الإخلاص في الحجّ

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الإخلاص  في  الحجّ

وبعد هذه الوقفة العاجلة عند عظمة الأخلاق الإسلاميّة ، ودورها البالغ في حياة المسلم الرسالي ، وبعد عرض موجز عن الإخلاص والرياء، وإنّ القلب منشؤهما ومحطّهما، فإنّه العالم بالله وهو العامل لله، والساعي والمخلص والمتقرّب إليه ، وهو الكاشف بما عند الله ولديه ، وإنّما الجوارح أتباع له ، وخَدَم وآلات يستخدمها القلب كاستخدام الراعي للرعيّة ، وهو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عنه إذا صار مستغرقآ بغير الله، وهو المخاطب وهو المطالب ، وهو المثاب والمعاقب ، فيفلح الإنسان إذا زكّاه ، ويشقى ويخيب إذا دَنّسهُ ودسّاه ، وهو المطيع لله بالحقيقة ، وإنّما التي تظهر على الجوارح الظاهريّة من العبادات أنواره ، فهو سلطان البدن ، وهو العاصي المتمرّد على الله، وإنّما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره ، وبظلمانيّته ونورانيّته تتجلّى المحاسن الظاهريّة ومساويها، فإنّ كلّ إناء بما فيه ينضح ، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه ، ومن عرف نفسه عرف ربّه ، فتارةً يهوي إلى أسفل السافلين ويكون كالأنعام بل هو أضلّ سبيلا، وقلبه كالحجارة أو أشدّ قسوة ، واُخرى يصعد إلى أعلى علّيين ، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقرّبين .

 

ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصّد ما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه ومنه ، فهو ممّن قال الله تعالى فيه  :

(وَلا تَـكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأنْسَاهُمْ أنْفُسَهُمْ اُوْلَئِکَ هُمُ الفَاسِقُونَ )[1] .

 

فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه ، أصل الدين ، وأساس السالكين ، فلا تغفل[2] .

 

فلا بدّ للمؤمن من أن يخلص في نواياه وأعماله ، وحركاته وسكناته ، حتّى يلقى الله وليس في قلبه سواه وذلک هو القلب السليم ، الذي ينفع في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .

والمؤمن الحاجّ ، والمؤمنة الحاجّة لا بدّ لهما من الإخلاص في مناسكهما، وفي حجّهما وعمرتهما، فإنّ الحجّ من فروع الدين ومن العبادات ، وشرطها الأوّل النيّة الخالصة ، متقرّبآ بها إلى الله سبحانه وتعالى .

والحجّ من العبادات الدينية والسياسية والاجتماعية ذات المفاهيم القيّمة ، روحيآ وبدنيآ، فرديآ واجتماعيآ، في جميع جوانب الحياة من العبادة ، والاقتصاد والسياسة ، والثقافة والحضارة ، والاخوّة الإسلامية وغير ذلک .

ويكفي في شرافة الحجّ ، ومقامه الشامخ في الدين الإسلامي الحنيف ، أنّه أحد الأركان التي بني عليها الإسلام ، فهو من الاُسس الاُولى التي يعلو عليها الإسلام العظيم . وتتجلّى في الحجّ روح المحبّة والاخوّة والصفاء، وحكومة الروحانيّات على المادّيات . وكلّ مسلم متحمّس لدينه قد يرى في حجّه وعمرته ، أنّ الإسلام
يعلو ولا يعلى عليه ، وأنّ هذا الدين القيّم لو تمسّک به أهله حقّ التمسّک ، وطبّقوه في كلّ زوايا حياتهم لحكم العالم ، ولرفرفت راياته على ربوع الأرض ، ولو كره المشركون .

فإنّ الإنسان الضائع ، والبشرية التائهة تجد اُنشودتها وسعادتها في هذا الدين ، فهو يتكفّل سعادة الإنسان في داري الدنيا والآخرة .

فالحجّ يمثّل بوضوح عزّ الإسلام وبقاءه وسلطانه ، وكرامة المسلمين وشرفهم ، فليس لاُمّة وملّة من الاُمم والملل مثل هذا المؤتمر العالمي العظيم ، والمشهد السنوي الكبير، الحافل بالخيرات والبركات ؛ ليشهدوا منافع لهم ؛ ليجتمع فيه المسلمون من شرق الأرض وغربها على اختلاف جنسيّاتهم ، وطوائفهم ، وأشكالهم وألوانهم ولغاتهم ، ولا يتميّز غنيّهم عن فقيرهم ، ورئيسهم عن مرؤوسهم ، وكلّ واحد منهم وقد اتّزر بأحد ثوبي الإحرام وارتدى بالآخر؛ ليلبّي دعوة الله، التي يدوّي صداها عبر الأحقاب والأجيال من شيخ الأنبياء إبراهيم الخليل  7 في قوله تعالى  :

(وَأذِّنْ فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوکَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ )[3] .

 

فالحجّ فلاح وصلاح وقد أفلح من أقامه ، ورفع بنيانه كما أمر الشارع به ، وإنّما ركّز القرآن الكريم ، ورسول الله الأعظم  6، وأهل بيته الأطهار  : على الحجّ لما فيه من المغزى والمعنى الملكوتي ، ولأنّه يحتوي على كثير من العبادات ، والفضائل الأخلاقية ، والخير والإحسان الاجتماعي ، والثواب الاُخروي ، فإنّه من
بين أركان الإسلام ومبانيه ، عبادة العمر وختام الأمر، وتمم الإسلام وكمال الدين فيه .

قال النبيّ  6: «من مات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديآ وإن شاء نصرانيآ»[4] .

 

فهو نقلة اجتماعية ، ورحلة جماهيرية يتّجه فيها الناس من كلّ صوب ومكان ؛ لأداء فريضة إلهية واجبة ، في مكان مقدّس واحد هو من أشرف بقاع الأرض : مكّة المكرّمة . وفي زمان واحد من الأشهر الحرم ، ذي الحجّة المبارک ؛ ليمارسوا شعائر موحّدة ، ومناسک دينيّة ، وطقوسآ خاصة ، تجرّد الإنسان عن عالم الماديات ، وتحلّق بروحه إلى عالم ملكوتي وروحاني بلا نهاية ، إلى الرفيق الأعلى فيكون قاب قوسين أو أدنى .

ولكن نوايا الناس مختلفة ، والإنسان على نفسه بصيرة ، ولو ألقى معاذيره وأستاره .

فقد روي في خبر من طريق أهل البيت  : :

«إذا كان آخر الزمان خرج الناس للحجّ أربعة أصناف : سلاطينهم للنزهة ، وأغنياؤهم للتجارة ، وفقراؤهم للمسألة ، وقرّاؤهم للسمعة »[5] .

 فليس كلّ من أدّى فريضة الحجّ نال الكمال وبلغ العلى ، بل بشرطها وشروطها، والإخلاص في النوايا والمناسک أوّل شروطها.

 

قال الإمام الصادق  7 :

الحجّ حجّان : حجّ لله وحجٌّ للناس ، فمن حجّ لله كان ثوابه على الله الجنّة ، ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة[6] .

 

ولا يخفى أنّ من يدخل الجنّة فهو من السعداء لقوله تعالى  :

(وَأمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا)[7] .

 

فمن كان سعيدآ في حجّه ، إنّما يخلص لله في مناسكه وأفعاله ، ويبتغي وجه الله في أعماله ، ومن عمل للناس فقد خسر الدنيا والآخرة ، فإنّ الدنيا الدنيّة دار ممرّ، وأهل الدنيا لا وفاء لهم ، وفي الآخرة كلّ ينادي وا نفساه ، وكلّ يفرّ من أخيه وصاحبته وبنيه وعشيرته التي كانت في الدنيا تؤويه .

فمن الحماقة وقلّة العقل أن يعمل الإنسان لغير الله سبحانه وتعالى ، كما ورد في الخبر.

قال الإمام الصادق  7 :

مَن حجّ يريد به الله، ولا يريد به رياءً وسمعة ، غفر الله له البتّة[8]  ـأي قطعآـ.

فمن حجّ ليُنادى في المجتمعات والنوادي : يا حاج فلان ، يا حاجّة فلانة ، وليفخر على الآخرين ويتطاول عليهم ، لم يصبه من حجّه إلّا التعب والنصب .

والأعمال العبادية تبطل بالرياء، فيجب إعادتها وقضاؤها حينئذٍ. فهل بعد
هذا إلّا الإخلاص في النوايا والعمل ؟!

وعن الإمام الصادق  7 في حديث يذكر علامات ظهور المهدي  7 :

... ورأيت طلب الحجّ والجهاد لغير الله... فكن على حذر واطلب من الله النجاة[9] .

 

[1] ()  الحشر: 19.

[2] ()  لقد ذكرت تفصيل حالات القلب في (حقيقة القلوب في القرآن الكريم )، فراجع .

[3] ()  الحجّ : 27.

[4] ()  تفسير ابن كثير :1 386.

[5] ()  المحجّة البيضاء :2 189، أخرجه الخطيب البغدادي في تأريخه ، ورواه أبو عثمان الصابوني فيكتاب المائتين بلفظ آخر كما في المغني .

[6] ()  كتاب ميزان الحكمة :2 276.

[7] ()  هود: 108.

[8] ()  ميزان الحكمة :2 276.

[9] ()  ميزان الحكمة :2 276.

 

قراءة 1442 مرة