِتَابُ الله، سَبَبُ طَرَفُهُ بِيَدِ الله، وَطَرَفُهُ بِأيْدِيكم فَتَمَسَّكُوا بِهِ، لَنْ تَزَالُوا ولا تَضِلُّوا، وَالأصْغَرُ عِتْرَتِي وَإِنَّهُمْ لَنْ يَفْتَرقَا حَتّي يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ، وَسألْتُ لَهُمَا ذَلكَ من رَبِّي فَلا تَقدمُوهُمَا فَتَهْلَكُوا، وَلاَ تُعَلِّمُوهُمَا فإنَّهُما أَعْلَمُ مِنْكُم» ([26]).

والملاحظ في هذه الروايات إختلاف الألفاظ مع تقاربها في المضمون، و قد ذكروا أكثرمن مئتي نصٍّ لهذا الحديث في کتب الأحاديث والسيرة والتاريخ وهذه الكثرة لروايته ورواته، هو دليل علی أهمية هذا الحديث سنداً ودلالة، ومايهمُّنا في البحث والمقام هو معرفة دلالات هذا الحديث الشريف، والأهداف المنشودة منه، للوقوف علی حقيقة معرفة أهل البيت(ع) من خلال هذا الحديث النبوي، وهذا ما سيتمّ توضيحه:

مفهوم حديث الثقلين ومدلولاته

عند التّعرّف علی ظروف صدور حديث الثقلين عن النبي(ص)  زماناً ومكاناً،  کيوم عرفة، وفي حَجّة الوداع وفي المدينة المنوّرة، وفي حجرة بيته أيّام مرضه الذي توفّي فيه، ومناسباته المتعدّدة الاُخری نستكشف بشكل جليّ شدّة إهتمام النّبيّ (ص) لمحتوی هذا الحديث، وما كان يحرص عليه من تذكير الاُمّة به إلی درجة جعلته يكرِّره في مواطن عديدة وبألفاظ قريبة، فهذا إنْ دلَّ علی شيء فإنَّما يدّل علي الدَّرجة القصوی من العناية النَّبويّة لمضمون الحديث، والإهتمام البالغ منه (ص) بأمّته لحفظها من الضَّياع وصونها عن الانحراف والضّلال، لضمان سلامة دينها، ومنهجها الفكري والسياسي.

 ويستفاد من حديث الثقلين أُمور مهمَّة لو اهتمّت بها الأُمّة لاجتمعت على مائدة أهل البيت واستغنت عن غيرهم، وفي ما يلي نستخلص أهمِّ المعاني والمدلولات التالية من هذا الحديث الشريف لنستخرج منه بعض خصوصيات وحقوق أهل البيت (ع) لنتعرف علی مکانتهم في الإسلام:

المدلول الأول: الثَّقَلَان هما أعظم ما تركه النّبيّ (ص) لاُمّته:

 إنّ النّبيّ (ص) قد استخدم مصطلح (الثَّقَل) ([27]) ليعبّر عن خطر شأنهما وجلالة قدرهما، وشرف منزلتهما عنده وعند الله تعالی،  قال ابن حجر ما نصّه :«وسمّاهما ثِقلَين: إعظاماً لقدرهما، إذْ يقال لكلّ خطير شريف ثقلاً، أو لأنّ العمل بما أوجب الله من حقوقهما ثقيل جدّاً، ومن قوله تعالي:«إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً» ([28]). أي: له وزن وقدر،....»([29]).  وقال الزُبيدي: «والثَّقَل: متاع المسافر وحَشَمُه والجمع أثقال، وكلّ شيء خطير نفيس مصونٍ له قَدْرٌ و وزنٌ ثقل عند العرب»([30]). وقال محمد بن أبي بكر الرازي: «العرب تُسمي كلّ خطير نفيسٍ ثِقلاً، ومنه سَمّي رسول الله صلي الله عليه ( و آله) و سلم كتاب الله وعترته: الثِقلَين، وقيل: إنما سَمّاهما ثِقلين؛ لأنّ اتّباعهما ثقيل»([31]).

وعلی ضوء هذه التعاريف والفهم للحديث نعلم أنّ الثَّقَلَين هما أعظم ما تركه النّبيّ (ص) لاُمّته، فلابدَّ من الأخذ بتعاليمهما والتمسّك بحبلهما.

المدلول الثاني لحديث الثَّقلين: صيانة القرآن الكريم من كلّ تحريف:

 بما أنّ علماء الفريقين قد اتّفقا على صحّة حديث الثّقلين وقطعيّة صدوره عن النّبيّ صلی الله عليه و آله، وهذا بالضرورة يقتضي إيمانهم واتفاقهم على صيانة القرآن الكريم من كلّ تحريف والإذعان لمرجعيته الكاملة، بلحاظ أنّ وصيّة النّبيّ (ص) لأمّته بالتمسّك بالقرآن وأهل البيت(ع) تقتضي بقاء القرآن كاملاً ومحفوظاً ومصاناً عن كل تحريف، وكذا مَن يمثّل أهل البيت(ع)، حتّى تتحقق الهداية بالتمسّك بهما، وهو إخبار منه (ص) بصيانة القرآن إلى يوم القيامة كذلك، وإلاّ لما أصبح كتاب هداية، وعليه فإقرار الفريقين بحديث الثّقلين قاضٍ بالإذعان والإيمان بصيانة القرآن عن كل تحريف. وعليه فلا داعي لنسبة القول بتحريف القرآن إلى الشيعة أو إلى السّنّة، وبه يتمُّ قطع ألسنة الاتّهام مطلقاً.

المدلول الثالث لحديث الثَّقلين : عصمة أهل البيت (ع):

 لقد قَرَنَ النّبيّ (ص) بين أهل بيته(ع) والقرآن العظيم، ولم يفصل بينهما، وأمر بالتمسّك بهما معاً دون أحدهما، وكشف عن كونهما «ثَقَلَين» ، وأخبر عن عدم افتراقهما إلي يوم القيامة، فهذا إنْ دلّ علی شيء فإنّما يدلّ علی عصمة أهل البيت (ع) وذلك التزاماً بالاُمور التالية :

الأمر الأول : لا ريب في أنّ القرآن الكريم مصون عن التحريف و عن کلِّ باطل ، وقد أشار القرآن إليه: «إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ» ([32]). «وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ» ([33]). والأمر بالاقتران بينهما يستلزم بالدلالة الإلتزامية عصمة أهل البيت (ع) وإلاّ لما صحّ الاقتران بينهما، والأمر بالتمسّك بهما، والإخبار بعدم افتراقهما إلی يوم القيامة.

الأمرالثاني: أنّ النّبيّ (ص) قد اعتبر التمسّك بهما عاصماً للأمّة عن الضلالة والانحراف كاشفاً ذلك عن إخبار الله تعالي له بقوله (ص) «ولقد نبأني اللّطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّی يردا عَلَيَّ الحوض»، كما أنّ مقتضی ما تفيده أداة (لن) هو التأبيد، بمعنی عدم افتراقهما عن منهج الحق إلی يوم القيامة، وهذا ما يفيد حقيقة العصمة عن كلّ باطل.، وإلاّ لما صح الاقتران بينهما والأمر بالتمسّك بهما معاً.

الأمرالثالث : أنّ القول بعدم عصمة أهل البيت(ع) يستلزم تكذيب النّبيّ(ص) فيما أخبر عنه عن الله تعالی، ومن المعلوم أنّ عصمة النّبيّ (ص) في التبليغ والإخبار عن الله تعالی وبيان الأحكام هو مورد اتفاق بين المسلمين جميعاً، وذلك لأنّ القول بعدم عصمتهم تجويز لافتراقهم عن الكتاب، وهو مخالف لما أخبر به النّبيّ (ص) مراراً وتكراراً .

وإذا كان الفخر الرازي قد آمن في تفسيره([34]) بعصمة أهل الحلّ والعقد من الاُمة فمن الأولى أن نؤمن بعصمة أهل البيت(ع) الذين خصّهم الله بمزية الحد الأعلى من التطهير في قوله تعالى: «إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا» ([35]). ومن كلّ ما تقدّم من مفهوم حديث الثقلين وإستناداً إلی آية التطهير يتجلّي القول بثبوت العصمة لأهل البيت (ع) بدليل قاطع.

المدلول الرابع لحديث الثَّقلين:  ضرورة التمسُّک بالثقلين معاً:

وممَّا جاء في حديث الثقلين : «إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تَضِلُّوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي»([36]). وإنّ هذه الفقرة من الحديث الشريف إنّ دلّت علی شيء فإنّما تدلّ علی نجاة المتّبعين للثّقلين، إذْ التمسّك هو الاعتصام، والاعتصام هو اللجوء، واللجوء هو النجاة. قال الطيبي: «وإمساك الشيء التعلّق به وحفظه، قال الله تعالی: «وَيُمْسِكُ السّماءَ أَن تَقَعَ عَلَي الأَرْضِ» ([37]).،...ومعنی التمسّك بالقرآن العمل بما فيه، وهو الإئتمار بأوامره، والإنتهاء عن نواهيه، والتمسّك بالعترة محبّتهم والاهتداء بهديهم وسيرتهم»([38]). وقد أشار التفتازاني إلی ما يقرب من هذا المعني بعد نقله حديث الثّقلين حسب رواية مسلم، فقال ما نصّه: «نعم لاتّصافهم بالعلم والتقوي، مع شرف النسب، ألا تري أنه صلي الله عليه (و آله) و سلم قرنهم بكتاب الله تعالی في كون التمسّك بهما منقذاً من الضلالة، ولا معني بالتمسّك بالكتاب إلاّ الأخذ بما فيه من العلم والهداية فكذا في العترة»([39]).

المدلول الخامس لحديث الثَّقلين : بقاء عَلَمٍ من أعلام أهل البيت(ع) في کلِّ عصر:

 إنّ الأمر النّبوي بوجوب إتّباع الثَّقلين مطلقاً، والإخبار عن عدم افتراقهما إلی يوم القيامة، دليل علی بقاء أهل البيت (ع) إلی يوم القيامة، بمعني توفّر عَلَمٍ من أعلامهم علی طول الزمان إلی يوم القيامة، فالالتزام بأقوالهم وأفعالهم، يمثّل الالتزام الكامل بما أمر به النّبيّ (ص) وبالتالي هو أمر الله تعالی، هذا من جهة، ومن جهة أخری، فإنّ النّبيّ (ص) قد قرنهم بالكتاب العزيز، وعليه فكما أن الكتاب هو الحجة البالغة لله تعالي علی خلقه، فكذلك أهل البيت(ع)، وفي مقابل هذا فإنّ اتّباع غيرهم بما يخالفهم لا يكون كذلك، لأنّه ربّما يوقعهم في الخطأ أو الزيغ. وقد أشار إلی المعنی المذكور ابن حجر ما نصّه :«وفي أحاديث الحثّ علی التمسّك بأهل البيت إشارة إلي عدم انقطاع متأهل منهم للتمسّك به إلی يوم القيامة كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض... »([40]).

إذن إضافة علی الروايات الخاصَّة بلزوم وجود خليفة لله وحجَّته في الأرض دائماً وأنَّ الأرض لا تخلو من الحجَّة ولو خلت لساخت بأهلها کما ورد هذا المعنی في عدَّة أحاديث ينقلها علماء الفريقين الشيعة والسُّنة، فإنَّ حديث الثقلين أيضاً يثبت تواجد خليفة الله وحجَّته في هذا العصر وهو صاحب العصر والزمان الحجَّة بن الحسن العسکري المهدي الموعود الذي به ثبتت الأرض والسَّماء وبه رزق الوری.

المدلول السادس لحديث الثَّقلين : لا يُقاس بآل محمّد (ع) من هذه الأمّة أحد:

إنّ أمر النّبيّ (ص) بلزوم اتّباع أهل بيته(ع)، والتمسّك بهم، والاعتصام بنهجهم، يدلّ بالدلالة الإلتزامية علی عدم بلوغ درجتهم أحد من الأمّة، وإلاّ لوجب علی النّبيّ (ص) الإشارة إليه. ولأخبر(ص) عن صحّة ذلك الاتّباع أيضاً، هذا وقد صرَّح رسول الله (ص) بقوله : «نحن أهل بيتٍ لا يقاس بنا أ حد»([41]). كما أنّ البيان البليغ الصادر عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) يعزّز المنهج النّبويّ المذكور، فقال (ع) :«لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ (ص) مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ وَ لَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ إِلَيْهِمْ يَفِي‏ءُ الْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ وَ فِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَ الْوِرَاثَة...» ([42])

المدلول السابع لحديث الثَّقلين: إتِّباع الثقلين إختبار للامة:

إنَّ قول رسول الله (ص): « ...فانظروا بما تَخْلُفوني فيهما» ([43]). إخبار منه (ص) بأنّ الأمّة ستُختَبر في ولائها ومحّبتها واتّباعها لأهل البيت(ع) ، وهذا ما ينتظره رسول الله (ص) من أمَّته في الدنيا، لينالوا أجورهم في الآخرة، ولكي تفي الأمّة بتعهّداتها اتّجاه النّبيّ (ص) من جهة، ومن جهة أخری، لكي لا تُحلّأ عن الحوض في غدٍ، لا مجال إلاّ باتّباع الثّقلين.

المدلول الثامن لحديث الثَّقلين :أفضلية أهل البيت(ع):

إنَّ إقتران أهل البيت(ع) بالقرآن في حديث الثقلين وإثبات عصمتهم من الذنوب والنص والوصية عليهم بالولاية والخلافة وغيرها من الخصائص والفضائل التي يمکن أن نستخرجها من حديث الثقلين، وقد أثبتها علماء الشيعة في تراثهم الكلامي قديماً وحديثاً، إستناداً الى العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المدوّنة في المصادر السنّية والشيعية معاً، کلُّ هذه تدلُّ بوضوح علی أفضلية أهل البيت(ع)علی سائر المسلمين حتَّی علی أقرب صحابة رسول الله(ص). وإنَّ تاريخ حياتهم الإجتماعي والسياسي والعلمي هو خير شاهد على ذلک .

المدلول التاسع لحديث الثَّقلين : المرجعية العلمية لأهل البيت(ع):

وممَّا جاء في بعض ألفاظ حديث الثقلين «... ولا تعلّموهم، فإنَّهم أعلم منكم»([44]).. وإنّ هذا النّصّ النّبويّ يثبت بشكل قاطع كون أهل البيت (ع) هم أعلم الأمّة بعد رسول الله (ص)، ولهم المرجعية العلمية من دون منازع مطلقاً.  هذا من جهة، ومن جهة أُخری، لقد قرنهم النّبيّ (ص) مع القرآن، والقرآن أعلم من كلّ أحد، قال تعالی: «وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُدیً وَرَحْمَةً وَبُشْرَی‏ لِلْمُسْلِمِينَ» ([45]).، وهذا يعني أنّ جميع المراحل العلمية، والمعرفية، بل الكمالية للقرآن الكريم يقتضي أن تتوفر لأهل البيت (ع) وإلاّ لافترقا، لأنّه إذا لم تكن لأهل البيت (ع) كلّ تلك المعارف فسوف يفترقا بالضرورة، والحال أنّ الصادق الأمين صلي الله عليه و آله أخبرنا بأنّهما: « لن يفترقا »، وهذا مقتضاه تطابق وتكامل الكمالات المعرفية المطلقة لهم، كما هي متحقّقة للقرآن الكريم. ويقتضي هذا  كون أهل البيت (ع) هم أعلم الاُمّة بعد نبيّها، فلابدّ للاُمّة من الرجوع إليهم في أمور الدين والدنيا، وعلی الاُمّة أن تتعلّم منهم وتأخذ عنهم، فهم المنهل العذب والينبوع الصافي للعلم والمعرفة. كما أنّ ابن حجر قد فهم من النّصّ النّبويّ المذكور كونهم أعلم الأمّة بعد نبيّها من دون معارض، فلذا قال ما نصّه: «... ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»: دليل علی أنّ من تأهل منهم للمراتب العَلية، والوظائف الدينية، كان مقدّماً علی غيره، ....» ([46]).

هذا وإنَّ أهل البيت (ع) قد أخذوا علومهم عن رسول اللَّه (ص) كما أخذها رسول اللَّه (ص) عن جبرئيل، عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع):« يَا جَابِرُ وَ اللَّهِ لَوْ كُنَّا نُحَدِّثُ النَّاسَ أَوْ حَدَّثْنَاهُمْ بِرَأْيِنَا لَكُنَّا مِنَ الْهَالِكِينَ وَ لَكِنَّا نُحَدِّثُهُمْ بِآثَارٍ عِنْدَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (ص) يَتَوَارَثُهَا كَابِرٌ عَنْ كَابِرٍ نَكْنِزُهَا كَمَا يَكْنِزُ هَؤُلَاءِ ذَهَبَهُمْ وَ فِضَّتَهُمْ » ([47])  .أوأنَّ الأئمة (ع) حصلو علی تلک العلوم بإلهام من الله لأنّهم محدَّثون، كما أنّ مريم كانت محدَّثة([48]).

المدلول العاشر لحديث الثَّقلين : المرجعية السياسية لأهل البيت(ع):

من خلال الدلائل المتقدّمة للنصوص النّبويّة المتعلّقة بحديث الثقلين، يمكننا الاستدلال علی مرجعية أهل البيت(ع) السياسية، أيضاً، وذلك بالبيان التالي: إنّ النّبيّ (ص)  قد أصرّ علی تكرارحديث الثقلين في مناسبات متعدّدة، وفي حشد من جموع المسلمين، في أرض عرفات، وفي الطائف، وفي منی، ... إلی آخر فرصة من حياته الشريفة، وفي مرضه الذي توفّي فيه، وقد أفاد أنّه سيرتحل عمّا قريب عن هذه الدنيا، فعليه أنْ يوصي أمّته المهدّدة بالأخطار من حولها، يوصيها بما يحفظ كيانها ووحدتها ويديم رشدها وهدايتها، ويوصي الأجيال القادمة لكونه النّبيّ الخاتم، وبارتحاله سينقطع الوحي عن الدنيا، فلا مجال له أن يترك أُمّته سدي، وحاشاه عن هذا الفعل العبثي الذي لا يليق بأبسط إنسان، فكيف به وهو الحريص علی أُمّته، والرؤوف بها؟ وإنّ هذا الحث المكثّف من النّبيّ (ص)، وهذا التأكيد، والتعبير البليغ علی التمسّك بهم، وحفظهم واحترامهم، يدلّ علی أنّ أهل البيت(ع) يقومون مقامه (ص) بعد رحلته ويسدّون خلّته. وكأنّي بهم يسألونه: يا رسول الله من سيخلفك في اُمّتك وقد أشرفت علی الرحيل؟ فإذا به (ص) يقول لهم: « إنّي مخلّف فيكم الثَّقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي...»، فها هو (ص) يجيبهم علي تساؤلهم، ويأمرهم بالتمسّك بهما كي يفلحوا ولا يضلّوا من بعده أبداً ([49]).

أهل البيت(ع) وحديث السفينة

ويعضد حديث الثقلين في إثبات خصوصيات أهل البيت وحقانيتهم ومرجعيتهم الدينية والسياسية أحاديث اُخری لا مجال للبحث عنها في هذا المختصر ونکتفي بحديث السفينة لزيادة معرفة بمکانة أهل البيت (ع) بين المسلمين خاصة شيعتهم و أتباعهم.

 إنّ النبي الأكرم(ص) قد شبّه أهل بيته(ع) بسفينة نوح ويقول: «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق».([50])  وفي تشبيه آخر يقول: « إنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له».([51])  وفي حديث ثالث: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس»([52]). والمراد من تشبيههم (ع) بسفينة نوح: أنّ من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأُصوله عن أئمّتهم الميامين نجا من عذاب اللّه تعالی، ومن تخلّف عنهم كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر اللّه غير أنّ ذاك غرق في الماء، وهذا يغرق في الحميم.

ثمّ إنّ ابن حجر قد أوضح حقيقة التشبيه في كلامه وقال: «ووجه تشبيههم بالسفينة أنّ من أحبّهم وعظّمهم شكراً لنعمة مشرّفهم، وأخذ بهدي علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلّف عن ذلك غرق في بحر كفر النعيم، - إلى أن قال:- وبباب حطة- يعني ووجه تشبيههم بباب حطة- انّ اللّه جعل دخول ذلك الباب الّذي هو باب أريحا أو بيت المقدس مع‏ التواضع والاستغفار سبباً للمغفرة، وجعل لهذه الأُمّة مودّة أهل البيت سبباً لها» ([53]) .

وقد علّق الإمام شرف الدين على كلام ابن حجر وقال: قل لي لماذا لم يؤخذ بهدي أئمّتهم في شي‏ء من فروع الدين و عقائده، ولا شي‏ء من أُصول الفقه وقواعده، ولا شي‏ء من علوم السنّة والكتاب، ولا في شي‏ء من الأخلاق والسلوك والآداب، فلماذا تخلّف عنهم فأغرق نفسه في بحار كفر النعم؟!([54])

نعم هكذا يتحدث القرآن والنبي (ص) عن أهل البيت (ع) بحيث يحددان شخصياتهم، الطاهرة المعصومة، ليتضح للمسلمين مقامهم ومكانتهم في الإسلام، ليُتخذوا قدوة وقادة للأمة، بعد رسول اللّه (ص) في جميع المجالات.

هذا و لكي نحقق معرفة أهل بيت النبي (ع) ويكون لهذه المعرفة مصداق في الخارج لابدَّ من الولاء لهم بشتی انواعه من الولاء العاطفي وهومحبتهم ومودتهم و الولاء العقائدي وهو أن يأخذ المسلم اصول دينه وفروعه منهم و الولاء بالعمل والطاعة لهم وسلوك منهجهم.

الشيعة ومودة أهل البيت (ع)

إنَّ مودة أهل البيت هو أساس الإيمان، وقد فرض اللّه تلك المودة في كتابه، وجعلها أجراً لرسالة النبي (ص) على أمته، فقال: «قُل لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّة في الْقُرْبَى» ([55]) وقد أجمع علماء المسلمين أن المراد بالقربى في الآية الكريمة، أهل بيت النبي (ص) وهم فاطمة (س) وعلي و أولادهما الأئمة الإثنا عشر (ع)، فمحبتهم ومودتهم والإحسان إليهم والبّر بهم وإلي ذراريهم هو فرض وحق من حقوقهم على جميع المسلمين، وقد أكَّدت روايات الفريقين على ذلك، منها قول رسول اللّه (ص): «أساس الإسلام حبي وحبّ أهل بيتي»([56]).وقال (ص): «أول ما يسأل عنه العبد حبنّا أهل البيت (ع)»([57]).وقال (ص): «من مات على حب آل محمد مات شهيداً»([58]).وقال (ص): «أدّبوا أولادكم على حبي وحبّ أهل بيتي والقرآن»([59]).وقال (ص): «من رزقه الله حب الأئمة من أهل بيتي فقد أصاب خير الدنيا والآخرة» ([60]).

وكل ما ورد من آيات وأحاديث في لزوم محبة أهل البيت (ع) لا يعني الارتباط و الولاء العاطفي والحب القلبي فقط، وإن كان هذا حسناً ويؤجر ويثاب عليه الإنسان إلاّ أن الهدف والغاية الأصلية من الدعوة إلى مودة القربى، والتأكيد على محبتهم (ع) من قبل الرّسول (ص) هو معرفة قدرهم ومنزلتهم ثم الإقتداء بهم في كل الأمور ، والسير على منهجهم، والالتزام بمدرستهم ومذهبهم ، كما قال تبارك وتعالى: «قل إن كنتم تحبون اللّه فاتبعوني يحببكم اللّه» ([61]).

ومن المسلَّم انَّه لا تنال ولاية أهل البيت(ع) إلاَّ بالعمل الصالح والورع عن المحرَّمات، ويؤيد ذلك ما ورد عن الإمام الرضا(ع) أنه قال:«لا تدعوا العمل الصالح والاجتهاد في العبادة اتِّكالاً على حبِّ آل محمد(ص) ولا تدعوا حبّ آل محمد والتسليم لأمرهم اتكالاً على العبادة فإنَّه لا يقبل أحدهما دون الآخر... الخ»([62])

وإذا جمع العبد المؤمن بين حبِّ آل محمد(ص) وبين العمل الصالح فهو الناجي، بل هو الذي تكون له الدرجات العالية والمقامات السامية عندالله ورسوله وأهل بيته، ويكون محبوباً عند أئمته فحينئذٍ يغتمّون لغمّه ويفرحون لفرحه كمافي قول إمامنا أبی الحسن الرضا(ع) في حديث له:«من عادی شيعتنا فقد عادانا، ومن والاهم فقد والانا، لأنَّهم منَّا، خلقوا من طينتنا، ومَن أحبَّهم فهو منَّا، ومَن أبغضهم فليس منَّا، شيعتنا ينظرون بنورالله، ...، ما من أحد من شيعتنا يمرض إلا مرضنا لمرضه، ولا اغتمَّ إلا اغتممنا لغمه، ولا يفرح إلا فرحنا،...»([63]).

الشيعة وإطاعة أهل البيت (ع)

وهذا الجانب الذي يمثِّل الولاء العملي  لأهل البيت (ع)،وقد فرض اللّه طاعته وطاعة النبي (ص) وأهل بيته (ع) في آيات عديدة منها قوله تعالى: «أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلي الْأَمْر ِمِنكُمْ»،([64]) فلقد قرن اللّه طاعة أولي الأمر، وهم الأئمة من أهل البيت (ع) بطاعته وطاعة رسوله (ص)، وهذا ما يشعر بخلافتهم الحقة عن رسول اللّه (ص)، وعصمتهم المطلقة فمن الخطأ الكبير تأويل أولي الأمر وحملها على سائر أمراء المسلمين، لمخالفة الكثيرين منهم للّه تعالى ورسوله وانحرافهم عن الحق، قال الإمام الصادق (ع): «وصل اللّه طاعة ولي أمره بطاعة رسوله، وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع اللّه ولا رسوله»([65]).

ويا تری أَيَكْتَفِي مَنِ انْتَحَلَ التَّشَيُّعَ أَنْ يَقُولَ بِحُبِّ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ هذه شبهة في سياق سؤال ، كانت ولا تزال موجودة عند بعض منتحلي مذهب التشيع، وهي أنَّهم قد يكتفون بمجرد الإدعاء لحبِّ أهل البيت(ع)، وأنَّ ذلك الحب أو إدعاءُه يكفيهم في تحصيل النجاة، مع أنَّهم – في سيرتهم غالباً – مخالفون لأهل البيت(ع)، ومنشأ هذه الشبهة عندهم هو ما تواتر عن النبي الصادق الأمين(ص) وأهل بيته(ع)، في ما رواه الخاصة والعامة من البشائر العديدة لشيعة أهل البيت(ع) ومحبيهم وانَّهم هم الناجون لا غير، والواقع أنَّ تلك البشائر هي حقيقة ثابتة لا ينكرها إلا جاهل أو معاند، ولكن السئوال الذي يُطرح دائماً من هم شيعتهم الحقيقيون؟([66]) ويجيب الإمام الباقر(ع) عن هذا الاستفهام فيقول مقسماً بالله العظيم لتأكيد واقعية جوابه:« فَوَ اللَّهِ مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَ أَطَاعَهُ وَ مَا كَانُوا يُعْرَفُونَ يَا جَابِرُ إِلَّا بِالتَّوَاضُعِ وَ التَّخَشُّعِ وَ الْأَمَانَةِ وَ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ وَ الصَّوْمِ وَ الصَّلَاةِ وَ الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَ التَّعَاهُدِ لِلْجِيرَانِ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَ أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْغَارِمِينَ وَ الْأَيْتَامِ وَ صِدْقِ الْحَدِيثِ وَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَ كَفِّ الْأَلْسُنِ عَنِ النَّاسِ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ،...»([67])

 وأيضاً إنَّ الصلاة والسلام عليهم(ع) وإعطاء حقهم الخمس و زيارة قبورهم ونشر فضائلهم و ذكر مصائبهم، هوالذي يمثِّل الولاء العملي لهم، والذي سنتطرق إليه فيمايلي بإختصار:

ألصلاة علی النبي وأهل بيته (ع)

درج الناس على إجلال العظماء وتوقيرهم، تكريماً لهم وتقديراً لجهودهم ومساعيهم في سبيل أممهم، فلا غرابة أن تكون من حقوق النبي (ص) على أمته - وهو سيد الخلق وأشرفهم جميعاً- تعظيمه بالصلاة عليه، عند ذكر اسمه المبارك أو سماعه، وقد أفتى علماء الإمامية وبعض المذاهب الأخرى بوجوب الصلاة على محمد وآل محمد في تشهد الصلاة.

وقد صرحت الآية الكريمة عن بالغ تكريم اللّه تعالى وملائكته للنبي (ص) ثمَّ وجهت الآية الخطاب إلى المؤمنين بضرورة تعظيمه والصلاة عليه في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وملائكته ويُصَلُّونَ عَلَى النبي يأَيُّهَا الَّذِينَ امنوا صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا ْتَسْلِيماً» ([68])، فالصلاة من اللّه عز وجل رحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن الناس دعاء وأما قوله تعالى: «وسلموا تسليماً»، يعنى أطيعوه في كلِّ الأمور وسلموها إليه.

وجاءت نصوص النبي (ص) وأهل بيته (ع) توضح كيفية الصلاة عليه، والأجر والثواب المترتب على ذلك، فمن تلك النصوص قوله (ص):« لا تصلوا عليّ الصلاة البتراء فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون :اللهم صل على محمد، وتمسكون، بل قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد»، وفي روية أخرى قال (ص): «قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد»([69]). وقال الإمام الصادق (ع): «من صلى على محمد وآل محمد عشراً صلى اللّه عليه وملائكته مئة مرة، ومن صلى على محمد وآل محمد مئة صلى اللّه عليه وملائكته ألفاً»([70]). وقال (ع): «كل دعاء يُدعى الله تعالى به، محجوب عن السماء حتى يصلی على محمد وآل محمد (ع)»  ([71]).

وقال الشافعي:

يا آل بيت رسول اللّه حبكم

 

فرض من اللّه في القرآن أنزله

كفاكم من عظيم القدر أنكم

 

من لم يُصلِّ عليكم لا صلاة له([72])

 

حق أهل البيت (ع) من الغنائم

قال تعالى: «وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ووَلِلرَّسُولِ ولذي الْقُرْبَى واليتامى وَالْمَسَكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» ([73])، ومفهوم الغنيمة عند أهل السنة مختص بغنائم الحرب، وعند الشيعة الإمامية عام يطلق على جميع الفوائد والأرباح، والبحث عن أدلة الطرفين يخرج هذا المقال عن موضوعه الإعتقادي، فلتُراجع المصادر الفقهية. والغنيمة سواء كانت من الحرب فقط، أو من جميع المكاسب، فإنَّ خمسها يقسّم إلى ستة أقسام، قسم لله تعالی، وقسم لرسوله(ص) و وقسم لقرابة الرسول (ص)، وما كان لله فهوللنبي وقسم للإمام القائم مقامه، فنصف الخمس في هذه العصور لإمام العصر(عج) سهمان لـه بالإمامة(سهم الله ورسوله) وسهم مقسوم لـه من اللّه وهو سهم ذي القربى، والسهام الثلاثة الأخرى التي يعبر عنها: بسهم السادة، سهم لأيتامهم وسهم لمساكينهم وسهم لابناء سبيلهم، وهم بنو هاشم.

 وقد فرض اللّه الخمس لآل محمد وذراريهم، تكريماً للنبى (ص)، وتقديراً لجهاده وجهده وتضحياته في سبيل الإسلام والأمة الإسلامية، وتنزيهاً لـه ولهم عن الصدقة والزكاة، التي هي من أوساخ أيدى الناس، كما جاء هذا المعنى في كثير من الروايات.

والخمس، حق طبيعي يحكم العقل بحسنه، ويدرك الوجدان أثره، كما يفرضه الشرع، ومما يقربه إلى الاذهان ما درجت عليه الدول من تكريم موظفيها فتمنحهم راتباً تقاعدياً يتقاضوه عند كبر سنهم، أو جائزة جزيلة لما أسدوه تقديراً لجهودهم في صالح أممهم وشعوبهم، وبعد هذا كان لهم الحق في جعلها لذويهم، من أبنائهم وأقربائهم.

زيارة قبورأهل البيت (ع)

من حقوق أهل البيت(ع) على المسلمين زيارة قبورهم ومشاهدهم المشرفة، والتسليم عليهم، فهم سيّان أحياءاً وأمواتاً، يسمعون كلامنا ويردون جوابنا، كما جاءت به الروايات والأدعية، وهذا مذهب الإمامية، وهذه الزيارة تعبّر عن مظاهر الحب والولاء ومصاديق الإخلاص والوفاء، قال (ص): «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني»([74]).

وقد تواترت نصوص أهل البيت (ع)، في فضل زيارة مشاهدهم، وما تشتمل عليه من الخصائص والفوائد، والأجر والثواب العظيم، فعن الإمام الرضا (ع): «إنَّ لكل إمام عهداً في عنق أوليائه وشيعته، وإنَّ من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقاً بما رغَّبوا فيه، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة»([75])، وعن زيد الشحّام قال: قلت لأبي عبد اللّه (ع): «ما لمن زار واحداً منكم؟ قال: كمن زار رسول اللّه (ص)»([76]).

نشر فضائل أهل البيت (ع)

جرت سيرة الناس على تقدير العظماء وتكريمهم، بذكر فضائلهم وكراماتهم، والمدح والثناء عليهم ونشر علومهم وآثارهم، وحيث كان النبي (ص) وأهل بيته الطاهرون أرفع الناس حسباً ونسباً، وأسبقهم وأجمعهم للفضائل والكمالات الإنسانية استحقوا من محبيهم ومواليهم أن يبرزوا هذا الحب والولاء، وذلك بمدحهم، ونشر فضائلهم وعلومهم، تكريماً لهم، وتقديراً لجهادهم وتضحياتهم الغالية في خدمة الإسلام والمسلمين، وكان النبي (ص) والأئمة (ع) يستقبلون الذاكرين لمصائبهم بكل رحابة صدر، شاكرين عواطفهم، ويكافئونهم بما جادت به أيديهم من البّر والدّعاء بالغفران، وجزيل الأجر والثواب.

فهذا حسان بن ثابت شاعر رسول اللّه (ص)، كان يمدح النبي (ص) وابن عمه علي بن أبي طالب (ع) في مواقف عديدة، ومنها في واقعة غدير خم المعروفة، وهذا الكميت الاسدي والفرزدق، و دعبل الخزاعى وغيرهم من الشعراء والعلماء كانوا يمدحون ويرثون أئمة أهل البيت (ع)، ويذكرون فضائلهم ومناقبهم وما جرى عليهم من الظلم والمحن والمصائب، ولا يخافون من حكّام زمانهم فكانت لهم مواقف مشرفة وأشعار مدهشة، وما ذلك إلاّ لأداء القليل من واجبهم الشرعي تجاه أئمتهم وسادتهم في بيان الحقائق، وأداء الحقوق المفروضة عليهم.

الشيعة وذکر مصائب أهل البيت (ع)

قدتعرض الرّسول (ص) لأنواع الأذى في سبيل تبليغ الرّسالة والدعوة إلى اللّه، حتى قال (ص):«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت..»([77]) ،وهكذا تعرض أهل بيت النبي (ص) لأنواع الأذى والظلم والاضطهاد في سبيل حفظ الإسلام من الانحراف، ووقوفهم ضد الظلم والظالمين، من الحكّام الأمويين والعباسيين، ولو أنَّ النبي (ص) قد أمرهم بإيذاء أهل بيته لم يمكن أن يلاقوا أكثر ممّا لاقوه بالفعل من الأذى والظلم والمحن والمصائب، بحيث يعجز عن بيانها القلم، ويكلّ عن ذكرها اللسان، وجدير بتلك المآسي أن تبكيها العيون دماً.

وقد أخبر الرّسول (ص) بتلك المظالم التي سوف تقع على أهل بيته (ع)، وأوصاهم بالصبر. قال النبي (ص): «إنَّ أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً، وإنَّ أشدّ قومنا لنا بغضاً بنو أميّة وبنو المغيرة وبنو مخزوم»([78])،وعن الإمام الحسن العسكري (ع):« قد وضع بنو أمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلتين: أحداهُما أنّهم كانوا يعلمون أنه ليس لهم في الخلافة حقّ فيخافون من ادعائنا إيّاها وأن تستقّر في مركزها. وثانيها أنّهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أن زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منّا، وكانوا لا يشكون أنّهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول اللّه (ص) وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولّد القائم (عج)أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم، إلاّ أن يتم نوره ولو كره الكافرون» ([79]). وقد حدّثنا التاريخ وروايات أهل البيت (ع) عن بعض ما وقع عليهم من الظلم والاضطهاد، بحيث يقول الإمام الحسن (ع) في حديثه بعد قتل أبيه أمير المؤمنين (ع): حدثني جدي رسول اللّه (ص) «إنَّ الأمر يملكه إثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته ما منّا إلاّ مقتول أو مسموم»([80]).

وهكذا نرى أن الشعراء الرساليين أيضاً قد نظموا الشعر الحزين في رثاء أهل البيت (ع)، و من تلك القصائد المحزنة التي خلَّدها التاريخ هي قصيدة دعبل الخزاعي ذلک الشاعر الرسالي والولائي الذي رثا بها أهل البيت (ع) وإليک مقتطفات من تلک القصيدة:

من قصيدة دعبل في حقِّ أهل البيت (ع)

أسند الصدوق عن أبي الصلت الهروي([81]) أنه قال: دخل دعبل الخزاعي على الرضا (ع) في مدينة مرو بعد بيعة الناس له بولاية العهد، فقال: يا ابن رسول اللَّه(ص)، إنّي قد قلت فيك(فيكم) قصيدة وآليتُ على نفسي أن لا أُنشدها أحداً قبلك، فقال (ع): هاتِها، فأنشد (دعبل):

ذكرتُ محلَّ الرَّبعِ([82]) من عَرَفاتِ
مَدارسُ آياتٍ خَلتْ مِنْ تلاوة
دِيارُ عَليٍّ والحسينِ وجعفرٍ
مَنازلُ كانت للصلاة وللتقى

 

فأجريتُ دَمعَ العَينِ بالعَبَراتِ
ومَنزلُ وحيٍ مُقفرُ العَرَصاتِ([83])
وحمزة والسجّادِ ذي الثفناتِ([84])
وللصومِ والتطهيرِ والحَسَناتِ

أفاطمُ لو خِلتِ الحسينَ مُجدّلاً
إذن للطَمتِ الخدَّ فَاطمُ عندَهُ
أفاطمُ قُومِي يا ابنة الخَيرِ واندُبي
قُبورٌ بكوفانٍ وأُخرى بطيبة
وَقَبرٌ بأرض الجوزجانِ([85]) محلّهُ
قُبورٌ بِجَنبِ النهرِ من أرضِ كربلا
تُوفوا عطاشى بِالعراءِ فَليتَني
وَقبرٌ بِبغدادٍ لِنفسٍ زَكيّة

 

وَقدْ مَاتَ عَطشاناً بِشَطّ فُراتِ
وأجريتِ دَمَع العينِ في الوَجَناتِ
نُجومَ سَماواتٍ بأرضِ فَلاة
وأُخرى بِفخّ([86]) نالها صَلَواتِي
وقبرٌ بباخمرى([87]) لدى الغرباتِ
مُعرّسهم فيها بِشطِّ فُراتِ
تُوفّيت فِيهم قَبلَ حينِ وفَاتي
تضمّنَها الرّحمنُ في الغُرُفاتِ([88])

وهنا روی الصدق عن الهروي أنَّ الرضا (ع) قال لدعبل:«أفلا أُلحق لك بيتين بهذا الموضع، بهما تمام(کمال) قصيدتك؟»، فقال دعبل: بلى يا بن رسول اللَّه، فقال (ع):

وَقَبرٌ بطوسٍ يا لها من مُصيبة
إلى الحشرِ حتّى يبعثَ اللَّهُ قائماً

 

ألحَّتْ على الأحشاءِ بالزّفراتِ([89])
يُفرّجُ عنّا الغمَّ والكُرُباتِ

فقال دعبل: هذا القبر الذي بطوس قبر من؟ فقال الرضا (ع): « قَبْري، وَلاَ تَنقَضِي الأيّامُ وَالليالِي حتّى تَصيرَ طوسُ مُختَلَفَ شِيعتِي وزُوّارِي!، ألا فَمَن زَارَني فِي غُربَتي بِطوسٍ كَانَ مَعي في دَرَجَتِي يومَ القِيامة مَغْفُوراً لَه»([90]).

 

 

([1]) أصول الكافي1 :237ح 5 وعنه في بحار الأنوار 53: 187، وهوفقرات من دعاء زمن الغيبة الذي علّمه الإمام الصادق لزرارة،ويستحب قراءته على الدوام، و بعد فريضة العصر يوم الجمعة.

([2]) الذَّاريات: 56.

([3]) هود: 73

([4]) الأحزاب: 33.

([5]) تفسير الطبري 19 :101.وأخرجه ابن عساكر في تأريخ دمشق 13 :68، وقد أخرج الحاكم الحسكاني أكثر من مئة وثلاثين رواية تبيّن تعلّق واختصاص آية التطهير بأهل البيت (ع) وهم: (علي وفاطمة والحسن والحسين) أنظر شواهد التنزيل: ح637ـ ح774.

([6])وليس نزلت سابقاً علی دعوته(ص) کما توهمّه الرواة .

([7]) الأحزاب: 33.

([8]) تفسير الطبري 19 :107، وأورده ابن كثير في تفسيره 6 :367،و أخرج نظيره مسلم بإسناده عن عائشة، أنظر صحيح مسلم: 4 : باب فضائل أهل بيت النّبيّ صلی الله عليه (و آله) و سلم ، والمستدرك على الصحيحين، للحاكم 3 :159،4709،و مسند الإمام أحمد 6 :292.

([9]) سورة طه: 132.

([10]) الدُّرّ المنثور، للسيوطي 6 :535.

([11]) لمزيد الإطلاع راجع تفسير آية التطهير وشأن نزولها في کتب تفاسير الفريقين.

([12]) تفسير روح المعاني: 21: 9.

([13]) أسباب النزول،پ ، للواحدي : 296، الدُّرّ المنثور 6 :603 .

([14]) مجمع البيان، للطبرسي 8 :119.

([15]) سلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني 4 :360.

([16]) أنظر تاج العروس، للزبيدي الحنفي 14: 36، ولسان العرب 1 :253.

([17]) أنظر صحيح مسلم 4 :1873و2408.

([18]) صحيح مسلم 3 :1452/1821، كتاب الإمارة. وصحيح البخاري 6: 2640 ، كتاب الأحكام ـ باب الاستخلاف.

([19]) ينابيع المودّة 3: 290.

([20]) أخرج الرواية أحمد في >المسند< برقم (3859) ،و الحاكم في «المستدرك»4: 546،8529 .

([21]) كمال الدين: 244.

([22]) مسند الإمام أحمد بن حنبل 3: 59.

([23]) صحيح مسلم4 :1873ح 2408، باب من فضائل عليّ بن أبي طالب (ع).

([24]) قال ابن الأثير الجزري: «أنا فَرَطُكم على الحوض» أي: متقدّمكم إلی الحوض، ومنه الدعاء للطفل الميّت: «اللهم اجعله لنا فَرَطاً» أي أجراً يتقدَّمنا ، النهاية 3:  388.

([25]) صنعاء مدينة في اليمن ، وبصری مدينة في الشَّام.

([26]) المعجم الكبير، للطبرانی 3: 66ح 2681.

([27]) إنّ اللفظ الصحيح هو بالتحريك (الثَّقَلَين)، أی: العِدلين علی طرفی الحيوان المرکوب حيث أنَّهما مشروطان بالتعادل والتوازن .

([28])المزّمل: 5.

([29]) الصواعق المحرقة: 2: 653. ولايخفی أنَّ ابن حجرعدل بالثَقَل ليُفقد الکلمة معناها الأصيل بالتعادل والتوازن بينهما .

([30]) تاج العروس من جواهر القاموس 14: 85 . وتری أنَّ الزبيدي بهذا التعريف أعطی للکلمة معناها الأصيل وهو التعادل والتوازن.

([31])تفسير غريب القرآن العظيم: 386، فصل الثاء. وهذا المفسِّر اللغوي إنَّما فسَّر الثِقل وفوَّت عن نفسه الثَقَل لغاية في نفس يعقوب ! .

([32]) الحجر: 9.

([33]) فصّلت: 41،42

([34]) التفسيرالكبير  10 : 144

([35]) الأحزاب:33

([36]) الجامع الكبير، للترمذي:6: 125، وانظرسلسلة الأحاديث الصحيحة، للألباني ح(1761).

([37]) الحج: 65.

([38]) الكاشف عن حقائق السنن 12 :3909.

([39]) شرح المقاصد، للتفتازاني 5 :302.

([40]) إشارة إلى الرواية التي أخرجها أبو يعلى، عن سلمة بن الأكوع: أنّ النّبيّ (ص) قال: «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي» الصواعق المحرقة:2: 442، 546.

([41]) فردوس الأخبار، للديلمي 5 : 34 ح7092، أخرجه الديلمي عن أنس بن مالك، وراجع كنز العمال 12: 104 ح13201.

([42]) شرح‏نهج‏البلاغة 1 : 138 .وراجع بحارالأنوار23: 117، ب 7، فضائل أهل البيت.

([43]) الجامع الكبير 6 :125 ح3788 ، مجمع الزوائد: 9 :260 ح14966، كنز العمال 1 :  186 ح944.

([44]) الصواعق المحرقة 2 : 439  ، 654، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير ح2681.

([45]) النحل: 89.

([46]) الصواعق المحرقة 2 :654.

([47]) بحارالأنوار2: 173، باب23 .

([48]) راجع الإلهيات للسبحاني 2 : 528 .

([49]) لزيادة الإطلاع حول دلائل حديث الثقلين راجع: کتاب (مرجعية أهل البيت في ضوء حديث الثقلين)، للسيد راضي الحسيني .

([50]) مستدرك الحاكم 3: 151 بسنده إلى أبي ذر.

([51]) الأربعون حديثاً للنبهاني: 216، نقله عن الطبراني في الأوسط.

([52]) مستدرك الحاكم 3:  149 بسنده إلى ابن عباس.

([53]) لاحظ الصواعق: 91 ،الباب الحادى عشر.

([54]) المراجعات: 25.

([55]) الشورى: 23.

([56]) كنزل العمال 105:12 ح 34206.

([57]) عيون أخبار الرضا(ع) 2: 62.

([58]) الكشاف 3: 403.

([59]) احقاق الحق: 18: 498.

([60]) الخصال: 1: 515.

([61]) آل عمران: 31.

([62]) راجع بحار الأنوار 78 : 347.

([63]) صفات الشيعة للصدوق: 4 ، وعنه في بحار الأنوار68 : 167.

([64]) سورة النساء: 59.

([65]) سفينة البحار 2: 691.

([66]) راجع ما روى في البشائر لشيعة أهل البيت (ع) كتاب فضائل الشيعة، للصدوق وبحار الانوار ج 68 باب فضائل الشيعة  .

([67]) الكافى: 2 : 74 ، صفات الشيعه : 11.

([68]) الأحزاب: 56.

([69]) الصواعق المحرقة: 87.

([70]) الوافي5: 228.

([71]) بحار الأنوار 27: 26 ح15.

([72]) الصواعق المحرقة: 148.

([73]) الأنفال: 41.

([74]) وفاء الوفاء 4: 1340.

([75]) بحار الأنوار 100: 116 ح1.

([76]) بحار الأنوار 100: 117 ح5.

([77]) بحار الأنوار 39: 56 ح15، عن مناقب آل أبي طالب للحلبي الساروي المازندراني المشهور بإن شهرآشوب . والحديث مرسل .

([78]) المستدرك على الصحيحين 4: 534.

([79]) إثبات الهداة 3: 570، عن التفسير المنسوب إلى الحسن العسكري (ع).

([80]) كفاية الأثر: 160، بحار الأنوار 27:21ب9،وج43: 363ب17.

([81]) أبو الصلت الهروي: هو من أصحاب الرضا (ع) و خادمه.

([82]) الربع: موضع في عرفات، يتوقف به ويطمأن.

([83]) العرصات: الساحات.

([84]) الثفنات: علامات في الجبهة من كثرة السجود.

([85]) الجوزجانِ : من المدن القديمة في منطقة خراسان الکبری ،واليوم هذه المدينة في بلاد أفغانستان، وفيها قبريحيى بن زيد الشهيد.

([86]) فخ: موقع بمكة وقعت فيه حادثة فخ حيث استشهد فيه قائد الإنتفاضة ضد العباسيين ، الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط(ع) ، و جمع من بني هاشم بأمر من الخليفة العباس موسی الهادي.( انظر موسوعة التاريخ الإسلامي 7 : 454) .

([87]) باخمرى: مكان بين الكوفة والواسط في العراق، فيه قبر القاسم أخ الإمام الرضا (ع) ، هذا المکان اليوم اشتهر بمدينة القاسم .

([88]) الغرفات: غرف الجنة.

([89]) الزّفرات: تتابع الأنفاس من شدة الغم والحزن.

([90]) عيون أخبار الرضا (ع) 2: 295،الباب 66،ح34، وفي بحار الأنوار99: 39، الباب 4، ح25 . (و انظر موسوعة التاريخ الإسلامي 8 : 62) .

قراءة 4587 مرة