أهل الحديث والحشوية

قيم هذا المقال
(0 صوت)

إنّ للحديث النبوي من علو الشأن، وجلالة القدر ما لا يختلف فيه اثنان، ولا يحتاج في إثباته إلى برهان، إذ هو الدعامة الثانية ـ بعد الذكر الحكيم ـ للدين والشريعة والحكم والأخلاق.

وهذه المنزلة الرفيعة تقتضي المزيد من الاهتمام بالمنقول عنه ، ودراسته وتمحيصه بأفضل نحو حتّى يتميز الصحيح عن السقيم، والمعقول عن غيره، وموافق الكتاب عن مخالفه .

وذلك لِما دق رسول الله جرس الإنذار وقال: «من كذب عليَّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار». وذلك يعرب عن أنّ الرسول كان يعلم بإذن الله أنّ أعداء دين الإسلام وسماسرة الحديث سيكذبون عليه، ويضعون الحديث على لسانه.

وقد صدق الخُبر الخبرَ حيث وضع الوضّاعون أحاديث على لسانه، وبثّوها بين صفوف المسلمين بأساليب مختلفة، فصار تمييز الصحيح عن غيره أمراً بعيد المنال .

وقد كان لمنع كتابة الحديث وتحديثه ما يزيد على قرن، مضاعفات جمّة أهمها انتهاز الوضّاعين لوضع الحديث وجعله ونشره بين المسلمين، فلمّا وقف المحدّثون على مدى الخسارة الّتي مني بها الحديث أخذوا بتقييد وضبط كل ما دبّ وهبّ بحرص شديد، سواء وافق العقل أو خالفه، أو وافق الكتاب أو خالفه إلى حد تجاوزت منزلة الحديث، الكتاب العزيز، ويعلم ذلك من الأُصول الّتي اتّخذها أهل الحديث مقياساً لأخذ الحديث وجمعه، فقالوا:

1.ان السنّة لا تنسخ بالقرآن، ولكن السنّة تنسخ القرآن وتقضي عليه، والقرآن لا ينسخ السنّة ولا يقضي عليها. ( [1 ])

2.ان القرآن أحوج إلى السنّة من السنّة إلى القرآن. ( [2 ])

3.ان القول بعرض الأحاديث على الكتاب قول وضعه الزنادقة. ( [3])

والّذي يعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث اخبار تآليفهم الصحاح والمسانيد من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن ذلك الهوش الهائش. قد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديث، وقال: انتخبته من خمسمائة ألف حديث.

ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار ألفي حديث وسبعمائة وواحداً وستين حديثاً اختارها من زهاء ستمائة ألف حديث .

وفي صحيح مسلم أربعة الآف حديث أُصول، دون المكررات صنّفها من ثلاثمائة ألف. وذكر أحمد بن حنبل في مسنده ثلاثين ألف حديث، وقد انتخبها من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف حديث، وكان يحفظ ألف ألف حديث، وكتب أحمد بن الفرات (المتوفّى 258 هـ) ألف ألف وخمسمائة ألف حديث، فأخذ من ذلك ثلاثمائة ألف في التفسير والأحكام والفوائد وغيرها.( [4])

ثم إنّ الإمام أحمد بن حنبل (164-241 هـ) قد كتب رسالة بيّن فيها عقائد أهل الحديث تحت بنود خاصة.

قال في مقدّمته: هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنّة المتمسّكين بعروتها، المعروفين بها، المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء الحجاز والشام عليها; فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طغى فيها أو عاب قائلها، فهو مخالف مبتدع وخارج عن الجماعة وزائل عن مذهب السنّة وسبيل الحق .

ثم شرع في بيان الأُصول. ( [5])

كما كتب أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي (المتوفّى 377 هـ) عقائد أهل الحديث في كتابه المعروف بـ «التنبيه والرد». ( [6])

وقد سرد الإمام الأشعري عقيدة أهل الحديث في كتابيه: الإبانة ومقالات الإسلامييّن، ولعلّ ما كتبه أحسن تناولاً ممّا كتب قبلَه، ونحن نستعرض جملة من أقواله المبيّنة لعقائد أهل الحديث حيث يقول: وجملة قولنا:

1.أنا نقرّ بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نرد من ذلك شيئاً.

2.وأنّ الله عزّوجلّ إله واحد لاإله إلاّ هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.

3.وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحقّ.

4.وأنّ الجنّة والنار حقّ.

5.وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور.

6.وأنّ الله استوى على عرشه كما قال: ( الرَّحمنُ عَلى العرشِ اسْتَوى ) .( [7])

7.وأنّ له وجهاً بلا كيف كما قال: ( وَيَبْقى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرام ) .( [8])

8.وأنّ له يدين بلا كيف كما قال: ( خَلَقْتُ بيدي ) ( [9])، وكما قال: ( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطتان ) . ( [10])

9.وأنّ له عيناً بلا كيف كما قال: ( تَجْري بِأَعْيُننا ) .( [11])

10.وأنّ من زعم أنّ أسماء الله غيره كان ضالاً. 11.وأنّ لله علماً كما قال: ( أَنْزَلَهُ بعِلْمِهِ ) ( [12])، وكما قال: ( وَماتَحْمِل مِنْ أُنْثى وَلاتَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ ) . ( [13 ])

12.ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك، كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج.

13.وثبت أنّ لله قوّة كما قال: ( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ الله الَّذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشدُّ مِنْهُمْ قُوّة ) .( [14])

14.ونقول: إنّ كلام الله غير مخلوق، وإنّه لم يخلق شيئاً إلاّ وقد قال له: كن فيكون،كما قال: ( إِنّماقَوْلُنا لِشَيء إذا أََرْدناهُ أَنْ نَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .( [15])

15.وإنّه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلاّ ما شاء الله، وإنّ الأشياء تكون بمشيئة الله عزّوجلّ.

وإنّ أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله.

16.ولا نستغني عن الله، ولا نقدر على الخروج من علم الله عزّوجلّ.

17.وإنّه لا خالق إلاّ الله، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة، كما قال: ( وَالله خَلَقكُمْ وَما تَعْمَلُون ) .( [16])

وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقون، كما قال: ( هَلْ مِنْ خالِق غَيرُ الله ) ( [17]) ، وكما قال: ( لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُون ) ( [18]) ، وكما قال: ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُق ) ( [19])، وكما قال: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غير شَيء أم هُمُ الخالِقُونَ ) ( [20]) ، وهذا في كتاب الله كثير.

18.وإنّ الله وفق المؤمنين لطاعته، ولطف بهم، ونظر إليهم، وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم، ولم يلطف بهم بالإيمان، كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين. ولو هداهم لكانوا مهتدين، كما قال تبارك و تعالى: ( مَنْ يَهْد الله فَهُوَ المُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الخاسِرُون ) .( [21])

وإنّ الله يقدر أن يصلح الكافرين، ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنّه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنّه خذلهم وطبع على قلوبهم.

19.وإنّ الخير والشر بقضاء الله وقدره. وإنّا نؤمن بقضاء الله وقدره، خيره وشرّه، حلوه ومرّه، ونعلم أنّ ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأنّ ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأنّ العباد لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلاّ ما شاء الله كما قال عزّوجلّ: ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاّ ما شاءَ الله ) ( [22]) وإنّا نلجأ في أُمورنا إلى الله، ونثبت الحاجة والفقر في كلّ وقت إليه.

20.ونقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وإنّ من قال بخلق القرآن فهو كافر.

21.وندين بأنّ الله تعالى يُرى في الآخرة بالأبصار كما يُرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . ونقول: إنّ الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة، كما قال الله عزّ وجلّ: ( كَلاّ إِنّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمئِذ لَمَحْجُوبُون ) ( [23]) وإنّ موسى (عليه السلام) سأل الله عزّوجلّ الرؤية في الدنيا، وإنّ الله تعالى تجلّى للجبل، فجعله دكّاً، فاعلم بذلك موسى أنّه لا يراه في الدنيا.

22.وندين بأن لا نكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنى والسرقة وشرب الخمر، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنّهم كافرون.

ونقول: إنّ من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلاً لها غير معتقد لتحريمها كان كافراً.

23.ونقول: إنّ الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كلّ إسلام إيماناً.

24.وندين بأنّ الله تعالى يقلّب القلوب «وأنّ القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن»( [24])، وأنّه سبحانه «يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع»( [25]) كما جاءت الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير تكييف. 25.وندين بأن لا ننزل أحداً من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا ناراً إلاّ من شهد له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.

ونقول: إنّ الله عزّوجلّ يخرج قوماً من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تصديقاً لما جاءت به الروايات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .( [26])

26.ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وأنّ الميزان حقّ، والصراط حقّ، والبعث بعد الموت حقّ، وأنّ الله عزّ وجلّ يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين.

27.وأنّ الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي رواها الثقاة عدل عن عدل حتى تنتهي الرواية إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .

28.وندين بحب السلف، الذين اختارهم الله عزّوجلّ لصحبة نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم، ونتولاهم أجمعين.

29.ونقول: إنّ الإمام الفاضل بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وإنّ الله أعزّ به الدين وأظهره على المرتدين، وقدمه المسلمون للإمامة، كما قدمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للصلاة، وسمّوه بأجمعهم خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . ثمّ عمر بن الخطاب ، ثمّ عثمان بن عفان ، وإنّ الذين قتلوه، قتلوه ظلماً وعدواناً، ثمّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فهؤلاء الأئمّة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلافتهم خلافة النبوة.

ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بها، ونتولّى سائر أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نكف عمّا شجر بينهم، وندين الله بأنّ الأئمّة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم.

30.ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأنّ الربّ عزّ وجلّ يقول: «هل من سائل، هل من مستغفر»( [27]) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل.

31.ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربّنا تبارك وتعالى وسنّة نبيّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله مالا نعلم.

32.ونقول: إنّ الله عزّوجلّ يجيء يوم القيامة كما قال: ( وَجاءَ ربّكَ وَالمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ) ( [28])، وإنّ الله عزّ وجلّ يقرب من عباده كيف شاء، كما قال: ( وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريد ) ( [29])، وكما قال: ( ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى* فَكانَ قابَ قَوسين أَوْ أَدنى ) . ( [30])

33.ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كلّ برّ وفاجر، كما روي عن عبد الله بن عمر أنّه كان يصلّي خلف الحجّاج.

34.وأنّ المسح على الخفين سنّة في الحضر والسفر خلافاً لقول من أنكر ذلك.

35.ونرى الدعاء لأئمّة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم، إذا ظهر منهم ترك الاستقامة، وندين بإنكار الخروج عليهم بالسيف، وترك القتال في الفتنة.

36.ونقرّ بخروج الدجّال، كما جاءت به الرواية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .( [31])

37.ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما المدفونين في قبورهم.

38.ونصدّق بحديث المعراج.( [32])

39.ونصحّح كثيراً من الرؤيا في المنام ونقرّ أنّ لذلك تفسيراً.

40.ونرى الصدقة عن موتى المسلمين، والدعاء لهم ونؤمن بأنّ الله ينفعهم بذلك.

41.ونصدّق بأنّ في الدنيا سحراً وسحرة، وأنّ السحر كائن موجود في الدنيا.

42.وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برّهم وفاجرهم وتوارثهم.

43.ونقرّ أنّ الجنة والنّار مخلوقتان.

44.وأنّ من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل.

45.وأنّ الأرزاق من قبل الله عزّوجلّ يرزقها عباده حلالاً وحراماً.

46.وأنّ الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافاً لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عزّوجلّ: ( الّذينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ الَّذي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ المَس ) ( [33])، وكما قال: ( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الخَنّاس* الَّذي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاس* مِنَ الجِنَّةِ وَالنّاس ) .( [34])

47.ونقول: إنّ الصالحين يجوز أن يخصّهم الله عزّوجلّ بآيات يظهرها عليهم.

48.وقولنا في أطفال المشركين: إنّ الله يؤجّج لهم في الآخرة ناراً، ثمّ يقول لهم اقتحموها، كما جاءت بذلك الروايات.( [35])

49.وندين الله عزّوجلّ بأنّه يعلم ما العباد عاملون، وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون، وما لا يكون إن لو كان كيف كان يكون.

50.وبطاعة الأئمّة ونصيحة المسلمين.

51.ونرى مفارقة كلّ داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي منه ممّا لم نذكره باباً باباً وشيئاً شيئاً، إن شاء الله تعالى.( [36])

***

نظرنا في بعض هذه الأُصول :

1.ما ذكره في الأُصول الثلاثة: السابع والثامن والتاسع من أنّ لله وجهاً ويدين وعيناً بلا كيف، حاول بذلك الجمع بين أمرين مهمين :

أ ـ إثبات هذه الصفات لله سبحانه بمعانيها اللغوية حذراً من تأويل المعتزلة.

ب ـ الاحتراز من وصمة الجسمانية وذلك بإضافة قيد «بلا كيف» وبذلك جمع بين الإثبات بالمعنى اللغوي والتنزّه عن صفات الجسمانية.

وهذه المحاولة وإن كانت مقبولة في بدء النظر ولكنه عند الإمعان ينقض أحدهما الآخر، فإنّ إثبات اليد لله سبحانه بمعانيها اللغوية يلازم الكيفية، إذ واقع اليد هو كيفيتها المشتركة بين الإنسان والدواب. هذا من جانب.

ونفي الكيفية من جانب آخر نفي إثبات هذه الصفات بمعانيها اللغوية، وهذا ظاهر لمن دقّق النظر، وأمّا ما هو الصحيح في إثبات الصفات الخبرية فسيوافيك في الفصول الآتية.

2.ما ذكره في الأصل السابع عشر من أنّ أعمال العباد مخلوقة لله مقدورة كما قال: ( وَالله خَلَقكُمْ وَما تَعْمَلُون ) ( [37]) انّ الاستدلال بالآية غفلة عن سياقها، إذ ليس المراد من «ما» الموصولة أعمال الإنسان بل الأصنام الّتي كان يعمل فيها العباد بالنحت والتسوية، يقول سبحانه: ( قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَ اللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) .( [38]) 3.ما ذكره في الأصل الحادي والعشرين: بأنّا ندين بأنّ الله يرى في الآخرة بالأبصار وهذا تعبير آخر عن كونه سبحانه متحيّزاً يرى في جهة، وذلك لأنّ المرئي يوم القيامة أمّا كلّه سبحانه أو قسم منه، فعلى الأوّل يكون متحيزاً وعلى الثاني يكون مركباً، فالقول بالرؤية من العقائد اليهودية المستوردة، وقد حيكت الروايات على منوال تلك العقيدة ونسبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .

4.ما ذكره في الأصل الخمسين: «وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين» كلام لا يقبل على إطلاقه وقد ذهب أبو الحسين الملطي الى لزوم الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منهم من عدل وجور وانّه لا يخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا.( [39])

وقد قال أحمد بن حنبل في إحدى رسائله :

السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة فأجمع الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف وسمّي أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الأُمراء إلى يوم القيامة، البر والفاجر، وإقامة الحدود إلى الأئمة وليس لأحد أن يطعن عليهم وينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائز، من دفعها إليهم أجزأت عنه، براً كان أو فاجراً، وصلاة الجمعة خلفه وخلف كل من ولي، جائزة إقامته، ومن أعادها فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنّة.

ومن خرج على أمام من أئمة المسلمين وكان الناس قد اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه من الوجوه، أكان بالرضا أو بالغلبة، فقد شق الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن مات الخارج عليه، مات ميتة جاهلية. ( [40])

وأين هذه العقيدة ممّا نقله السبط الشهيد أبو الشهداء الحسين بن علي عن جده (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما خطب أصحابه وأصحاب الحرّ قائد جيش عبيد الله بن زياد آنذاك فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

«أُيّها الناس انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله وأنا أحق من غيّر». ( [40])

إكمال:

كان أصحاب الحديث قبل تصدر أحمد بن حنبل لمنصَّة الإمامة في مجال العقائد على فرق وشيع، والأُصول الّتي كتبها الإمام ووحدهم على تلك الأُصول لم تكن مورد قبول القدامى منهم، وقد أخذت هذه الأُصول بالانتشار والشيوع عندما انقلب الوضع في أيام المتوكل لصالح الإمام أحمد.

والشاهد على ذلك انّ جلال الدين السيوطي فى كتابه «تدريب الراوي» يذكر الفرق المختلفة لأصحاب الحديث الذين لم يكونوا على وتيرة واحدة كما صاروا كذلك بعد الإمام أحمد، بل كان أصحاب الحديث بين :

مرجئي يرى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان وأنّه لا تضر معه معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة. ونقدم إليك بعض أسمائهم من الذين عاشوا قبل إمامة أحمد أو عاصروه، نظراء :

1-إبراهيم بن طهمان 2-أيوب بن عائذ الطائي 3 ـ ذر بن عبد الله المرهبي 4-شبابة بن سوار 5-عبد الحميد بن عبد الرحمن 6-أبو يحيى الحماني 7-عبد المجيد بن عبد العزيز 8-ابن أبي رواد 9-عثمان بن غياث البصري 10-عمر بن ذر 11-عمر بن مرة 12-محمد بن حازم 13-أبو معاوية الضرير 14-ورقاء بن عمر اليشكري 15-يحيى بن صالح الوحاظي 16-يونس بن بكير.

إلى ناصبي لعلي وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) ، نظراء:

1-إسحاق بن سويد العدوي 2-بهز بن أسد 3 ـ حريز بن عثمان 4 ـ حصين بن نمير الواسطي 5-خالد بن سلمة الفأفاء 6 ـ عبد الله بن سالم الأشعري 7-قيس بن أبي حازم.

إلى متشيع يحب علياً وأولاده ويرى الولاء فريضة نزل بها الكتاب ويرى الفضيلة لعلي في الإمامة والخلافة، نظراء :

1-إسماعيل بن أبان 2-إسماعيل بن زكريا الخلقاني 3-جرير بن عبد الحميد 4-أبان بن تغلب الكوفي 5-خالد بن محمد القطواني 6-سعيد بن فيروز 7-أبو البختري 8-سعيد بن أشوع 9-سعيد بن عفير 10 ـ عباد بن العوام 11-عباد بن يعقوب 12-عبد الله بن عيسى 13-ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى 14-عبد الرزاق بن همام 15-عبد الملك بن أعين 16-عبيد الله بن موسى العبسي 17-عدي بن ثابت الأنصاري 18-علي بن الجعد 19-علي بن هاشم بن البريد 20 ـ الفضل بن دكين 21-فضيل بن مرزوق الكوفي 22-فطر بن خليفة 23-محمد بن جحادة الكوفي 24-محمد بن فضيل بن غزوان 25-مالك بن إسماعيل أبو غسان 26-يحيى بن الخراز .

إلى قدري ينسب محاسن العباد ومساويهم ومعاصيهم إلى أنفسهم ولا يسند فعلهم إلى الله سبحانه، نظراء :

1-ثور بن زيد المدني 2-ثور بن يزيد الحمصي 3 ـ حسان بن عطية المحاربي 4-الحسن بن ذكوان 5-داود بن الحصين 6-زكريا بن إسحاق 7-سالم بن عجلان 8-سلام بن مسكين 9-سيف بن سلمان المكي 10-شبل بن عباد 11-شريك بن أبي نمر 12-صالح بن كيسان 13-عبد الله بن عمرو 14-أبو معمر عبد الله بن أبي لبيد 15-عبد الله بن أبي نجيح 16-عبد الأعلى بن عبد الأعلى 17-عبد الرحمن بن إسحاق المدني 18-عبد الوارث بن سعيد الثوري 19-عطاء بن أبي ميمونة 20-العلاء بن الحارث 21-عمرو بن زائدة 22-عمران بن مسلم القصير 23-عمير بن هاني 24-عوف الأعرابي 25-كهمس بن المنهال 26-محمد بن سواء البصري 27-هارون بن موسى الأعور النحوي 28-هشام الدستوائي 29-وهب بن منبه 30-يحيى بن حمزة الحضرمي .

إلى جهمي ينفي كل صفة لله سبحانه ويعتقد بخلق القرآن وحدوثه، نظير: بشر بن السري.

إلى خارجي ينكر على أمير المؤمنين مسألة التحكيم ويتبرأ منه ومن عثمان ومن طلحة والزبير وأُم المؤمنين عائشة ومعاوية وغيرهم، نظراء : 1-عكرمة مولى ابن عباس 2-الوليد بن كثير.

إلى واقفي لا يقول في التحكيم أو في القرآن بشيء من الحدوث والقدم وإنّه مخلوق أو غير مخلوق، نظير علي بن هشام.

إلى متقاعد يرى لزوم الخروج على أئمة الجور ولا يباشره بنفسه نظير: عمران بن حطان ( [42]).

إلى غير ذلك من ذوي الأهواء والآراء الذين قضى عليهم الدهر وعلى آرائهم ومذاهبهم بعد ما وصل أحمد بن حنبل إلى قمة الإمامة في العقائد. فصار أهل الحديث مجتمعين تحت الأُصول الّتي استخرجها أحمد وجعل الكل كتلة واحدة، بعدما كانوا على سبل شتى .

هذه ملحمة أهل الحديث وسلفهم وعقيدتهم، والأسف أن المفكّرين من أهل السنّة يتخيلون أن هذه الأُصول الّتي يدينون بها هي نفس الأُصول الّتي كان عليها المسلمون الأُول إلى زمن الإمام أحمد.

وهذا التاريخ الواضح يفرض على المفكّرين المتعطشين لمعرفة الحق دراسة هذه الأُصول من رأس حتّى لا يعبأوا بما جاء في هذه الكتب ممّا عليه ماركة «عقيده السلف» أو «عقيدة الصحابة والتابعين» أو تابعي التابعين.

والّذي يوضح ذلك هو أن كل واحد من هذه الأُصول رد لمذهب نجم في القرون الأُولى، فلأجل التبرّي منه صار خلافه شعاراً لمذهب أهل الحديث. وعقائد أهل الحديث كأنّها مركّبة من عدة ردود للفرق وأصحاب المقالات .


[1] . مقالات الإسلاميين: 2 / 251 .

[2] . جامع بيان العلم: 2 / 234 .

[3] . عون المعبود في شرح سنن أبي داود: 4 / 429 .

[4] . خلاصة التهذيب: 9 ; الغدير: 5 / 292- 293 .

[5] . السنّة لأحمد بن حنبل: 44- 50 .

[6] . التنبيه والرد: 14- 15 .

[7] . طه: 5.

[8] . الرحمن: 27.

[9] . ص: 75.

[10] . المائدة: 64.

[11] . القمر: 14.

[12] . النساء: 166.

[13] . فاطر: 11.

[14] . فصلت: 15.

[15] . النحل: 40.

[16] . الصافات: 96.

[17] . فاطر: 3.

[18] . النحل: 20.

[19] . النحل: 17.

[20] . الطور: 35.

[21] . الأعراف: 178.

[22] . الأعراف: 188.

[23] . المطففين: 15.

[24] . رواه مسلم رقم (2654) في القدر: باب تصريف الله تعالى القلوب كيف شاء. وأحمد: 2 / 168 و 173 من حديث عبد الله بن عمرو. وابن ماجة برقم (3834) في الدعاء: باب دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) . والترمذي رقم (2141) في القدر: باب ما جاء أنّ القلوب بين أصبعي الرحمن من حديث أنس بن مالك. وأحمد: 6 / 302 و 315. والترمذي رقم (3517) في الدعوات باب 89 من حديث أُمّ سلمة. وأحمد: 6 / 251 من حديث عائشة 302، 315.

[25] . أخرجه البخاري: 13 / 335 ، 336 ، 369 و 397 في التوحيد: باب قوله تعالى: ( لما خلقت بيدي ) وباب قوله تعالى: ( إنّ الله يمسك السموات والأرض ) وباب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء. و 8 / 423 وفي التفسير: باب قوله تعالى: ( والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ) . ومسلم رقم (2786) (21) في المنافقين: باب صفة القيامة والجنة والنار. والترمذي رقم (3236) و (3238) في التفسير: باب: « و من سورة الزمر » كلّهم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

[26] . خروجهم من النار بعد أن امتحشوا وحديث الشفاعة، رواه البخاري: 13 / 395- 397 في التوحيد: باب كلام الرب تعالى يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. و 13 / 332 باب قوله تعالى ( لما خلقت بيدي ) . و 13 / 398 باب قوله تعالى: ( وكلّم الله موسى تكليماً ) و 8 / 122 في تفسير سورة البقرة: باب ( علّم آدم الأسماء كلّها ) ومسلم رقم (193) من حديث أنس بن مالك والبخاري: 6 / 264 و 265 ومسلم (194) في الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها من حديث أبي هريرة والبخاري: 11 / 367 و371 من حديث جابر.

[27] . رواه مسلم (758) (170) (172) في صلاة المسافرين: باب الترغيب والدعاء والذكر في آخر الليل. وللحديث صيغ أُخرى رواها البخاري في التهجد: باب الدعاء والصلاة من آخر الليل وفي الدعوات: باب الدعاء نصف الليل وفي التوحيد: باب قوله تعالى: ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) ومسلم (758) (168) (169) وأبو داود رقم (4733) في السنّة. والترمذي رقم (3493) في الدعوات وأحمد: 2 / 258 و 267 و 282 و 419 و 487 و 504 و 521 من حديث أبي هريرة.

[28] . الفجر: 22.

[29] . ق: 16.

[30] . النجم: 8- 9.

[31] . صحيح البخاري: 13 / 87 في الفتن: باب ذكر الدجال، وفي الأنبياء: باب ما ذكر عن بني إسرائيل، و 13 / 89- 91، وفي فضائل المدينة: باب لا يدخل الدجال المدينة. ومسلم (2933) في الفتن: باب ذكر الدجال وصفته ومن معه ولغاية (2947)، و الترمذي (2235) لغاية (2246) في الفتن، وأبو داود (4315) في الملاحم ولغاية (4328) وأحمد في « المسند » : 1 / 4، 7; 2 / 33، 37، 67، 104، 108، 124، 131، 237، 349، 429، 457، 530; 3 / 42; 5 / 32، 38، 43، 47. وابن ماجة من (4071) ولغاية (4081) في الفتن باب فتنة الدجال.

[32] . رواه البخاري: 13 / 399- 406 في التوحيد: باب ما جاء في قوله عزّ وجلّ: ( وكلّم الله موسى تكليماً ) ، وفي الأنبياء: باب صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ومسلم رقم (162) في الإيمان: باب الإسراء برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماوات، والنسائي: 1 / 221 في الصلاة: باب فرض الصلاة، والترمذي رقم (3130) في التفسير: باب و من سورة بني إسرائيل.

[33] . البقرة: 275.

[34] . الناس: 4- 6.

[35] . اختلف العلماء قديماً وحديثاً في أولاد المشركين على أقوال، منها القول الذي ذكره الأشعري أنّهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، و من أبى عذّب. رواه البزار من حديث أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما، ورواه الطبراني من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

قال الحافظ في « الفتح » : 3 / 195 وقد صحّت مسألة الامتحان في حقّ المجنون و من مات في الفترة من طرق صحيحة. ومن الأقوال أنّهم في الجنة. قال النووي: وهو المذهب الصحيح الذي صار إليه المحقّقون لقوله تعالى: ( وَماكُنّا معذّبين حتّى نبعث رَسولاً ) . وانظر « الفتح » : 3 / 195 ـ 196.

[36] . الإبانة: 8- 12، باب في إبانة قول أهل الحق والسنّة; مقالات الإسلاميين: 320- 325 .

[37] . فاطر: 3 .

[38] . الصافات: 95- 96 .

[39] . لاحظ التنبيه والرد: 14- 15 .

[40] . تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة: 2 / 322 .

[41] . تاريخ الطبري: 4 / 304، حوادث سنة 61 .

[42] . تدريب الراوي : 1 / 328 .

قراءة 2864 مرة
المزيد في هذه الفئة: « المرجئة القاديانية »