الإمام علي بن الحسين(ع) ، الملقّب بزين العابدين والسجاد، هو الإمام الرابع من الأئمة الاثني عشر المعصومين من عترة النبي محمد(ص).
هو الإمام الزاهد العابد زين العابدين وسيد الساجدين، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وأمه شاه زنان بنت يزدجرد، وقيل شهربانو، وقيل شهربانويه بنت كسرى، وقيل: اسمها غزالة… إلى غير ذلك مما ورد في أسمائها.
وروي عنه أنه كان يقول: أنا ابن الخيرتين([1]).
وقال الشاعر في مدحه (ع):
وإنّ وليداً بين كسرى وهاشم |
|
لأكرم من نيطت عليه التمائم |
كان مولده (ع) بالمدينة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة، فقضى مع جده أمير المؤمنين سنتين، ومع عمه الحسن اثني عشرة سنة، ومع أبيه ثلاثاً وعشرين سنة، وبعد أبيه أربعاً وثلاثين سنة، وقيل أربعين سنة([2]).
لقد كانت فاجعة مقتل أبيه واخوته وبني عمومته التي شاهدها أمام عينيه في واقعة الطف وتجرّع مرارتها، وهو مريض يعاني من وطأة المرض خلال أحداث الطف الفظيعة، تنغّص عليه حياته كلها فتلك الصور لم تفارق مخيلته، ومع هذا نهض بمهام الإمامة ونشر الأحكام والأخلاق وتفقد الفقراء والمساكين، وكان (ع) رأس مدرسة الفقه والحديث التي كانت تضم الموالي والتابعين.
وقد أحصى الطوسي في (رجاله)، أكثر من مائة وستين من التابعين والموالي ممن كان ينهل منه، ويروون عنه في مختلف المواضيع، وعدَّ منهم سعيد بن المسيب وابن جبير، وجبير بن مطعم، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وجابر بن عبد الله الأنصاري، ويحيى بن أم الطويل، وأمثال هذه الطبقة من أعلام التابعين.
وجاء في (طبقات ابن سعد): أن علي بن الحسين(ع) كان ثقة مؤموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً ورعاً.
وقال المبرِّد في (الكامل): أن سعيد بن المسيب سئل عن السجاد، فقال: هذا الذي لا يسع مسلماً أن يجهله..
وقال الراغب الأصفهاني في (محاضراته)، وابن الجوزي في (مناقبه): أن عمر بن عبد العزيز قال وقد قام علي بن الحسين(ع) من مجلسه: من أشرف الناس؟
قال المتزلفون ممن حضر عنده: أنت يا أمير المؤمنين.
فقال عمر بن عبد العزيز: كلا، أشرف الناس هو علي بن الحسين(ع) ، ذلك الذي من أحب الناس أن يكونوا منه، ولم يحب أن يكون من أحد.
وروى الشيخ الصدوق في كتابه (العلل) بسنده إلى سفيان بن عيينة أنه قال: قلت لمحمد بن شهاب الزهري: لقيتَ علي بن الحسين؟
قال: نعم لقيته وما لقيت أحداً أفضل منه، والله وما علمت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟
فقال: لأني لم أر أحداً وإن كان يحبه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً، وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه.
وقال المفيد في (ارشاده): ثبتت الإمامة للسجاد من وجوه:
«أحدهما أنه كان أفضل خلق الله بعد أبيه علماً وعملاً، والإمامة للأفضل دون المفضول بدلائل العقول.
ومنها: أنه كان أولى بأبيه الحسين(ع) .
ومنها: وجوب الإمامة عقلاً في كل زمان.
ومنها: ثبوت الإمامة في العترة خاصة.
ومنها: نص رسول الله(ص) بالإمامة عليه، فيما روى من حديث اللوح([3])، الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي(ص)، ورواه محمد بن علي الباقر(ع) ، ونص جده أمير المؤمنين عليه، ووصية أبيه الحسين(ع) إليه، وإيداعه أم سلمةما قبضه عليّ من بعده»([4]).
وذكر المفيد في (إرشاده) القصيدة المشهورة التي مدح فيها السجاد من قبل الشاعر المعروف الفرزدق، بعد أن رأى أن هشام بن عبد الملك يظهر له تجاهلاً([5]) وهو يرى تداعي الناس سماطين لهيبة الإمام وهو يسعى لاستلام الحجر الأسود في ركن الكعبة:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته |
|
والبيت يعرفه والحلُّ والحرمُ |
«وكانت وفاته (ع) في يوم السبت الخامس والعشرين من محرم كما هو المشهور وقيل الثامن عشر من شهر محرم الحرام، وقيل في الثاني والعشرين منه، وأما السنة، فقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقيل: أربع وتسعين، وقيل: خمس وتسعين.
وعمره الشريف سبع وخمسون سنة كأبيه (ع) ، وقيل تسع وخمسون وأربعة أشهر وأيام، وقيل: أربع وخمسون، وقيل: ثمان وخمسون، وقيل إنه مات في ملك هشام بن عبد الملك وأنه هو الذي سمّه، ودفن مع عمه الحسن في مقبرة البقيع»([6]).
الإمام السجاد(ع) والدعاء:
تمتد الأدعية بأنواعها وأساليبها المختلفة للتناسب مع جميع شؤون الإنسان وأبعاده، فهي تستنزل دموع حيائنا في لحظات الإنابة إلى الله الغفور الرحيم، وتجسّد تضرعنا إليه، وترفع أيدينا الملتمسة إلى مالك الوجود، ونعفّر جباهنا بالتراب استكانة له، وتبصرنا عجزنا وضعفنا وفقرنا وذلتنا تجاهه جلت عظمته، وتكشف لنا قدرته المطلقة، وحكمته البالغة ورحمته الواسعة.
فالصحيفة السجادية، ودعاء كميل، ودعاء عرفة، ودعاء أبي حمزة الثمالي، ودعاء مكارم الأخلاق، ورسالة الحقوق، هي تجليات من بحار هذه الأنوار.
فهذا الإمام السجاد(ع) في دروسه الرائعة التي بثّها في الدعاء التي تتضمنه صحيفته، أنها مناهج قويمة تصلح البشر في سرّهم وعلانيتهم، وفي سكونهم وحركاتهم، في أبطى البواطن من ميولهم وعواطفهم وخلجاتهم وانفعالاتهم، وفي أظهر الظواهر من أخلاقهم ومظاهرهم وأعمالهم وأقوالهم.
ففي الصحيفة ورسالة الحقوق ركائز تربوية ومناهج تثقيفية وطرق تعليمية.
إنّ أدعية الإمام السجاد(ع) ورسالة الحقوق، تحمل رسالة جليلة قويمة تجري مع الفطرة في بساطتها ومع البرهان في قوته ومع حقائق الكون في ثباتها واضطرادها.
أجل.. ماذا تمثل هذه الصحيفة الشريفة بالنسبة للمسلمين؟ وماذا تقدم لهم من إضاءات في طريق الهداية والرشاد؟
إنّ هذه الصحيفة هي من إنشاء وإملاء إمام العارفين وسيد الساجدين وزين العابدين علي بن الحسين(ع) ، وتعد هذه الشخصية الإسلامية الكبرى واحدة من بين أشهر وأهمّ شخصيات الإسلام الذين حملوا لواء الدعوة والتبليغ وعانوا آلام الطريق الصعب وعاشوا هموم الرسالة، فكانت أيامهم كلها لله، وحياتهم في خدمة الدين المبارك، ووظفوا كل طاقاتهم وإمكاناتهم وما يملكون من مواهب واستعدادات، لغرض هداية الناس ودعوتهم إلى الالتزام بمبادئ الرسالة الحقة من أجل إسعادهم في ظل ما ينتجه الالتزام والاهتداء بذلك من عدل وإنصاف وأمان وسعادة.
عرض موجز لرسالة الحقوق:
ترجع أهم حقوق الإنسان العامة إلى حقين هما: المساواة والحرية، وقد ادعت الأمم الغربية، أنّ العالم الإنساني مدين لها بتقرير هذين الحقين.
والحق أن الإسلام هو أول من قرر المبادئ الخاصة بحقوق الإنسان في أكمل صوره وأوسع نطاق. وأن الأمم الإسلامية في عهد الرسول(ص) والخلفاء من بعده كانت أسبق الأمم في السير عليها.
فهذه رسالة الحقوق، القانون الخالد، الذي أوصى به الإمام زين العابدين(ع) تتضمن حقائق كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ومن حقائق الوجود والإنسانية.
فلنمرّ مروراً سريعاً، على رسالة الحقوق للإمام زين العابدين(ع) بديباجتها النظرية البليغة التي لم تفصل بين السماء والأرض كما تفعل إعلانات حقوق الإنسان العالمية اليوم، بل راحت تؤكّد على تغيير المحتوى الداخلي للإنسان الذي به ومنه تنطلق إرادات التغيير نحو عالم أفضل وأكمل.
يقول الإمام زين العابدين(ع) في ديباجته لرسالة الحقوق هذه:
«اعلم رحمك الله، إن لله عليك حقوقاً محيطة بك، في كل حركة تحركتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، وآلة تصرفت بها، بعضها أكبـر من بعض. وأكبـر حقوق الله عليك، ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق، ومنه تفرع، ثم أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك، على اختلاف جوارحك، فجعل لبصرك عليك حقاً، ولسمعك عليك حقاً، وللسانك عليك حقاً، وليدك عليك حقاً، ولرجلك عليك حقاً، ولبطنك عليك حقاً، ولفرجك عليك حقاً، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون الأفعال.
ثم جعل عز وجل لأفعالك عليك حقوقاً، فجعل لصلاتك عليك حقاً، ولصومك عليك حقاً، ولصدقتك عليك حقاً، ولهديك عليك حقاً، ولأفعالك عليك حقاً، ثم تخرج الحقوق منك، إلى غير ذلك من ذوي الحقوق الواجبة عليك، وأوجبها عليك حقاً أئمتك، ثم حقوق رعيتك، ثم حقوق رحمك، فهذه حقوق يتشعب منها حقوق، فحقوق أئمتك ثلاثة أوجبها عليك: حق سائسك بالسلطان ثم سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك، وكل سائس أمام، وحقوق رعيتك ثلاثة: أوجبها عليك حق رعيتك بالسلطان، ثم حق رعيتك بالعلم، فإن الجاهل رعية العالم، وحق رعيتك بالملك من الأزواج، وما ملكت من الإيمان، وحقوق رحمك متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة، فأوجبها عليك حق أمك، ثم حق أبيك، ثم حق ولدك، ثم حق أخيك ثم الأقرب فالأقرب، والأول فالأول.
ثم حق مولاك، المنعم عليك، ثم حق مولاك الجاري نعمته عليك، ثم حق ذوي المعروف لديك، ثم حق مؤذنك بالصلاة، ثم حق إمامك في صلاتك، ثم حق جليسك ثم حق جارك، ثم حق صاحبك، ثم حق شريكك، ثم حق مالك، ثم حق غريمك الذي تطالبه، ثم حق غريمك الذي يطالبك، ثم حق خليطك، ثم حق خصمك المدعي عليك، ثم حق خصمك الذي تدعي عليه، ثم حق مستشيرك، ثم حق المشير عليك، ثم حق مستنصحك ثم حق الناصح لك، ثم حق من هو أكبـر منك، ثم حق من هو أصغر منك، ثم حق سائلك، ثم حق من سألته، ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل أو مسرة بذلك بقول أو فعل، عن تعمد منه أو غير تعمد منه، ثم حق أهل ملتك عامة، ثم حق أهل الذمة، ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال، وتصرف الأسباب.
فطوبى لمن أعانه الله على قضاء ما أوجب عليه من حقوقه، ووفقه وسدده...»([7]).
لقد احتوت هذه الفقرات المشرقة من كلام الإمام (ع) على عرض موجز للحقوق الأصيلة التي قنّنها (ع) للإنسان المسلم.
شهادته:
لقد كان وجود الإمام مقلقاً لحكومة الوليد بن عبد الملك، خصوصاً ما يراه من إقبال الناس، بل اندفاعهم إليه، مما أدى إلى أن يوسوس له شيطانه فدسّ إليه السم فقضى شهيداً محتسباً صابراً في 25 محرم سنة 95 للهجرة.
فسلام على الإمام زين العابدين يوم ولد، سلام عليه يوم أدى رسالته، وسلام عليه يوم استشهد، وسلام عليه يوم يبعث حياً.
([3]) الإرشاد للمفيد 2: 138- 139.
([4]) المصدر السابق، وكذلك إكمال الدين: 311، وعيون أخبار الرضا(ع) 1: 40، وغيبة النعماني: 62، وأمالي الطوسي 1: 297، وغيبة الطوسي: 143، والكافي 1: 242.
([7]) نقلاً من كتاب (الصحيفة السجادية الكاملة)، تقديم الأستاذ علي أنصاريان، ط المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية بدمشق، سورية، 1419هـ.