هل يتغير الحكم الشرعي تبعاً لتغير الزمن؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)
هل يتغير الحكم الشرعي تبعاً لتغير الزمن؟


 
ولما كان هذا الفصل من بحثنا يمتاز بشيء من الدقة فإنّنا لا نؤكد عليه بل نقول إن الحكم قد تغيّر من حيث الثبوت بسبب تغير موضوعه المرتبط بالظرف الزمني فحين يتغير الظرف الزمني يتغيّر الحكم أيضاً، وهذا التغير في الحكم تغير في صفة الثبوت، ولدينا مثل هذه الأحكام في الشرائع السماوية المختلفة؛ فقد كانت هناك أحكام في شريعة سيّدنا نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (عليهم السلام) وشريعة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) قد نسخت، ففي الشريعة الإسلامية مثلاً كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم نحو بيت المقدس في البداية ولكن هذا الحكم نسخ فيما بعد وصدر الأمر إليهم بأن يتوجهوا في صلاتهم نحو الكعبة، هذا الحكم القطعي كان سائداّ في الإسلام ثم نسخ، ولكن هذا الحكم في الواقع هكذا:

إن الإرادة الإلهية انصبت من البداية على أن يتوجه الناس في صلاتهم نحو بيت المقدس حتى الزمن الفلاني ثم يتوجهوا بعد ذلك نحو الكعبة، ولكن لما كان ذلك الحكم هو الذي قيل لهم في البداية لذلك يعد تغييره الآن نسخاً.

على أية حال فإن هذا النوع من التغير في الحكم معقول وأمر واقع، أي أنه ممكن الحصول وحاصل أيضاً، وهذا يحدث حين يكون موضوع الحكم ذا ظروف متغيرة تماماً.

فلو كان لموضوع الحكم ظروف خاصة تتغير خاصة بتغير الأزمنة والأمكنة، فإن الحكم يتغير أيضاً تبعاً للظرف الذي يحصل للموضوع، وهنا أيضاً ليس الحكم تابعاً لتغير الزمان والمكان في الحقيقة، فالزمان والمكان دليلان على تغير الموضوع وإلا فليست لهما خصوصية لكي يصبحا مصدرين لتغير الحكم، واختلاف الأزمنة والأمكنة دليل على حدوث تغيير في موضوع الحكم يتضح بالزمان، وأن هناك مصلحة مستمرة حتى هذا الزمان، إذاً فأساس التغير في موضوع الحكم هو (المصلحة المعينة) وليس الزمان، وكذلك توجد مصلحة في مكان معين ولا توجد في مكان آخر. فالظرف الحقيقي لموضوع الحكم ليس الزمان والمكان بل وجود مصلحة معينة، ولكننا نقول تسامحاً إن هذا التغير حدث لتغير الزمان والمكان، والذين يدققون في العبارات يراعون هذه الأمور أيضاً، ولكن لما كان الناس لا يتنبّهون إلى هذه الدقائق فلا ضير في أن يقال وفقاً للمحاورات العرفية: إن لعامل الزمان أو عامل المكان تأثيراً في تغيير موضوع الحكم، وبتعبير آخر يعدّ الزمان والمكان من العوامل التي تقرر نوع الحكم.

وإذا قيل ذلك فهو من أجل تسهيل فهم الفكرة المقصودة وإلا فليس للزمان والمكان خصوصية بذاتهما لتكون منشأً لتغيير الحكم، فمنشأ تغيير الحكم ومنشأ الاختلاف هو (تعدد المصالح والمفاسد) في الأزمنة المختلفة أو في الأمكنة المتعددة.

على أية حال لما كان هذا الموضوع يدور حوله اليوم حوار كثير ويعدّ من القضايا الحيّة لمجتمعنا، فحري بنا أن نزيده توضيحاً، ونخرج بذلك من الأسلوب الإجمالي الذي اتبعناه في شرحه حتى الآن. ولتوضيح هذا الموضوع نبدأ بعرض مقدمة لا تخلو من الدقة، ومع أننا نخاطب هنا عامة الناس إلا أن طبيعة البحث تقتضي منا أن نطرح المواضيع بشيء من الدقة تزيد قليلاً عن مستوى المعلومات العامة.

وسوف نسعى بالطبع لشرح هذه المواضيع بلغة مبسّطة.

تغير الحكم تبعاً للظرف الموضوعي:
أحياناً يكون موضوع الحكم قضية موضوعية محددة، فنجد أن الله تعالى وضع قانوناً حول شيء موضوعي محدد وأنزل بشأنه حكماً وأوضحه بواسطة النبي والإمام، فنجد مثلاً حكماً حول ماء المطر.

فالمطر أمر موضوعي محدد وكل الناس يعرفون على مر الزمان ماذا يعني ماء المطر وبالإمكان أن نريهم إياه ونصفه لهم وهو معروف تماماً، وحقيقة ماء المطر لا تتغير لأنها محددة وقابلة للوصف وقابلة لمعرفتها من قبل عامة الناس، وهناك حكم بشأنها يقول: (إن ماء المطر طاهر).

ولنضرب مثالاً آخر فنقول: هناك بعض الأعيان النجسة أو بعض الحيوانات النجسة نجاسة عينية مثل الكلب والخنزير، والله تعالى ذكر حكماً حول هذين الكائنين الموضوعين اللذين يمثّلان حقيقة محددة ومعروفة، وذلك الحكم هو: (إن لحم الكلب والخنزير حرام ولعابهما نجس) وتبرز بعد حرمة لحمهما أحكام اجتماعية أيضاً، حيث يحرم التعامل بهما، كذلك يعتبر إتلاف هذين الحيوانين مما لا يوجب الضمان إن لم تأت منهما منفعة محلّلة أو يتوقع منهما منفعة محللة، لأنهما لا يعدّان من الأموال، إضافة إلى عشرات القضايا الاجتماعية والحقوقية الأخرى التي تترتب على ذلك. كل هذه الأحكام تخص أمراً خارجياً محدداً، فالموضوع والحكم ثابتان هنا، أي لا يحدث أي تغيير على مر الزمن لا على حقيقة هذين (أي الكلب والخنزير) ولا على حكمهما، فخنزير اليوم هو خنزير ما قبل ألف سنة نفسه، ولحمه كان حراماً قبل ألف سنة وهو حرام الآن أيضاً، وفي ذلك الزمان كان نجساً وهو اليوم نجس أيضاً، والتعامل به كان باطلاً في ذلك الزمان وهو اليوم باطل أيضاً.

لكن الأحكام الشرعية تتعلق بالموضوعات مع ظرف خاص أحياناً، أي لا يكون شيء موضوعي محدد موضوعاً للحكم لوحده بل يرتبط بظرف معين أيضاً، ومثال ذلك ماء العنب حين يغلي فلو أصبح مسكراً فهو نجس والتعامل به باطل وشربه حرام أيضاً والذي يشربه ينبغي أن يقام عليه الحد... وهكذا نلاحظ أن هذا الحكم تترتب عليه أحكام عبادية وحقوقية ومعاملاتية وجزائية مختلفة.

كل هذه الأحكام تأتي بعد ثبوت النجاسة، والموضوع هو ماء العنب والكل يعرفه لكنه يترافق مع ظرف معين وهو (الإسكار)، فلو زالت صفة الإسكار منه فسوف ينطبق عليه حكم آخر. ومثال ذلك لو كان سائل ما في زمن ما مسكراً ثم تحول إلى سائل آخر، أي حصل فيه تحوّل كـ (تحوّل الخمر خلاًّ) ففي هذه الحال يتغير حكمه، لأن حكم الحرمة لم يكن حكماً مطلقاً لهذا السائل بل كان ينطبق عليه مع ظرف معين، فما دام الظرف باقياً فحكمه باق، فإن تغير ظرفه فسوف يتغير حكمه أيضاً.

الظروف الموضوعية والتعاقدية:
حين يكون الموضوع مقيداً بظرف معين فهو على قسمين: فأحياناً يكون الظرف المخصص للموضوع ظرفاً غير موضوعي بل تعاقدي.

فالموضوع شيء موضوعي لكنه ينطبق عليه حكم شرعي خاص مع ظرف ليست له صفة موضوعية خارجية، ففي المثال الذي ذكرناه بقولنا: (إنماء العنب لو غلي فأصبح مسكراً فهو نجس) يعد (الإسكار) صفة موضوعية أي أن بالإمكان أن نجرب (إسكار ماء العنب)، فهذه صفة موضوعية في الخارج ذات أثر طبيعي وقابلة للتجربة أيضاً. لكن ظروف موضوع معين تكون أحياناً ظروفاً تعاقدية لا يمكن رؤيتها وتجربتها، بل يتعاقدون عليها عقلياً في ظرف خاص، فيقولون مثلاً:
(إن الشيء الطاهر بحد ذاته ويمكن أن ينتفع به منفعة محلّلة، يمكن تملّكه بأسباب معينة) ونحن لسنا الآن في معرض البحث حول أسباب الملكية.

فيقال إن هذا الشيء المتصف بصفة المملوكية لهذا الشخص له حكم خاص، أي إنه يحمل عنوان (المملوك) ولا يحق للآخرين التصرف به دون إذن المالك، فحرمة التصرف في هذا الشيء الخارجي تخص هذا الشيء فقط ولكن لا بشكل مطلق بل حين يكون المالك شخص آخر، أما لو لم يكن له مالك فيحق للآخرين التصرف فيه أيضا. وهكذا فحكم حرمة التصرف في ظرف معين تخص هذا الشيء، لكن ذلك الظرف ليس صفة موضوعية كصفة الإسكار التي يكتسبها سائل معين، بل هو ظرف تعاقدي، بمعنى أن العقلاء تعاقدوا في المجتمع على أن هذا الشيء للشخص الفلاني لأنه ورثه عن أبيه، أو أنجز عليه أعمالاً أو لأي أمر آخر يكون سبباً في الملكية، فهذه الأمور تؤدي إلى أن يكتسب هذا الشيء صفة تعاقدية تمسى (الملكية).

ولنضرب مثالاً آخر فنقول: لو أن رجلاً وامرأة قرآ صيغة عقد القران وحصل بينهما إيجاب وقبول فسيكونان زوجين، ولا يحق لهما قبل ذلك ممارسة الجنس ولكنه يصبح جائزاً بعد العقد الشرعي وتترتب عندئذٍ أحكام اجتماعية عديدة على قولهما: (زوّجتُ وقبلتُ)، فنرى في هذ االمثال أن هذا الرجل وهذه المرأة لم تتغير صفتهما الموضوعية، أي لم يحصل تغيير في لونهما وشكلهما وطولهما.. وهما نفساهما اللذان كانا قبل ساعة، وإن مقولة (أنكحتُ وقبلتُ) ـ برضى الطرفين طبعاً ـ هي وحدها التي تسببت في أن نتعاقد على أن هذا الرجل وهذه المرأة زوجان، فتكون هذه المرأة التي اكتسبت صفة (الزوجة) محلّلة على ذلك الرجل وتجب نفقتها عليه، وكذلك الأحكام المتعددة الأخر التي تترتب على ذلك.

هذه الأحكام تنطبق على موضوع خارجي (الرجل والمرأة) ولكن في حال تعاقدي، أي حين يتصفان بصفة الزوجية، فهذه الصفة إذاً ليست شيئاً موضوعياً بل هي شيء تعاقدي.

والأشياء التعاقدية قابلة للتغيير أيضاً، فمادام هذان الاثنان زوجين فلهما أحكامهما الخاصة بهما، فلو طلق الرجل امرأته فسوف تنطبق عليهما أحكام أخر.

لقد كانت هذه المرأة حتى الأمس محرّمة على هذا الرجل، لكنها صارت محلّلة عليه اليوم، أي أن الحكم تغير تجاه هذا الشخص، فلماذا حدث ذلك؟

لأن صفته التعاقدية قد تغيرت لا ذاته، فهو إنسان الأمس نفسه، لكنه لم يكن بالأمس يتصف بصفة الزوجية فصار يتصف بها اليوم.

وهذه الصفات تؤخذ أحياناً كظرف موضوعي، أي ظرف الزوجية مثلاً، لكننا لو دققنا في الأمر أكثر ـ في كثير من الحالات في الأقل ـ نجد أن الحكم يختص بالظرف نفسه، وفي الاصطلاح الفلسفي يختص الحكم في الجوهر بالظرف وينسب في العرض إلى المظروف، وبعبارة أخرى ينسب الحكم في الجوهر إلى الصفة وفي العرض إلى الموصوف، فالحكم الشرعي إذاً ينطبق على الصفات بشكل انتزاعي وتعاقدي.

فلو انطبقت هذه الصفة على الشيء في أي زمان ومكان وفي أية ظروف فسيكون لذلك الشيء حكم معين، ولو لم تنطبق هذه الصفة عليه فسيكون له حكم آخر، فالموضوع هو نفسه، لكنه يكون في مكان ما مصداقاً لصفة معينة ويكون في مكان آخر مصداقاً لصفة أخرى، ويكون كذلك في زمان معين مصداقاً لصفة معينة وفي زمان آخر مصداقاً لأخرى.

وليس الزمان والمكان في الحقيقة موضوعاً للحكم بل دليلان على أن هذه الصفة هل تنطبق هنا على الموضوع أم لا تنطبق، أو هل الصفة الفلانية تصدق في هذا المكان أم الصفة المخالفة لها، وهنا نكرر الملاحظة الدقيقة التي قلناها سابقاً، فنقول تسامحاً:
إن الزمان والمكان أمران متغيران يتغير الحكم تبعاً لهما، لكن المتغير الحقيقي في المواقع هو المصالح والمفاسد وليس الزمان والمكان.

الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه، محمد تقي مصباح اليزدي

 

قراءة 947 مرة