لماذا تجب العبادة على الإنسان؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)
لماذا تجب العبادة على الإنسان؟

لماذا يتحمل الإنسان المشقة ويبذل الجهد؟.. فيصلي ويصوم ويحج ويجاهد ويبذل المال.. إلخ، فالله غير محتاج للعبادة، وغني عنها، والإنسان يلاقي الكلفة البدنية والتعب في أدائها، ويبذل الجهد والمال والوقت في سبيلها.. فلماذا كل ذلك إذن؟
 
هذه أسئلة تطرأ على الكثيرين، ويتصورها العديد من الناس حول وجوب العبادة. بينما نجد القرآن الكريم يتحدث عن العبادة فيقول:﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [1]
 
فما سر ذلك؟ ولماذا العبادة؟
سرعان ما يتحدد الجواب، ويعلن عن نفسه لكل من يتجاوز بفهمه ووعيه النظر السطحي لهذا الوجود، والفهم الساذج لعالم الأشياء والموجودات، والعلاقات الكونية العامة، فيدرك بوضوح تام: أن هذا الكون ــ بما فيه الإنسان ــ خلق بحكمة، ووفق نظام وعلاقات وقوانين، تترابط بعضها مع بعض، ويترتب بعضها على بعض، وينتج بعضها عن بعض، فالموجودات من عالم المادة، والحياة، والإنسان، وما ينتج عنها، من نتائج، وآثار، كلها تدخل في معاملات، وموازنات دقيقة، وتخضع لقاعدة الأسباب والعلل المتحكمة في هذا العالم.. فما من شيء في طرف إلاّ ويقابله شيء في طرف آخر... وما من سبب إلاّ وترتبط به نتيجة.. فعلى هذه القاعدة، ووفق هذا القانون الوجودي العام، شاءت حكمة الله وإرادته أن تسير علاقة الإنسان بخالقه... لأن الإنسان يمثل طرفاً في الوجود، ويسعى الى نتائج في دنيا الحياة وعالم الآخرة... وأن هذا السعي يقوم على أساس أن هناك علاقة ترابطية، وتعادلاً بين أطراف القضايا، وانتظام الأشياء والموجودات.. سواء منها الموجودات الطبيعية أم الأفعال والنشاطات الإنسانية المختلفة.
 
والقرآن الكريم ناطق بهذه الحقيقة... وموضّح لها في موارد متعددة، نذكر منها قوله تعالى:

﴿وإِذْ تَأْذَنَ رَبُكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزيدنَّكُمْ ولَئِنْ كَفَرْتُمْ إنّ عذابي لَشَديدٌ﴾ [2]
 
﴿إنَّ اللهَ لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ..﴾ القرآن الكريم، سورة الرعد، الآية:11
 
﴿فأَمَّا يأتينَكُمْ مني هدىً فَمَنْ اتْبَعَ هُدايَ فلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى﴾ القرآن الكريم، سورة طه، الآية:321
 
﴿ليجزي اللَّهُ الصادقينَ بِصدقِهِمْ ويعذِّبُ المنافقينَ إنْ شاءَ أو يتوبَ عليهم...﴾ القرآن الكريم، سورة الأحزاب، الآية:42
 
﴿مَنْ كانَ يريدُ العاجلةَ عجَّلْنَا لهُ فيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُريدُ..﴾ القرآن الكريم، سورة الإسراء، الآية:81
 
﴿... وَمَنْ يُؤْمِنْ باللَّهِ ويعْمَلْ صالحاً يُدْخِلْهُ جناتٍ تَجري من تحتها الأنهارُ خالدينَ فيها أبداً قد أحسنَ اللَّهُ لهُ رزقاً﴾ القرآن الكريم، سورة الطلاق، الآية:11
 
فكل تلك الآيات الكريمة تبسط الأسباب وترتب عليها النتائج... فجعلت الشكر سبباً لزيادة الخير والنعم والثواب، كما جعلت تغير أوضاع الإنسان وأحواله العامة مرتبطةً بتغير محتواه الداخلي.. بما فيها من أفكار ومفاهيم وعواطف.
 
وجعلت الصدق والإخلاص لله سبباً للثواب.
 
والنفاق والرياء سبباً للعقاب.
 
وعمل الصالحات سبباً للنعيم والخلود في الجنات... إلخ.
 
فمـن هـذا العـرض القـرآنـي نسـتطيـع أن نكـتشـف مفهـوم القرآن عـن العبـادة، ووجوبهـا القائـم على أسـاس أنهـا عمـل سـببي ترتبـط به نتيجة.
 
وتركها إهمال سببي تترتب عليه نتيجة... جرياً على حكمة الله في خلقه التي قضت بأن تكون علاقة الإنسان بالله، ووجود هذا الإنسان في عالمي الدنيا والآخرة، خاضعاً لهذا القانون الوجودي العام، قانون الترابط بين السبب والنتيجة.
 
فلقد جعل الله سبحانه الخلد والنعيم في الجنان لا يتحقق إلاّ بالتزام النفس البشرية بقانون محدد وهو العبادة يوصلها الى نتيجة محددة وهي رضاء الله سبحانه، كما جعل تركها سبباً للعذاب والحرمان ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا..﴾ القرآن الكريم، سورة الأحقاف، الآية:91
 
من هنا كانت العبادة سبباً للحصول على النعيم والفوز بالجنان... وكانت واجباً وضرورة كونية يفرضها منطق الوجود، ويتوقف عليها مصير الإنسان، كما يتوقف مصير أية قضية في الوجود على سلسلة الأسباب والنتائج المترابطة في دائرة وجود هذه القضية.
 
وثمة سبب آخر يخضع لنفس القانون، ويعطي ذات النتيجة، وهو واقع الحس الأخلاقي، والذي يتلخص مفهومه في المقولة المشهورة شكر المنعم واجب.
 
أي أن النعم التي أنعمها الله سبحانه وتعالى على الإنسان توجب الشكر، لأن حق المنعم الشكر، والاعتراف بالنعم، وضرورة إظهار هذا الاعتراف بكل الوسائل التعبيرية المتاحة للإنسان... سواء بالقول أو الفعل، كالصلاة والدعاء والثناء والصوم، أو في الاقرار النفسي والشعور الباطني بالفضل والامتنان.. لأن الإنعام فعل صادر من طرف، هو الله سبحانه، ليفاض على طرف آخر، وهو الإنسان... فما الذي يقابله في الطرف الآخر حسب قوانين الوجود..؟
 
لذلك فقد جعل الله سبحانه العبادة: هي المنهج والوسيلة الإنسانية للتعبير عن الشكر، واكمال معادلة المبادأة بالنعم ــ فضلاً منه ومنة ــ فأهَّلا أفعال الإنسان، ورفعها الى مستوى طرف الموازنة ومعادلة النعم والاحسان الإلهي.
 
ــ ولكن... أنى لعبادة الإنسان أن توازي نعم الرحمن... التي لا تعد ولا تحصى ــ.
 
وينضم إلى هذين السببين سبب ثالث للعبادة، فيحتل أبعاداً خاصة في نفس الإنسان وهو أيضاً نتيجة طبيعية للعلاقة بين الأشياء وقدرها، وهذا السبب هو الشوق والحب لله، وانصراف النفس عما حولها من موجودات وجزاء ونعيم مرتقب، بسبب التعلق والارتباط بعظمة الله سبحانه وتعالى والإنصراف لكماله المطلق.
 
وتأتي هذه النتيجة الحتمية تعبيراً عن إحساس الإنسان بحقيقته الصغيرة المتناهية في الصغر... والناقصة المستغرقة في النقص، والحاجة الى الكمال الإلهي الذي يستهوي دوافع النفس، ويشد وعيها، وأحاسيسها، إلى مبدئها العظيم الله ... تماماً كما يتجه التائه في الصحارى المظلمة الى مصدر النور والإشراق، والظمآن إلى منابع الماء والرواء..
 
ومن مجمل ما عرضنا من حديث حول وجوب العبادة، ومسؤولية الإنسان فيها، نستطيع أن نستخلص: "أن العبادة نتيجة حتمية لطبيعة الوجود الإنساني الذاتية، يفرضها منطق الوجود العام، والعلاقة الذاتية بين الإنسان وخالقه من جهة، وبين عالم الدنيا والآخرة من جهة أخرى".
 
ويوصلنا بحثنا أيضاً إلى أن هناك أسباباً أساسية ثلاثة للعبادة هي:
 
1 ــ دفع العقوبة المتوقعة في عالم الآخرة، والتهيؤ للعيش في عالم الخلد والنعيم، بإعداد الذات، وتوفير الأسباب الضرورية للعيش السعيد في عالم الآخرة، وهي العبادة.
 
2 ــ أن الله منعم على الإنسان، وكل منعم يستحق الشكر والثناء، لذا كانت العبادة واجباً أخلاقياً، لأنها أصدق وسائل التعبير عن الاعتراف بالنعم، ومقابلة إحسان المنعم بما يماثلها من نماذج الخير والامتنان.
 
3 ــ ان هيام الإنسان بحب الله العظيم ذاته، وجمال صفاته، وجلال قدسه، يشد الإنسان إليه تعالى، ويدفعه الى تقديسه وعبادته، حباً به وشوقاً إليه. لأنه أهل للعبادة، ومستحق للتقديس.
 
هذا، وإن حقيقة الشوق الى الله تعالى هي رجاء لقائه، والأُنسُ بقربه، والسعادة بجواره.. وهذا لا يتحقق إلاّ بالعبادة التي قوامها: العمل الصالح، والنية الخالصة.
 
قال سبحانه: ﴿...فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية:11
  


[1] القرآن الكريم، سورة الذاريات، الآية:65
[2] القرآن الكريم، سورة إبراهيم، الآية:7

قراءة 12 مرة