ولادة الإمام العسكري(ع)

قيم هذا المقال
(2 صوت)

 

نشأة الإمام الحسن بن عليّ العسكري ((عليه السلام))

نسبه الشريف

هو الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((عليهم السلام)) .

وهو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت ((عليهم السلام)) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً .

واُمه اُم ولد يقال لها : حديث([1]). أو سليل([2])، وكانت من العارفات الصالحات ([3]). وذكر سبط بن الجوزي : أنّ اسمها سوسن ([4]).

محل الولادة وتاريخها

ولد الإمام أبو محمّد الحسن العسكري ((عليه السلام)) ـ كما عليه أكثر المؤرخين  ـ في شهر ربيع الآخر سنة (232هـ) من الهجرة النبويّة المشرفة في المدينة المنوّرة .

ويلاحظ هنا اختلاف المؤرخين والرواة في تاريخ ميلاده الشريف من حيث اليوم والشهر والسنة التي ولد فيها .

فمنهم من قال أنّ ولادته كانت سنة (230هـ)([5]) وقال آخرون إنّها كانت سنة (231 هـ )([6]) أو سنة (232هـ)([7]) أو سنة (233هـ)([8]).

وروي أنها كانت في السادس من ربيع الأوّل([9]) أو السادس أو الثامن أو العاشر من ربيع الآخر أو في رمضان([10]).

ولا نرى غرابة في هذا الاختلاف ، فربما يعزى إلى إجراءات كان الإمام الهادي ((عليه السلام)) يقوم بها من أجل المحافظة على حياة الإمام العسكري ((عليه السلام))، أو يكون لغير هذا من أسباب تعزى إلى ملابسات تأريخية خاصة .

ألقابه ((عليه السلام)) وكُناه

اُطلق على الإمامين عليّ بن محمّد والحسن بن عليّ((عليهما السلام)) (العسكريّان) لأنّ المحلة التي كان يسكنها هذان الإمامان ـ في سامراء ـ كانت تسمى عسكر([11]).

و (العسكري) هو اللقب الذي اشتهر به الإمام الحسن بن عليّ ((عليه السلام)) . وله ألقاب اُخرى ، نقلها لنا المحدّثون ، والرواة ، وأهل السير وهي : الرفيق ، الزّكي ، الفاضل ، الخالص ، الأمين ، والأمين على سرّ الله ، النقي ، المرشد الى الله ، الناطق عن الله ، الصادق ، الصامت ، الميمون ، الطاهر ، المؤمن بالله ، وليّ الله ، خزانة الوصيين ، الفقيه ، الرجل ، العالم([12]).

وكل منها له دلالته الخاصّة على مظهر من مظاهر شخصيته وكمال من كمالاته .

وكان يكنّى بابن الرضا . كأبيه وجدّه([13])، وكنيته التي اختص بها هي : (أبو محمّد)([14]).

ملامحـه

وصف أحمد بن عبيد الله بن خاقان ملامح الإمام الحسن العسكري بقوله : إنّه أسمر أعين([15]) حسن القامة ، جميل الوجه ، جيد البدن ، له جلالة وهيبة([16]) . وقيل : إنّه كان بين السمرة والبياض([17]).

النشأة وظروفها

نشأ الإمام أبو محمّد ((عليه السلام)) في بيت الهداية ومركز الإمامة الكُبرى ، ذلك البيت الرفيع الذي أذهب الله عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيراً . وقد وصف الشبراوي هذا البيت الذي ترعرع فيه هذا الإمام العظيم قائلاً :

«فللّه درّ هذا البيت الشريف ، والنسب الخضم المنيف ، وناهيك به من فخار ، وحسبُك فيه من علوّ مقدار ، فهم جميعاً في كرم الأُرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط; متعادلون ، ولسهام المجد مقتسمون ، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً ، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاًّ ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ» ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي ، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم ، والله يرفعه ، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه ، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه»([18]).

لقد ظفر الإمام أبو محمّد بأسمى صور التربية الرفيعة وهو يترعرع في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث ( يسبّح له فيها بالغدو والآصال* رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ...)([19])، ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون هي العليا في الأرض وقدّم القرابين الغالية في سبيل رسالة الله .

وقطع الإمام الزكي شوطاً من حياته مع أبيه الإمام الهادي ((عليه السلام)) لم يفارقه في حلّه وترحاله ، وكان يرى فيه صورة صادقة لمُثل جدّه الرسول الأعظم((صلى الله عليه وآله))، كما كان يرى فيه أبوه أنّه امتداد الرسالة والإمامة فكان يوليه أكبر اهتمامه ، ولقد أشاد الإمام الهادي ((عليه السلام)) بفضل ابنه الحسن العسكري قائلاً :

«أبو محمّد ابني أصحّ آل محمّد((صلى الله عليه وآله)) غريزةً وأوثقهم حجة . وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها»([20]) ، والإمام الهادي بعيد عن المحاباة والإندفاع العاطفي مثله في ذلك آبائه المعصومون .

وقد لازم الإمام أبو محمّد ((عليه السلام)) أباه طيلة عقدين من الزمن وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والإعتداء . وانتقل الإمام العسكري ((عليه السلام)) مع والده إلى سرَّ من رأى (سامراء) حيث كتب المتوكل إليه في الشخوص من المدينة وذلك حينما وُشي بالإمام الهادي ((عليه السلام)) عنده، حيث كتب إليه عبد الله بن محمّد بن داود الهاشمي : «يذكر أنّ قوماً يقولون إنّه الإمام ـ أي عليّ الهادي ((عليه السلام)) ـ فشخص عن المدينة وشخص يحيى بن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد ، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك ، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقّيه ، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته ، فأقام إلى الليل ، ودخل به في الليل ، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سُرَّ من رأى»([21]).

ولقد أسرف المتوكّل العبّاسي في الجور والاعتداء على الإمام عليّ بن محمّد الهادي ((عليه السلام)) ففرض عليه الإقامة الجبرية في سامراء وأحاط داره بالشرطة تحصي عليه أنفاسه وتمنع العلماء والفقهاء وشيعته من الاتصال به، وكان يأمر بتفتيش داره بين حين وآخر ، وحمله إليه بالكيفية التي هو فيها([22]).

وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيت ((عليهم السلام)) أن منع رسميًّا من زيارة قبر الإمام الحسين بن عليّ ((عليهما السلام)) بكربلاء ، وأمر بهدم القبر الشريف([23]) الذي كان مركزاً من مراكز الإشعاع الثوري في أرض الإسلام .

وكانت كل هذه الظروف المريرة هي الظروف التي عاشها الإمام الزكي أبو محمّد العسكري ((عليه السلام)) آلاماً وأحزاناً فعاش تلك الفترة في ظل أبيه وهو مروّع فذابت نفسه أسىً وتقطّعت ألماً وحسرة .

وكان استشهاد والده (سنة 254هـ)([24]) وتقلّد الإمامة بعده وكانت فترة امامته أقصر فترة قضاها إمام من أئمة أهل البيت الأطهار وهم أصح الناس أبداناً وسلامة نفسيّة وجسديّة . قد استشهد وهو بعد لمّا يكمل العقد الثالث من عمره الشريف ، إذ كان استشهاده في سنة (260هـ) فتكون مدة إمامته((عليه السلام)) ست سنين([25]) . وهذه المدة القصيرة تعكس لنا مدى رعب حكّام الدولة العبّاسية منه ومن دوره الفاعل في الأُمّة لذا عاجلوه بعد السجن والتضييق بدس السم له وهو لم يزل شاباً في الثامنة أو التاسعة والعشرين من عمره الميمون([26]).

ولا بدّ من الاشارة إلى أنّ المنقول التاريخي عن الإمام العسكري ((عليه السلام)) في ظل حياة والده الإمام عليّ الهادي ((عليه السلام)) ومواقفهما لا يتعدى الولادة والوفاة والنسب الشريف وحوادث ومواقف يسيرة لا تتناسب ودور الإمام((عليه السلام)) الذي كان يتمثل في حفظ الشريعة والعمل على إبعاد الأُمّة عن الانحراف ومواجهة التحديات التي كانت تواجهها من قبل أعداء الإسلام .

غير أنّ مجموعة من الروايات التي نقلها لنا بعض المحدثين تشير إلى اُمور مهمّة من حياة الإمام العسكري ((عليه السلام)) ، وقد أشار الإمام العسكري نفسه إلى صعوبة ظرفه بقوله((عليه السلام)) : «ما مُنيَ أحد من آبائي بمثل ما مُنيتُ به من شك هذه العصابة فيّ»([27]).

وهذا شاهد آخر على حراجة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالإمامين العسكريين عليّ بن محمّد والحسن بن عليّ ((عليهما السلام)) والتي كانت تحتم إبعاد الإمام العسكري من الأضواء والاتصال بالعامة إلاّ في حدود يسمح الظرف بها، أو تفرضها ضرورة بيان منزلته وإمامته وعلو مكانته وإتمام الحجّة به على الخواص والثقات من أصحابه ، كل ذلك من أجل الحفاظ على حياته من طواغيت بني العباس .

وأنّ ما ورد منه في وفاة أخيه محمّد يعدّ مؤشراً آخر يضاف إلى قول الإمام ((عليه السلام)) ويدل على صعوبة الظرف الذي كان يعيشه الإمامان وحالة الاستعداء التي كانت تفرضها السلطة عليهما ، فعند وفاة محمّد بن عليّ الهادي((عليه السلام)) ـ كما يروي الكليني عن سعد بن عبد الله عن جماعة من بني هاشم منهم الحسن بن الحسين الأفطس ـ حيث قال : «إنّهم حضروا يوم توفي محمّد بن عليّ بن محمّد دار أبي الحسن ((عليه السلام)) يُعزّونه وقد بسط له في صحن داره والناس جلوس حوله فقالوا : قدّرنا أن يكون حوله من آل أبي طالب وبني هاشم وقريش مائة وخمسون رجلاً سوى مواليه وسائر الناس إذ نظر إلى الحسن بن عليّ ((عليه السلام)) قد جاء مشقوق الجيب حتى قام عن يمينه ونحن لا نعرفه فنظر إليه أبو الحسن ((عليه السلام)) بعد ساعة فقال له : «يابني أحدث لله عزّ وجلّ شكراً فقد أحدث فيك أمراً» .

فبكى الحسن ((عليه السلام)) واسترجع وقال : «الحمد لله رب العالمين ، وأنا أسأل الله تمام نعمه لنا فيك وإنا لله وإنا إليه راجعون» .

فسألنا عنه فقيل: هذا الحسن ابنه وقدّرنا له في ذلك الوقت عشرين سنة أو أرجح فيومئذ عرفناه وعلمنا أنّه قد أشار إليه بالإمامة وأقامه مقامه»([28]).

ونلاحظ أنّ سؤال جماعة عن الإمام الحسن العسكري ((عليه السلام)) وفي هذه المناسبة الأليمة التي حضرها أعيان الناس دليل قوي على مدى تكتّم الإمام الهادي على ولده العسكري ((عليهما السلام)) ، خصوصاً وهو قد بلغ العشرين من عمره الشريف .

 

*     *     *

مراحل حياة الإمام الحسن العسكري((عليه السلام))       

تنقسم حياة الإمام العسكري ((عليه السلام)) الى مرحلتين متميزتين :

المرحلة الأُولى : هي الأيام التي قضاها الإمام الحسن العسكري ((عليه السلام)) في ظلال إمامة أبيه الإمام الهادي ((عليه السلام)) والتي تقرب من (22 سنة) حيث تنتهي باستشهاد أبيه سنة (254هـ ) .

ولا نملك صورة تفصيلية عن هذين العقدين من الزمن فيما يخص حياة الإمام الحسن العسكري سوى بضعة حوادث تتلخص في صور من خشيته لله منذ صباه وعلاقته الحميمة بأخويه محمّد والحسين ثم رزءه بأخيه محمّد، ثم زواجه ونصّ الإمام الهادي على إمامته، ثم تجهيزه لأبيه حين وفاته صلوات الله عليه .

ولا بد لنا أن نلمّ بأحداث عصر الإمام الهادي((عليه السلام)) ومواقفه منها  كي نستطيع أن نخرج بصورة واضحة عن الظروف التي أحاطت بالإمام العسكري((عليه السلام)) في المرحلة الثانية من حياته كي يتسنى لنا تقويمها ودراسة نشاطاته ((عليه السلام)) في عصر إمامته الذي لا نجد عصراً  أقصر منه ولا أشد حراجة بالنسبة للإمام نفسه ولشيعته ولأهدافه .

المرحلة الثانية : هي أيام إمامته حتى استشهاده والتي تبدأ من سنة (254هـ) وحتى سنة استشهاده (260هـ) وهي مرحلة حافلة بأحداث مهمة على الرغم من قصرها .

وقد عاصر فيها كُلاًّ من المعتزّ (255 هـ ) والمهتدي (256 هـ ) والمعتمد (279 هـ )

وتبرز مدى أهميتها حينما نتصوّر أهمية مرحلة الغيبة التي كان لا بد للإمام الحسن العسكري((عليه السلام)) أن يقوم بالتمهيدات اللازمة فيها لنقل شيعة أهل البيت ((عليهم السلام)) من مرحلة الحضور الى مرحلة الغيبة التي يُراد من خلالها حفظ الإمام المعصوم وحفظ شيعته وحفظ خطّهم الرسالي من الضياع والإنهيار والاضمحلال، حتّى تتهيّأ الظروف الملائمة لثورة أهل البيت الربّانية على كل صروح الظلم والطغيان وتحقيق جميع أغراض الرسالة الإلهية الخالدة على وجه الأرض من خلال دولة العدالة العالمية لأهل البيت((عليهم السلام)) .

 

*     *     *


انطباعات عن شخصية الإمام الحسن العسكري ((عليه السلام))

احتلّ أهل البيت ((عليهم السلام)) المنزلة الرفيعة في قلوب المسلمين لما تحلّوا به من درجات عالية من العلم والفضل والتقوى والعبادة فضلاً عن النصوص الكثيرة الواردة عن الرسول ((صلى الله عليه وآله)) في الحث على التمسّك بهم والأخذ عنهم .

والقرآن الكريم ـ كما نعلم ـ قد جعل مودّة أهل البيت وموالاتهم أجراً للرسول ((صلى الله عليه وآله)) على رسالته كما قال تعالى : ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )([29]) .

غير أنّ الحكّام والخلفاء الذين تحكّموا في رقاب الأُمّة بالسيف والقهر حاولوا طمس معالمهم وإبعاد الأُمّة عنهم بمختلف الوسائل والطرق ثم توّجوا أعمالهم بقتلهم بالسيف أو بدس السمّ .

ومع كل ما فعله الحكّام المنحرفون عن خطّ الرسول ((صلى الله عليه وآله)) بأهل البيت ((عليهم السلام)) ، لم يمنعهم ذلك السلوك العدائي من النصح والإرشاد للحكّام وحل الكثير من المعضلات التي واجهتها الدولة الإسلامية على إمتداد تأريخها بعد وفاة الرسول ((صلى الله عليه وآله)) وحتى عصر الإمام الحسن العسكري((عليه السلام)) .

وقد حُجبت عنّا الكثير من مواقفهم وسِيَرهم إما خشية من السلطان أو لأنّ من كتب تأريخنا الإسلامي إنّما كتبه بذهنية اُموية ومداد عبّاسي لأنه قد عاش على فتات موائد الحكام المستبدّين .

ونورد هنا جملة من أقوال وشهادات معاصري الإمام ((عليه السلام)) وانطباعاتهم عن شخصيّته النموذجيّة التي فاقت شخصيته جميع من عاصره من رجال وعلماء الأُمّة الإسلامية .

 

1 ـ شهادة المعتمد العبّاسي :

كانت منزلة الإمام معروفة ومشهورة لدى الخاصة والعامة كما كانت معلومة لدى خلفاء عصره .

فقد روي أنّ جعفر بن عليّ الهادي((عليه السلام)) طلب من المعتمد أن ينصّبه للإمامة ويعطيه مقام أخيه الإمام الحسن ((عليه السلام)) بعده فقال له المعتمد : «إعلم أنّ منزلة أخيك لم تكن بنا، إنّما كانت بالله عزّوجل ، ونحن كنا نجتهد في حطِ منزلته والوضع منه ، وكان الله يأبى إلاّ أن يزيده كل يوم رفعة بما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة فإنْ كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا ، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن  فيك ما كان في أخيك ، لم نغنِ عنك في ذلك شيئاً»([30]) .

 

2 ـ شهادة طبيب البلاط العبّاسي :

كان بختيشوع ألمع شخصية طبية في عصر الإمام الحسن العسكري((عليه السلام)) فهو طبيب الاسرة الحاكمة ، وقد احتاج الإمام ذات يوم الى طبيب فطلب من بختيشوع أن يرسل إليه بعض تلامذته ليقوم بذلك ، فاستدعى أحد تلاميذه وأوصاه أن يعالج الإمام ((عليه السلام)) وحدّثه عن سموّ منزلته ومكانته العالية، ثم قال له : «طلب مني ابن الرضا من يفصده فصر إليه ، وهو أعلم في يومنا هذا بمن تحت السماء ، فاحذر أن تعترض عليه في ما يأمرك به»([31]) .

 

3 ـ أحمد بن عبيد الله بن خاقان :

كان عامل الخراج والضياع في كورة قم ، وأبوه عبيدالله بن خاقان أحد أبرز شخصيات البلاط السياسية وكان وزيراً للمعتمد ، وكان أحمد بن عبيدالله أنصب خلق الله وأشدهم عداوة لأهل البيت ((عليهم السلام)) ، فجرى ذكر المقيمين من العلوية ـ أي مَن ينتمي في نسبه إلى عليّ بن أبي طالب((عليه السلام)) ـ بسرّ من رأى ـ سامراء ـ ومذاهبهم وأقدارهم عند السلطان ، فقال أحمد بن عبيد الله : «ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن ابن عليّ بن محمّد بن الرضا((عليهم السلام))،  في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته وبني هاشم وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر وكذلك القوّاد والوزراء وعامّة الناس» .

وينقل أحمد هذا قصة شهدها في مجلس أبيه إذ دخل عليه حجابه فقالوا له : أبو محمّد ابن الرضا ـ أي الإمام العسكري ((عليه السلام)) ـ بالباب فقال بصوت عال : إئذنوا له ، فقال أحمد : فتعجبت ممّا سمعت منهم ، إنّهم جسروا يكنّون رجلاً على أبي بحضرته ولم يكنَّ  عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى ، فدخل رجل أسمر حسن القامة ، جميل الوجه ، جيّد البدن ، حدث السن له جلالة وهيبة، فلما نظر إليه أبي قام فمشى إليه خُطى ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلما دخل عانقه وقبل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه .

وتبيّن الرواية أنّ أحمداً بقي متعجباً متحيراً حتى كان الليل، فلمّا صلّى أبوه وجلس. جاء وجلس بين يديه، فقال : ياأحمد لك حاجة ؟ قلت : نعم يا أبه فإنّ أذنت لي سألتك عنها فقال : قد أذنت لك يابني فقل ما أحببت .

قلت: يا أبه مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل ، وفديته بنفسك وأبويك؟

فقال : يابني ذاك إمام الرافضة ، ذاك الحسن بن عليّ المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة ثمّ قال : يابني لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا ، وإنّ هذا ليستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً([32]).

 

4 ـ كاتب الخليفة المعتمد :

روي عن أبي جعفر أحمد القصير البصري قال : حضرنا عند سيدنا أبي محمّد((عليه السلام)) بالعسكر فدخل عليه خادم من دار السلطان ، جليل فقال له : أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك : كاتبنا أنوش النصراني يريد أن يطهر ابنين له ، وقد سألنا مسألتك أن تركب الى داره وتدعو لابنه بالسلامة والبقاء ، فأحب أن تركب وأن تفعل ذلك فإنا لم نجشّمك هذا العناء إلاّ لأنه قال: نحن نتبرك بدعاء بقايا النبوة والرسالة .

فقال مولانا ((عليه السلام)) : الحمد لله الذي جعل النصارى أعرف بحقنا من المسلمين .

ثم قل : أسرجوا لنا ، فركب حتى وردنا أنوش ، فخرج إليه مكشوف الرأس حافي القدمين ، وحوله القسيسون والشماسة والرهبان ، وعلى صدره الإنجيل ، فتلقاه على باب داره وقال له: ياسيّدنا أتوسل إليك بهذا الكتاب الذي أنت أعرف به منا إلاّ غفرت لي ذنبي في عنائك وحقّ المسيح عيسى بن مريم وما جاء به من الإنجيل من عند الله ، ما سألت أمير المؤمنين مسألتك هذه إلاّ لأنّا وجدناكم في هذا الإنجيل مثل المسيح عيسى بن مريم عند الله...

فقال((عليه السلام)) : «أما ابنك هذا فباق عليك ، وأما الآخر فمأخوذ عنك بعد ثلاثة أيام ـ أي ميت ـ وهذا الباقي يسلم ويحسن إسلامه ويتولانا أهل البيت» .

فقال أنوش : والله ياسيدي إنّ قولك الحقّ ولقد سهل عليَّ موت ابني هذا لما عرّفتني إنّ الآخر يسلم ، ويتولاكم أهل البيت .

فقال له بعض القسيسين : ما لك لا تسلم ؟

فقال أنوش : أنا مسلم ومولانا يعلم ذلك .

فقال مولانا ((عليه السلام)) : «صدق ولولا أن يقول الناس : إنا أخبرناك بوفاة ابنك ولم يكن كما أخبرناك لسألنا الله تعالى بقاءه عليك».

فقال أنوش : لا أريد ياسيدي إلاّ ما تريد .

قال أبو جعفر أحمد القصير ـ راوي الحديث ـ : مات والله ذلك الابن بعد ثلاثة أيام وأسلم الآخر بعد سنة، ولزم الباب معنا الى وفاة سيدنا أبي محمّد((عليه السلام))([33]).

 

5 ـ راهب دير العاقول :

وكان من كبراء رجال النصرانية وأعلمهم بها ، لمّا سمع بكرامات الإمام((عليه السلام)) ورأى ما رآه ، أسلم على يديه وخلع لباس النصرانية ولبس ثياباً بيضاء .

ولما سأله الطبيب بختيشوع عما أزاله عن دينه ، قال : وجدت المسيح وأسلمت على يده ـ يعني بذلك الإمام الحسن العسكري ((عليه السلام)) ـ قال : وجدت المسيح؟! قال: أو نظيره... وهذا نظيره في آياته وبراهينه . ثم انصرف إلى الإمام ولزم خدمته إلى أن مات .([34])

 

6 ـ محمّد بن طلحة الشافعي :

قال عن الإمام الحسن العسكري ((عليه السلام)) :

«فأعلم المنقبة العليا والمزية الكبرى التي خصه الله عزّ وجلّ بها وقلّده فريدها ومنحه تقليدها وجعلها صفة دائمة لا يُبلي الدهر جديدها ولا تنسى الألسن تلاوتها وترديدها : أن المهدي محمّد نسله، المخلوق منه ، وولده المنتسب إليه ، وبضعته المنفصلة عنه»([35]) .

 

7 ـ ابن الصباغ المالكي :

قال : إنّه «سيّد أهل عصره وإمام أهل دهره ، أقواله سديدة وأفعاله حميدة ، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة ، وإن انتظموا عقداً  كان مكانه الواسطة الفريدة ، فارس العلوم الذي  لا يجارى ومبين غوامضها ، فلا يحاول ولا يمارى ، كاشف الحقائق بنظره الصائب مظهر الدقائق بفكره الثاقب المحدث في سره بالأُمور الخفيات الكريم الأصل والنفس والذات تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه ، بمحمد ((صلى الله عليه وآله)) آمين»([36]) .

 

8 ـ العلامة سبط ابن الجوزي :

قال : «هو الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى الرضا بن جعفر ابن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ((عليهم السلام))... وكان عالماً ثقة روى الحديث عن أبيه ، عن جده»([37]).

 

9 ـ العلامة محمّد أبو الهدى أفندي :

قال واصفاً الأئمة((عليهم السلام)) بأنهم قادة الناس الى الحضرة القدسية وأ نّهم أولياؤهم بعد الرسول الأعظم ((صلى الله عليه وآله)) : «قد علم المسلمون في المشرق والمغرب أنّ رؤساء الأولياء وأئمة الأصفياء من بعده ((عليه السلام)) من ذريته وأولاده الطاهرين يتسللون بطناً بعد بطن وجيلاً بعد جيل الى زمننا هذا ، وهم الأولياء الأولياء بلا ريب ، وقادتهم الى الحضرة القدسية المحفوظة من الدنس والعيب ومن في الأولياء ، الصدر الأوّل بعد الطبقة المشرفة بصحبة النبيّ الكريم ((صلى الله عليه وآله)) كالحسن والحسين والسجاد والباقر والكاظم والصادق والجواد والهادي والتقي والنقي العسكري ((عليهم السلام))([38]) .

 

10 ـ العلاّمة الشبراوي الشافعي :

قال عنه : «الحادي عشر من الأئمة الحسن الخالص ويلقب أيضاً بالعسكري... ويكفيه شرفاً أنّ الإمام المهدي المنتظر من أولاده ، فللّه در هذا البيت الشريف والنسب الخضم المنيف وناهيك به من فخار وحسبك فيه من علو مقدار... فيا له من بيت عالي الرتبة سامي المحلة ، فلقد طاول السماك ]السماء ـ خل[ علاً ونبلاً ، وسما على الفرقدين منزلة ومحلاً واستغرق صفات الكمال ، فلا يستثنى فيه بغير ولا بإلاّ ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة ، انتظام اللآلي وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي ، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم والله يرفعه...» ([39]).

الى أقوال كثيرة غيرها في فضله صرح بها الفقهاء والمؤرخون والمحدثون من العامة والخاصة ، ولا عجب في ذلك ولا غرابة فهو فرع الرسول ((صلى الله عليه وآله)) وأبو الإمام المنتظر والحادي عشر من أئمة أهل البيت((عليهم السلام)) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم عدل القرآن كما ورد عن الرسول ((صلى الله عليه وآله)) وهم سفينة النجاة . وقد شهد له أبوه الإمام الهادي((عليه السلام)) بسموّ مقامه ورفعة منزلته بقوله الخالد : « أبو محمّد ابني أنصح آل محمّد غريزة وأوثقهم حجّة وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عُرى الإمامة وأحكامها ، فما كنت سائلي فسله عنه ، فعنده ما يُحتاج إليه »([40]) .

 

*     *     *

 

مظاهر من شخصية الإمام الحسن العسكري ((عليه السلام))

لقد مثّل الإمام أبو محمّد الحسن العسكري ((عليه السلام)) الرسول الأعظم محمّداً((صلى الله عليه وآله)) في مكارم أخلاقه إذ كان على جانب عظيم من سموّ الأخلاق ومعالي الصفات، يقابل بها الصديق والعدو، وكانت هذه الظاهرة من أبرز مكوناته النفسية ، ورثها عن آبائه وجده رسول الله ((صلى الله عليه وآله)) الذي وسع الناس جميعاً بمكارم أخلاقه ، وقد أثّرت مكارم أخلاقه على أعدائه والحاقدين عليه ، فانقلبوا من بغضه الى حبّه والإخلاص له كما سيتبين ذلك من خلال البحث .

فقد نقل المؤرخون أنّ المتوكل الذي عرف بشدّة عدائه لأهل البيت((عليهم السلام))، وحقده على الإمام عليّ ((عليه السلام)) ، أمر بسجن الإمام العسكري ((عليه السلام)) والتشديد عليه إلاّ أنّه لمّا حلّ في الحبس ورأى صاحب الحبس سمو أخلاق الإمام((عليه السلام)) وعظيم هديه وصلاحه انقلب رأساً على عقب ، فكان لا يرفع بصره الى الإمام((عليه السلام)) إجلالاً وتعظيماً له ، ولمّا خرج الإمام من عنده كان أحسن الناس بصيرة، وأحسنهم قولاً فيه([41]).

 

سماحته وكرمه

نقل المؤرخون نماذج من السيرة الكريمة للإمام العسكري ((عليه السلام)) نذكر بعضاً منها :

1 ـ روى الشيخ الكليني والشيخ المفيد عن محمّد بن عليّ بن إبراهيم بن موسى بن جعفر((عليه السلام)): قال : ضاق بنا الأمر فقال لي أبي : امضِ بنا حتى نصير الى هذا الرجل ـ يعني أبا محمّد  ـ فإنه قد وصف عنه سماحة .

فقلت : تعرفه ؟

قال : ما أعرفه ، ولا رأيته قط .

قال : فقصدناه .

فقال لي أبي وهو في طريقه : ما أحوجنا الى أن يأمر لنا بخمسمائة درهم مائتي درهم للكسوة ومائتي درهم للدقيق ، ومائة درهم للنفقة .

وقلت في نفسي ليته أمر لي بثلاثمائة درهم ، مائة اشتري بها حماراً ومائة للنفقة ومائة للكسوة ، فأخرج الى الجبل .

قال ـ أي محمّد بن عليّ ـ فلما وافينا الباب خرج غلامه ، فقال : يدخل عليّ بن إبراهيم ومحمّد ابنه ، فلما دخلنا عليه وسلمنا ، قال لأبي : ياعليّ ما خلفك عنا الى هذا الوقت، قال : ياسيدي : استحييت أن ألقاك على هذه الحال ، فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه فناول أبي صرة، وقال: هذه خمسمائة درهم، مائتان لِلكسوة ، ومائتان للدقيق ، ومائة للنفقة وأعطاني صرة وقال : هذه ثلاثمائة درهم فاجعل مائة في ثمن حمار ، ومائة للكسوة ، ومائة للنفقة ، ولا تخرج الى الجبل ، وصر الى سوراء.

قال : فصار الى سوراء وتزوج بإمرأة منها فدخله اليوم ألفا دينار ومع هذا يقول بالوقف ([42]).

2 ـ وروى إسحاق بن محمّد النخعي قال : حدثني أبو هاشم الجعفري قال : شكوت الى أبي محمّد ((عليه السلام)) ضيق الحبس وكلب القيد([43]) ، فكتب إلي أنت تصلي اليوم الظهر في منزلك ، فاُخرجت وقت الظهر فصليت في منزلي كما قال ، وكنت مضيقاً فأردت أن أطلب منه معونة في الكتاب الذي كتبته فاستحييت ، فلما صرت إلى منزلي وجّه إليّ بمائة دينار ، وكتب إليّ: «اذا كانت لك حاجة ، فلا تستحِ ولا تحتشم واطلبها تأتك على ما تحب إن شاء الله»([44]).

3 ـ وعن إسماعيل بن محمّد بن عليّ بن إسماعيل بن عليّ بن عبد الله بن العباس قال : قعدت لأبي محمّد ((عليه السلام)) على ظهر الطريق ، فلما مرَّ بي شكوت إليه الحاجة وحلفت له أنّ ليس عندي درهم، فما فوقه ، ولا غذاء ولا عشاء قال : فقال ((عليه السلام)) تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مائتي دينار ؟ ! وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطية ، أعطه ياغلام ما معك ، فأعطاني غلامه مائة دينار ثم أقبل عليّ فقال: إنك تحرم الدنانير التي دفنتها أحوج ما تكون إليها ، وصدق ((عليه السلام)) ، وذلك أنّي أنفقت ما وصلني به ، واضطررت ضرورة شديدة الى شيء أنفقه ، وانغلقت عليّ أبواب الرزق ، فنبشت عن الدنانير التي كنت دفنتها فلم أجدها فنظرتُ فإذا ابن عمّ لي قد عرف موضعها فأخذها وهرب ، فما قدرت منها على شيء([45]).

 

زهده وعبادته

عُرف الإمام العسكري ((عليه السلام)) في عصره بكثرة عبادته وتبتّله وانقطاعه الى الله سبحانه واشتهر ذلك بين الخاصة والعامة ، حتى أنّه حينما حبس الإمام((عليه السلام)) في سجن عليّ بن نارمش ـ وهو من أشد الناس نصباً لآل أبي طالب  ـ ما كان من عليّ هذا إلاّ أن وضع خديه له وكان لا يرفع بصره إليه إجلالاً وإعظاماً فخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسن الناس قولاً فيه([46]).

ولما حبسه المعتمد كان يسأل السجّان ـ عليّ بن جرين ـ عن أحوال الإمام ((عليه السلام)) وأخباره في كل وقت فيخبره عليّ بن جرين أنّ الإمام((عليه السلام)) يصوم النهار ويصلي الليل([47]).

عن عليّ بن محمّد، عن محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمّد عن عليّ بن عبدالغفّار([48]) قال: دخل العبّاسيّون على صالح بن وصيف ودخل صالح بن عليّ وغيره من المنحرفين عن هذه الناحية على صالح بن وصيف عندما حبس أبا محمّد(عليهما السلام) .

فقال لهم صالح: وما أصنع قد وكّلت به رجلين من أشرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام الى أمر عظيم، فقلت لهما: ما فيه؟ فقالا: ما تقول في رجل يصوم النهار ويقوم اللّيل كلّه، لا يتكلّم ولا يتشاغل وإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا ويداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا، فلمّا سمعوا ذلك انصرفوا خائبين([49]).

وكان يتسوّر عليه الدار جلاوزة السلطان في جوف الليل فيجدونه في وسط بيته يناجي ربّه سبحانه .

إنّ سلامة الصلة بالله سبحانه وما ظهر على يدي الإمام من معاجز وكرامات تشير الى المنزلة العالية والشأن العظيم للإمام ((عليه السلام)) عند الله الذي اصطفاه لعهده والذي تجلّى في إمامته ((عليه السلام)).

 

علمه ودلائل إمامته

وإليك شذرات من علوم الإمام الحسن العسكري ((عليه السلام)) ودلائل إمامته:

1 ـ عن أبي حمزة نصر الخادم قال : سمعت أبا محمّد ((عليه السلام)) غير مرة يكلّم غلمانه بلغاتهم ، وفيهم ترك ، وروم وصقالبة ، فتعجّبت من ذلك وقلت : هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن ـ أي الإمام الهادي((عليه السلام)) ـ ولا رآه أحد فكيف هذا ؟ ! اُحدّث نفسي بذلك فأقبل عليَّ فقال: «إنّ الله جلّ ذكره أبان  حجّته من ساير خلقه وأعطاه معرفة كل شيء، فهو يعرف اللغات والأسباب والحوادث، ولولا ذلك لم يكن بين الحجّة والمحجوج فرق»([50]).

2 ـ وقال الحسن بن ظريف : اختلج  في صدري مسألتان أردت الكتاب بهما الى أبي محمّد ((عليه السلام)) ، فكتبت أسأله عن القائم اذا قام بم يقضي ؟ وأين مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس ؟ وأردت أن أسأله عن شيء لحُمّى الربع ، فأغفلت ذكر الحُمّى ، فجاء الجواب :

سألتَ عن القائم،  وإذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داود((عليه السلام)) ولا يسأل البينة ، وكنت أردت أن تسأل عن حمّى الرُّبع ، فأنسيت فاكتب في ورقة وعلّقه على المحموم: (يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ)([51]). فكتبت ذلك وعلّقته على المحموم فأفاق وبرىء([52]) .

3 ـ وروى الشيخ المفيد عن أبي القاسم جعفر بن محمّد عن محمّد بن يعقوب عن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى بن جعفر ، قال : كتب أبو محمّد الحسن((عليه السلام)) الى أبي القاسم إسحاق بن جعفر الزبيري قبل موت المعتز بنحو من عشرين يوماً ، إلزم بيتك حتى يحدث الحادث ، فلما قُتل بريحة كتب إليه قد حدث الحادث ، فما تأمرني ؟ فكتب إليه : ليس هذا الحادث ، الحادث الآخر . فكان من المعتز ما كان([53]).

أي أنّ الإمام ((عليه السلام)) ، أشار الى موت المعتز ، فطلب من مواليه أن يلتزموا بالبقاء في بيوتهم حتى ذلك الوقت لظروف خاصة كانت تحيط بالإمام ((عليه السلام)) وبهم من الشدة وطلب السلطان وجلاوزته لهم .

ومن الطبيعي أنّ موت الخليفة يعقبه غالباً اضطراب في الوضع يمكّن معارضيه من التحرك والتنقل بسهولة .

4 ـ ما حدّث به نصراني متطبّب بالري، يقال له: مرعبدا، وقد أتى عليه مائة سنة ونيف، وقال: كنت تلميذ بختيشوع طبيب المتوكل، وكان يصطفيني، فبعث إليه الحسن بن عليّ بن محمّد بن الرضا((عليه السلام)) أن يبعث إليه بأخصّ أصحابه عنده ليفصده([54]) ، فاختارني وقال: قد طلب منّي ابن الرضا من يفصده فَصُرّ إليّ وهو أعلم في يومنا هذا بمن تحت السماء، فاحذر أن تعترض عليه فيما يأمرك به، فمضيت إليه فأمر بي إلى حجرة، وقال: كن هاهنا الى أن أطلبك.

قال: وكان الوقت الذي دخلت إليه فيه عندي جيّداً محموداً للفصد، فدعاني في وقت غير محمود له، وأحضر طشتاً عظيماً ففصدت الأكحل فلم يزل الدم يخرج حتى امتلأ الطشت، ثم قال لي: اقطع، فقطعت، فغسل يده وشدّها، وردني الى الحجرة، وقدّم من الطعام الحار والبارد شيء كثير، وبقيت الى العصر، ثم دعاني، فقال: سرّح، ودعا بذلك الطشت فسرّحت، وخرج الدم الى أن امتلأ الطشت فقال: إقطع، فقطعت، وشدّ يده وردّني الى الحجرة، فبتّ فيها، فلمّا أصبحت وظهرت الشمس دعاني وأحضر ذلك الطشت وقال: سرّح، فسرّحت، فخرج من يده مثل اللبن الحليب الى أن امتلأ الطشت، ثم قال: إقطع، فقطعت، وشدّ يده، وقدّم إليّ تخت ثياب وخمسين دينار، وقال: خذها واعذر وانصرف. فأخذت وقلت: يأمرني السيّد بخدمة، قال: نعم تحسن صحبة من يصحبك من دير العاقول، فصرت الى بختيشوع وقلت له القصة، قال: أجمعت الحكماء على أنّ أكثر ما يكون في بدن الإنسان سبعة أمنان من الدم، وهذا الذي حكيت لو خرج من عين ماء لكان عجباً، وأعجب ما فيه اللبن، ففكّر ساعة، ثم مكثنا ثلاثة أيّام بلياليها نقرأ الكتب على أن نجد لهذه القصّة ذكراً في العالم فلم نجد .

ثم قال: لم يبقَ اليوم في النصرانية أعلم بالطب من راهب بدير العاقول ، فكتب إليه كتاباً يذكر فيه ما جرى ، فخرجت وناديته فأشرف عليّ فقال مَن أنت؟ قلت صاحب بختيشوع . قال : أمَعك كتابه ؟ قلت : نعم فأرخى لي زبيلاً، فجعلت الكتاب فيه فرفعه فقرأ الكتاب ونزل من ساعته فقال : أنت الذي فصدت الرجل ؟ قلت : نعم ، قال : طوبى لأمك ، وركب بغلاً، وسرنا ، فوافينا (سُرّ من رأى) وقد بقي من الليل ثلثه ، قلت : أين تحبّ ؟ دار اُستاذنا أم دار الرجل ـ أي دار الإمام الحسن العسكري ـ ؟ قال : دار الرجل، فصرنا الى بابه قبل الأذان الأوّل ففتح الباب وخرج إلينا خادم أسود وقال : أيكما راهب دير العاقول ؟ فقال : أنا جعلت فداك، فقال إنزل ، وقال لي الخادم: احتفظ بالبغلين، وأخذ بيده ودخلا فأقمت الى أن أصبحنا وارتفع النهار ثم خرج الراهب ، وقد رمى بثياب الرهبانية ولبس ثياباً بيضاً وأسلم فقال : خذني الآن الى دار اُستاذك ، فصرنا الى باب بختيشوع ، فلما رآه بادر يعدو إليه ثم قال، ما الذي أزالك عن دينك ؟

قال : وجدت المسيح وأسلمت على يده ، قال : وجدت المسيح ؟ ! قال : أو نظيره ، فإن هذه الفصدة لم يفعلها في العالم إلاّ المسيح وهذا نظيره في آياته وبراهينه ، ثم انصرف إليه ولزم خدمته إلى أن مات([55]).

5 ـ وعن أبي عليّ المطهري: إنّه كتب إليه من القادسية يعلمه انصراف الناس عن المضي إلى الحجّ وإنّه يخاف العطش إن مضى ، فكتب ((عليه السلام)) : إمضوا فلا خوف عليكم إن شاء الله، فمضى من بقي سالمين ولم يجدوا عطشاً([56])والحمدلله رب العالمين.

 

الهوامش:

*  هذا المقال مستلّ من موسوعة أعلام الهداية(13)  للمجتمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام .
([1]) الكافي: 1/503، الإرشاد: 1/313، إعلام الورى: 2/131.
([2]) عيون المعجزات: 123، إثبات الوصيّة: 244.
([3]) عيون المعجزات: 123.
([4]) تذكرة الخواص 2/501.
([5]) أورده في بحار الأنوار: 50/235، نقلاً عن الإرشاد لكن لم نعثر على ذلك فإن الموجود في الإرشاد هو سنة (232 هـ ) كما سيأتي.
([6]) انظر تاريخ مواليد الأئمة لابن الخشاب: 43، المنتظم لابن الجوزي: 5/22، وفيات الأعيان: 2/94.
([7]) انظر الكافي: 1/503، الإرشاد: 2/313، إعلام الورى: 2/129.
([8]) انظر الهداية الكبرى: 327، دلائل الإمامة: 423.
([9]) انظر وفيات الأعيان: 2/94، الأئمة الإثنا عشر: 113.
([10]) انظر في ذلك كل من: الكافي: 1/503، مصباح المتهجد: 767، إعلام الورى: 2/129، وفيات الأعيان: 2/94، وراجع أيضاً بحار الأنوار: 50/235 ـ 238.
([11]) علل الشرايع: 1/241، وعنه في بحار الأنوار: 50/235.
([12]) انظر كوكبة من ألقابه الكريمة في دلائل الإمامة: 424، إعلام الورى: 2/129، مناقب آل أبي طالب: 3/523، الهداية الكبرى: 325، الفصول المهمّة: 2/1077، مطالب السؤول: 2/148، هذا وقد وردت في أسانيد الروايات بعض الألقاب أيضاً، فقد يطلق عليه الفقيه أو الرجل كما صرّح الأردبيلي في جامع الرواة: 2/462 كما أنّه وردت ألقاب في الأدعية والزيارات أيضاً، فورد في مهج الدعوات (بالحسن بن عليّ الطاهر الزكي خزانة الوصيين) انظر مهج الدعوات: 399، وورد في المزار: 247 (السلام عليك يا أبا محمّد الحسن الميمون خزانة الوصيين)، وهكذا فالمتتبع للآثار والأخبار يحصل على ألقاب عديدة جداً للإمام الحسن العسكري((عليه السلام))، وراجع للإطلاع حياة الإمام العسكري للطبسي: 23 ـ 28.
([13]) انظر إعلام الورى: 2/132، مناقب آل أبي طالب: 3/523.
([14]) كمال الدين وتمام النعمة: 307، مناقب آل أبي طالب: 3/523، مطالب السؤول: 2/148، الفصول المهمّة: 2/1080.
([15]) الأعين: الواسع العين.
([16]) انظر الكافي: 1/503، كمال الدين وتمام النعمة: 40 ـ 41، الإرشاد: 2/321.
([17]) الفصول المهمّة: 2/1081، وعنه في بحار الأنوار: 50/238.
([18]) الإتحاف بحب الأشراف: 366 ـ 367.
([19]) النور (24): 36 ـ 37 .
([20])  الكافي: 1/327 ـ 328، الإرشاد: 2/319، إعلام الورى: 2/135 ـ 136 واللفظ للثاني .
([21]) تاريخ اليعقوبي : 2 / 484، وانظر الإرشاد: 2/310 ـ 311، إعلام الورى: 2/125.
([22]) انظر وفيّات الأعيان: 3/272، الوافي بالوفيات: 22/48.
([23]) انظر تاريخ الطبري: 7/365، الكامل في التاريخ: 7/55، مقاتل الطالبيين: 395.
([24]) انظر الإرشاد: 2/297، إعلام الورى: 2/109.
([25]) الإرشاد : 2 / 313، إعلام الورى: 2/129.
([26]) مناقب آل أبي طالب: 3/523 ـ 524.
([27]) كمال الدين وتمام النعمة: 222، تحف العقول: 487، وعنه في بحار الأنوار: 75/372، واللفظ للثاني.
([28]) الكافي: 1/326 ـ 327، الإرشاد: 2/317 ـ 318، إعلام الورى: 2/135، واللفظ للأوّل.
([29]) الشورى (42) : 23 .
([30]) كمال الدين وتمام النعمة: 479، الخرائج والجرائح، للقطب الراوندي: 3/1109، وعن كمال الدين في بحار الأنوار: 52/50.
([31]) الخرائج والجرائح: 1 / 422، وعنه في فرج المهموم لابن طاووس: 237 ـ 238، وعنه أيضاً في بحا الأنوار 50/261 .
([32]) الكافي: 1/503 ـ 504، وكمال الدين وتمام النعمة : 1 / 41 ـ 42، الإرشاد: 2/321 ـ 323، واللفظ للأوّل.
([33]) الهداية الكبرى للخصيبي: 334 ـ 335، وعنه في مدينة المعاجز: 7/671 ـ 672، واللفظ للثاني.
([34]) انظر الخرائج والجرائح: 1/422 ـ 424 وعنه في فرج المهموم لابن طاووس: 237 ـ 239، وعنه أيضاً في بحار الأنوار: 50/260 ـ 261 .
([35]) مطالب السؤول: 2/148 .
([36]) الفصول المهمّة: 2/1094.
([37]) تذكرة الخواص: 2/501 ـ 503 .
([38]) شرح إحقاق الحقّ : 19 / 621 عن كتاب ضوء الشمس ـ لأبي الهدى أفندي : 1 / 119 .
([39]) الإتحاف بحب الاشراف : 366 .
([40]) الكافي : 1 / 327، 328، الإرشاد: 2/319، إعلام الورى: 2/135 ـ 136.
([41]) انظرالكافي: 1/508، الإرشاد: 2/329 ـ 330 ، إعلام الورى: 2/150 .
([42]) الكافي: 1/506، الإرشاد: 2 / 326 ـ 327 وعنه في كشف الغمة: 3 / 206، واللفظ للإرشاد.
([43]) كلب القيد : شدته وضيقه .
([44]) الكافي: 1/508، الإرشاد: 2/330، إعلام الورى: 2/140 وعن الإرشاد في كشف الغمة: 3/208، واللفظ للإرشاد.
([45]) الكافي: 1/509، الإرشاد: 2/332، إعلام الورى: 2/137 وعن الإرشاد في كشف الغمة: 3/209.، واللفظ للإرشاد، وفي بقية المصادر التي ذكرناها أنّ الذي سرق الأموال هو ابنه وليس ابن عمّه.
([46]) انظر الكافي : 1 / 508، الإرشاد: 2/329 ـ 330، إعلام الورى: 2/150.
([47]) انظر مهج الدعوات : 330، عيون المعجزات: 125، وعن المهج في بحار الأنوار: 50/314.
([48]) في الإرشاد أسند الرواية الى محمّد بن إسماعيل ولم يذكر عليّ بن عبدالغفار.
([49]) الكافي: 1/512، الإرشاد: 2/334، إعلام الورى: 2/150 ـ 151، واللفظ للأوّل.
([50]) انظر الكافي: 1/509، الإرشاد: 2/330 ـ 331،  إعلام الورى: 2/145 وعن الإرشاد في كشف الغمة: 3/208، واللفظ للإرشاد.
([51]) الأنبياء (21): 69 .
([52]) الكافي: 1/509، الإرشاد: 2/331، إعلام الورى: 2/145 وعن الإرشاد في كشف الغمة: 3/208 واللفظ للإرشاد، وحُمّى الرّبع: هو أن يأخذ يوماً ويترك يومين ويعود في اليوم الرابع، والآية من سورة الأنبياء: 69.
([53]) الكافي: 1/506، الإرشاد: 2/325 وعنه في كشف الغمة: 3/205، وعنه أيضاً في بحار الأنوار: 5/277 ـ 278، واللفظ للأخير، وقد اختلفت المصادر في اسم الذي قُتل ; فبعضها ذكر بريحة وبعضها ترنجة، والأمر سهل.
([54]) الفصد: شقّ العرق، لسان العرب، ابن منظور: 3/336.
([55]) الخرائج والجرايح : 1 / 422 ـ 424، وعنه في فرج المهموم: 237 ـ 239، وعنه أيضاً في بحار الأنوار: 5/ 260 ـ 262، وأصل القصة في الكافي: 1/512.
([56]) الكافي: 1/507 ـ 508، الإرشاد: 2/339، مناقب آل أبي طالب: 3/531، واللفظ للثاني.

قراءة 9947 مرة