الحجّ ودوره المهم في حياة الإنسان

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الحجّ ودوره المهم في حياة الإنسان

  عندما نريد استعراض بعض معطيات الحجّ إلى بيت الله الحرام ينبغي لنا أن ننظر إليه كمجموعة كاملة أوّلاً، ثمّ نلاحط المعطيات التفصيلية لكلّ منسك منس

النظرة العامّة...

ويمكننا أن نذكر ـ هنا ـ أهم هذه المعطيات بصورة نقاط هي:

1 ـ تعميق الارتباط بالله: بالتركيز على ذكر الله المتواصل في أيّام الحجّ... فهي الأيّام التي يردد الحاج فيها كثيراً ذكر الله، ويحس بالرابطة بينه وبين الله إحساساً عميقاً. وهذا الترديد المركز سوف يترك أثره على حياة الحاجّ العامّة ليرتبط في كلّ آن بالله تعالى يلهج بذكره، ويستشعر عظمته عند كلّ عمل يقوم به.

2 ـ الشعور بالعمل في سبيل الله: فالإنسان الحاجّ في أيّام الحجّ متفرغ لهذه الناحية... قد أسلم نفسه وحياته بكلّ لحظاتها لله تعالى يأمره فيأتمر، وينهاه فينتهي، كلّ لحظة من هذه الأيّام تُصرف في سبيل الله وقُربة إليه. فهو إذن يتدرّب على أن يصوغ حياته كلّها وفق هدى الله وأوامره، ويبتعد عن كلّ ما يصرفه عن العمل في سبيل الله. قال الصادق (ع): «إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك لله عزّوجلّ ـ من قبل عزمك ـ من كلّ شاغل وحجاب حاجب، وفوض أُمورك كلّها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة»[1]، بمثل هذا التجريد القلبي والتسليم يدخل الحاج أيّام الحجّ، وبمثله يخرج ليستقبل الحياة.

ولهذا فإنّ للحجّ إشعاعاً على عمل الإنسان بعد الحجّ، ففي المحاسن عن عبدالله الحجال رفعه قال: «لا يزال على الحاجّ نور الحجّ ما لم يذنب»[2]. وقد وصف الحجّ بأنّه فرار إلى الله. فعن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات/50) قال: «حجّوا إلى اللهِ»[3].

3 ـ التضحية في سبيل الله: إذ أنّ الحجّ غالباً ما يرافقه بذل الجهد الكبير خصوصاً إذ كان الحاجّ يقصده من أماكن بعيدة، ولكنّ الحاجّ يبذل هذه الجهود مربياً نفسه على أساس أنّ في هذا البذل ربحاً لأنّه بذل «في طريق الجنّة» على حد تعبير الرواية[4]، وهذا البذل سيترك أثره بلاريب على نفس الحاجّ ليسترخص الجهد في كلّ مجال يريد الله أن يكون فيه الإنسان العامل حتى ولو تطلب ذلك الجهد الكبير. فعن الإمام الصادق (ع): «مَن اتّخذ محملاً للحجّ كان كمن ارتبط فرساً في سبيل الله».

4 ـ الغفران والتوبة: فإنّ الحجّ فرصة كبرى للعفو، وجوّ مفعم بطلب التوبة والاستغفار والرجوع إلى الصراط المستقيم.

وقد رُوِي في ثواب الأعمال عن ابن حازم قال: «قلت لأبي عبدالله (ع) ما يصنع الله بالحاجّ؟ قال: مغفور والله لهم لا أستثني فيه». وعن الصادق (ع): «في سؤال موسى (ع) جبرئيل (ع) ما لمن حجّ البيت بنيّة صادقة ونفقة طيِّبة؟ قال: فرجع إلى الله عزّوجلّ فأوحى إليه: قل له أجعله في الرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحُسن أُولئك رفيقاً».

وفي الرواية عن النبيّ (ص) قال رسول الله (ص): «للحاجّ والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إمّا يُقال له: قد غفر لك ما مضى، وإمّا أن يُقال له: قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل، وإمّا أن يُقال له: قد حُفِظتَ في أهلك وولدك وهي أخسّهن».

وواضح ما لجوّ التوبة من تأثير على رسوخها في النفس والتزام النفس بمقتضياتها.

5 ـ تمثّل التاريخ الإسلامي المشرق: حيث يعيش الحاجّ منطلق الدعوة الإسلامية للدول، ويمر بخطواتها وأحداثها الكبرى لتبقى مرتسمة في أعماقه تشده إليها وتدفعه لاستعادة أمجادها وبطولاتها وحمل أمانتها في كلّ عصر.

6 ـ الشعور بعظمة الإسلام: إنّ مَن يعيش عملية الحجّ يدرك حساً الدور العالمي العظيم الذي يستطيع الإسلام القيام به فيتأصل في نفسه الشعور بعظمة الإسلام. ويمكننا أن نقول إنّ هذا هو ما يشير إليه وصف الحجّ بأنّه (عِلم الإسلام) حيث يقول أمير المؤمنين (ع): «وجعلَهُ سبحانه وتعالى للإسلام عِلماً».

7 ـ الشعور بالوحدة والأُخوّة مع الحجّاج الذين لا تجمعهم لغة واحدة ولا تقاليد ولا حدود ولا مستوى ولا لون، وإنّما تجمعهم العقيدة. هذا يركّز الوحدة العقائدية التي يجب أن يحمل لواءها كلّ مسلم. منطلق واحد لكلّ الحجّاج، ومسير واحد، وهدف واحد هو التضحية في سبيل الله تعالى.

8 ـ الفرصة المغتنمة: فالحجّ أكبر فرصة تُتاح كي تلتقي فيها كلّ أجنحة العالم الإسلامي؛ فتتقارب مستوياتها الثقافية، ويتعرّف كلّ جناح على مشاكل الأجنحة الأُخرى، وتعقد المحادثات والمداولات بينهم، فالحجّ أكبر مؤتمر إسلامي عام.

كما أنّ الحجّ فرصة مغتنمة جدّاً لتوعية المسلمين على إسلامهم ونُظمه وقوانينه وفضح شبهات أعدائه ومخططاتهم العامّة.

وهكذا نجد بعد هذا أنّ الحجّ:

دورة تدريبية كبرى للبشرية لتدريبها على العمل بأوامر الله، والتخلق بأخلاقه، والتصديق بكلمته، والسير على منهج أنبيائه، وإحراز الأرباح في متجر عبادته.

يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة، ص 45: «وفَرَضَ عليكم حَجَّ بيتِهِ الحَرَامِ، الذي جعلَهُ قِبلَةً للأنامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الأنعامِ، ويأْلهُونَ إليه وُلُوهَ الحَمَامِ. جعلَهُ سبحانهُ علامةً لتواضُعِهم لعظمتِهِ، وإذعَانِهم لعزَّتِهِ.

 واختارَ من خَلقِهِ سُمّاعاً أجابُوا إليه دعوتَهُ، وصَدَّقُوا كلمتَهُ، ووَقفُوا مواقِفَ أنبيائِهِ، وتَشَبَّهُوا بملائكتِهِ المُطيفين بعرشِهِ، يُحرِزُونَ الأرباحَ في مَتجَرِ عبادتِهِ، ويتبادرون عنده موعِدَ مغفرتِهِ.  - جعلَهُ سبحانه للإسلامِ عَلَماً، وللعائذين حَرَماً. فَرَضَ حَجَّهُ، وأوجَبَ حقَّهُ، وكَتَبَ عليكم وِفَادَتَهُ، فقال سبحانه: (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97)».

وتتميز هذه الدورة التدريبية الكبرى بميزات فريدة، فهي:

أوّلاً ـ دورة عالمية تشترك فيها كلّ الشعوب.

ثانياً ـ تتناول أهم القضايا في حياة الإنسان وسيرته الحضارية فتركزها.

ثالثاً ـ دورة يقوم بها الناس بإرادتهم واختيارهم بأداء شعائر خُطِّطَ لها تخطيطاً دقيقاً.

رابعاً ـ تشترك في إنجاحها الدوافع النفسية والذكريات التاريخية المتمثّلة بالأمكنة المقدّسة، والزمان المقدّس لأنّها تقع في الشهر الحرام.

وما أن يتم الناس القيام بشؤون هذه الدورة حتى يعلن العيد... عيد الانتصار على كلّ نوازع الظلم، والفوز بكلّ محقّقات الكمال.

والأمر الملاحظ بوضوح في الأعياد الإسلامية أنّها تأتي بعد دورة، إمّا تربوية كعيدي الفطر والأضحى أو حياتية كبرى كعيد الغدير؛ لتؤكد الفرحة البشرية الصحيحة بالانتصار على الشهوات والشيطان، وبقطع مرحلة مهمّة من الحياد وبدء مرحلة أُخرى منها تشكّل تطوّراً لها لتثير مشاعر المسلمين جميعاً للاتصال الدائم المجموعي بالله، وذلك لما فيها من تشريع للصلوات الواجبة والمستحبة وما إلى ذلك من موحيات.

النظرة التفصيلية:

أمّا إذا القينا على الحجّ نظرة تفصيلية تتناول واجباته ومحرماته وشرائطه فيمكننا أن نسير معه عموماً على النحو التالي:

1 ـ الإحرام:

روايات في الإحرام:

روى الكليني بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال: «أحرم موسى من رملة مصر، قال: ومر بصفائح الروحاء محرماً يقود ناقة بخطام من ليف عليه عباءتان قطوانيتان، يلبي وتجبيه الجبال»[5] وروى الصدوق إنّه وجب الإحرام لعلة الحرم.

وفي العلل وعيون الأخبار عن الرضا (ع) قال: «وإنّما أُمروا بالإحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم الله وأمنه، ولئلّا يلهوا ويشتغلوا بشيء من أُمور الدنيا وزينتها ولذّاتها، ويكونوا جادين فيما هم فيه قاصدين نحوه مقبلين عليه بكلّيتهم، مع ما فيه من التعظيم لله عزّوجلّ ولبيته، والتذليل لأنفُسهم عند قصدهم إلى الله عزّوجلّ، ووفادتهم إليه راجين ثوابه راهبين من عقابه، ماضين نحوه، مقبلين إليه بالذلّ والاستكانة والخضوع».

على ضوء من هذه الروايات الشريفة وغيرها وبملاحظة روح العملية وشرائعها ومستحباتها يمكن القول بأنّ الإحرام يوحي:

أ ـ بالإخلاص لله تعالى والخشوع له غاية الخشوع، ورفض كلّ المطلقات الوهمية، ونزع كلّ هوى بها تماماً كما ينزع الإنسان ملابسه، وغسل النفس عن كلّ دنس معنوي، كما يغتسل الإنسان للإحرام والتلبس بالحسنات والصالحات كما يلبس الإنسان ثوبي الإحرام الطاهرين، كلّ هذا يجري باختيار الإنسان وتدريباً له على أن يكون كذلك في كلّ حالات حياته.

ب ـ بالرجوع إلى الفطرة ورفض المقاييس الوهمية التي تفصل بين أبناء الإنسانية. ويبدو ذلك بوضوح عندما يلبس الجميع ثوبين بهيأة واحدة فتتمثّل لهم حقيقة التساوي بين الأفراد من الوجهة المادّية ويبدأ التسابق في المجال المعنوي، ويتأكد هذا عندما نلاحظ اشتراط أن لا يكون اللباس مخيطاً، وأن لا تلبس المرأة الزينة.

ج ـ بتذكّر حالات الموقف العظيم يوم القيامة حيث يخرج الناس إلى الله (وَبَرَزُوا لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (إبراهيم/ 48) وهذا ما يوحي له شبه الثوبين بالكفن.

د ـ بالشعور بعظمة النِّعمة التي أنعم الله بها على الإنسانية بتعريفها بالواقع الذي يمثّله هذا الحرم المقدّس، فتقديس الحرم لما يمثّله من واقع.

لعلّه بكلّ هذا وغيره كان الإحرام سُنّة كبرى يفعلها الأنبياء فتزيده خشوعاً وخضوعاً في محراب الله تعالى.

2 ـ التلبية:

بعض الروايات فيها:

روى الكليني بإسناده عن الحلبي قال ـ سألته لِمَ جعلت التلبية؟ فقال: «إنّ الله عزّوجلّ أوحى إلى إبراهيم أنّ: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). فنادى فأُجيب من كلّ وجه يلبّون»[6].

وروى بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (ع) قال: «التلبية لبيك اللّهُمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك ذا المعارج، لبيك ـ وقال في آخره ـ واعلم أنّه لابدّ من التلبيات الأربع في أوّل الكلام وهي الفريضة، وهي التوحيد وبها لبّى المرسلون»[7]

وروى الصدوق عن سليمان بن جعفر قال: «سألت أبا الحسن (ع) عن التلبية وعلتها، فقال: إنّ الناس إذا أحرموا ناداهم الله تعالى ذِكره، فقال: يا عبادي وإمائي لأُحرّمنكم على النّار كما أحرمتم لي، فقولهم لبيك اللّهُمّ لبيك إجابة لله عزّوجلّ على ندائه لهم»[8].

ورُوِي عن عاصم بن حميد قال: سمعت أبا عبدالله يقول: «إنّ رسول الله (ص) لمّا انتهى إلى البيداء حيث الميل قربت له ناقة فركبها، فلمّا انبعثت به لبّى بالأربع... ثمّ قال: هاهنا يخسف بالأخابث»[9].

ورُوِي عن الإمام الباقر (ع) قال: «قال أمير المؤمنين (ع) ما من مهلّ يهلّ بالتلبية إلّا أهلّ من عن يمينه من شيء إلى مقطع التراب، ومن عن يساره إلى مقطع التراب، وقال له المَلَكان: أبشر يا عبد الله وما يبشّرُ الله عبداً إلّا بالجنّة»[10].

ورُوِي عنه (ع) قال: قال رسول الله (ص): «ما من حاجّ يضحي ملبياً حتى تزول الشمس إلّا غابت ذنوبه معها».

وأكثر الروايات تؤكّد أنّ التلبية تعبّر عن استجابة بشرية كبرى لنداء تاريخي عظيم طلب من إبراهيم شيخ الموحدين أن يعلنه في الأرض، وأُعطي وعداً بأن يستجيب له المؤمنون.

إنّ المسلم إذ يلبي ليشعر:

أ ـ بأنّه أهل لأن يكون في عداد أُولئك الذين أجابوا دعوة إبراهيم (ع) التاريخية، ممّا يبعثه لأن ينظر لارتباطه بالإسلام كمهمّة كبرى أُلقيت تاريخياً على عاتق هده الأُمّة، وعليها أن تحمل هذه الأمانة بجدارة.

ب ـ بأنّه يرتبط بحركة التوحيد الخالص الذي ينزّه الله تعالى عن كلّ سخافات أهل الكتاب، وكلّ مفتريات المشركين بكلّ ما يعنيه هذا الارتباط من تحكيم التوحيد في كلّ شؤون الحياة.

ج ـ بأنّ عليه أن يستجيب لكلّ نداء إصلاحي حقيقي (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزّمر/ 18) فيلبي قبل كلّ شيء نداء الإسلام للعمل الصالح، ثم يتَّبع سبيل المؤمنين والقادة.

د ـ بأنّه ـ وهو يلبي ـ ينسجم مع الكون كلّه الذي يلبي معه نداء الله (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصّلت/ 11).

 ومن هنا تركّز الروايات أنّ الجبال وما حواليه تردد تكبيره، وأنّه إذا انفصل عن مسيرة التلبية في قول أو عمل؛ فقد أصبح نشازاً في بناء الكون. ويتأكد هذا المعنى عندما تتردّد أصداء تلبية الحجيج في البيداء.

هـ ـ بأنّه سيغفر له فيعود طاهراً من الذنوب، ولذا فعليه أن يُحاذر من تفويت فرصة الطهارة هذه.

3 ـ محرمات الإحرام:

قال تعالى: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) (المائدة/ 94)، وقال تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة/ 197).

بعض الروايات في هذا الصدد:

عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية الكريمة المتقدمة: «حشرَ عليهم الصيد من كلّ وجه حتى دنا منهم ليبلون به»[11].

وعن الإمام الصادق (ع) قال: «إنّ المحرم إذا تزوج وهو محرم فرق بينهما، ثمّ لا يتعاودان أبداً»[12].

وعن الإمام الباقر (ع): «لا ينبغي للمحرم أن يأكل شيئاً فيه زعفران، ولا يطعم شيئاً من الطيب»[13]. وعن الصادق (ع) في هذا الصدد «اتقِ المفاخرة، وعليك بورع يحجزك عن معاصي الله»[14].

والملاحظ: في هذه المحرمات أنّها تزيد على المحرمات الاعتيادية من جهة وتركّز التنفر من تلك المحرمات الاعتيادية من جهة أُخرى.

وباستقرائنا لبعض مشاعر المسلم وما يتركه هذا التحريم في نفسه نلاحظ:

1 ـ التربية الأصيلة لعنصر مراقبة النفس: فبعد أن يدخل الإنسان المسلم في جوّ الإحرام يحسّ بأنّه صار تحت حماية الله ومراقبته الأشد، أو أنّه قد دخل دورة تدريبية خاصّة عليه فيها أن يتنبه ويكون واعياً لئلّا يقوم بعمل من هذه الأعمال المحرّمة ـ وبعضها أمر يعتاده ويعيش معه في أوقاته العادية ـ فيُطلب إليه أن لا يقتل هوام البدن، وأن لا يشم الطيب، وأن لا ينظر في المرآة، وأن لا يتدهن، وأن لا يلمس المرأة، وأن لا يقطع شعرة من بدنه، وهكذا باقي المحرمات الأُخرى. وكلّ هذا يحتاج إلى مراقبة دقيقة تبقى ذكراها مذكرة النفس بلزوم الدقة والوعي في كلّ سلوك يسلكه الحاج بعد ذلك.

2 ـ التربية الأصيلة لعنصر الإرادة: وهنا يحرم الجنس والصيد ـ وهو في متناول الأيدي ـ لتمتحن إرادتهم في مقدار استجابتها لأوامر الله عزّوجلّ، وسيطرتها على النوازع والغرائز، وليشعروا مع ذلك بعظمة نِعم الله عزّوجلّ فيشكروه شُكراً يتناسب مع ما رسمه لهم.

وتبدو ـ أكثر ما تبدو ـ هذه التربية للإرادة في تحريم لمس المرأة فضلاً عن تحريم الجماع، وكذلك تحريم العقد عليها، وكذلك تبدو واضحة في مسألة كشف الرأس وعدم التظليل بشيء وتحمل ذلك في سبيل الله، إذ له معطيات إرادية كبرى في الإنسان.

3 ـ الزُّهد: بالمتع الدنيوية والشعور بالتحرّر من ربقتها خصوصاً إذا كان الإنسان في سبيل تحقيق أوامر الله تعالى.

4 ـ التدريب العملي على الكلام الحسن والمنطقية في الحديث وتعظيم وجه الله تعالى وحُرماته... والموضوعية. وهو جانب مهم جدّاً. فمع أنّ الكذب شيء حرام في الحالات الاعتيادية، والجدال وغيره أمر مرفوض عموماً، إلّا أنّه هنا يتأكد رفض هذه الأُمور مع جعل أنواع من الجزاء عليها للتأكيد على لزوم نفيها من حياة المسلم. هذا إلى جانب الحِكم الخاصّة في كلّ محرم.

4 ـ الطواف بالبيت:

قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة/ 125)، وقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) (آل عمران/ 96).

بعض الروايات في ذلك:

1 ـ الكليني بإسناده إلى معاوية بن عمار عن الصادق (ع): «إذا دخلت المسجد الحرام فادخله حافياً على السكينة والوقار والخشوع، وقال: مَن دخله بخشوع غفر الله له إن شاء الله. قلت ما الخشوع؟ قال السكينة، لا تدخل بتكبر، فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، بسم الله وبالله ومن الله، وما شاء الله والسلام على أنبياء الله ورُسُله، والسلام على رسول الله (ص) والسلام على إبراهيم خليل الله والحمد لله ربّ العالمين)، فإذا دخلت المسجد فارفع يديك واستقبل البيت وقل: (اللّهمّ إنّي أسألك في مقامي هذا في أوّل مناسكي أن تقبل توبتي وأن تتجاوز عن خطيئتي، وتضع عني وزري، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام، اللّهُمّ إنّي أشهد أنّ هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابة للناس وأمناً ومباركاً وهدى للعالمين، اللّهُمّ إنّي عبدك، والبلد بلدك، والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك، مطيعاً لأمرك، راضياً بقدرك، أسألك مسألة المضطر إليك، الخائف لعقوبتك، اللّهُمّ افتح لي أبواب رحمتك واستعملني بطاعتك ومرضاتك)»[15].

2 ـ يظهر من بعض الروايات إنّ جبرئيل هو أوّل مَن بنى البيت، وأنّ الملائكة هي أوّل مَن طاف بالبيت. وهكذا كان الطواف حوله سُنّة الأنبياء وأوّلهم آدم (ع) لكن المعمر الأساسي بعد ذلك كان هو ابراهيم وابنه إسماعيل، وفي رواية أُخرى إنّ الملائكة بُنِي لها بيت في السماء يُسمّى الضراح بأزاء العرش فهي تطوف به، وإنّ هذا البيت بناه آدم بأزاء ذلك[16].

3 ـ وعن الرضا (ع) ـ في علة الطواف ـ إنّ الله تعالى قال للملائكة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة/ 30)، «فرَدّوا على الله فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا، فأحب الله أن يتعبّد العباد بمثل ذلك»[17].

4 ـ وعن أبي جعفر (ع): «إذا دخلت المسجد الحرام وحاذيت الحجر الأسود فقل: (أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، آمنت بالله وكفرت بالطاغوت وباللات والعزى، وبعبادة الشيطان، وبعبادة كل نِدٍّ يُدعى من دون الله). ثمّ ادنُ من الحجر واستلمه بيمينك، ثمّ قل: (بسم الله وبالله والله أكبر، اللّهُمّ أمانتي أديتها، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة)»[18].

5ـ وعلّل الإمام الصادق (عليه السلام) وضع الحجر في الركن الذي هو فيه قائلاً: «لعلة الميثاق»... وأمّا القبلة والاستلام فلعلة العهد تجديداً لذلك العهد والميثاق[19].

وبمراجعة الروايات الواردة في الطواف، وكذلك المشاعر التي يشعر بها الحاجّ الواعي نجد أنّ الطواف واستسلام الحجر يمثِّلان أرقى حالات:

أ ـ التسامي الإنساني وذلك لأنّ من الواضح أنّ الملائكة في التصوّر الإسلامي يمثِّلون الموجودات الطاهرة تماماً، العابدة تماماً. والإنسان الطائف يشعر ـ وهو يطوف ـ بأنّه يقلّد الملائكة الطائفين حول (الضراح) وهو البيت الذي يقوم في السماء بإزاء هذا البيت أو حول (العرش) وهو مطاف الكون كلّه. فما أروع إكرام الله للإنسان، وما أروع شعور الإنسان بهذه الكرامة الإلهيّة. خصوصاً وإنّ بعض الروايات تؤكّد أنّ مسألة طواف الملائكة جاء بعد سؤالها الذي ذكره القرآن (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) (البقرة/ 30) ثمّ ندمها، فطوافها حول العرش استغفار.

ب ـ التعلُّق بعالم الغيب: تبعاً لذلك التسامي وتأكيداً لنزع الإنسان من التعلُّق بالمادّة لا غير إلى التعلُّق بعالم الغيب عن طريق موجود محسوس جعل رمزاً لعالم الغيب، ومحلاً للاتصال بينه وبين عالم الشهادة، وإنّ من الواضح أنّ الإيمان بالغيب يشكّل أحد أهم مقومات الشخصية المسلمة (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) (البقرة/ 3).

ج ـ الغفران المؤكّد: وهذه الحالة الفريدة التي يوجدها الطواف أمر لا يمكن أن يُوصف، بل هو حالة نفسية يدركها مَن يعيشها... موقف خاشع كلّ الخشوع تظلله الرحمة الإلهيّة والعناية الخاصّة، ثمّ ميثاق يمنحه الإنسان للحجر الأسود تلك القطعة التي نزلت من الجنّة فتجسّدت أمام الإنسان تذكره بفطرته وبالميثاق الذي أعطاه بها لله بالإيمان والتسليم... فبالاستلام والتقبيل يتأكد العهد ويتجدّد كما يُعبِّر الإمام (ع). إنّ كلّ عناصر الموقف تشترك في تركيز التوبة وتعميقها خصوصاً إذا تصوّر الحاجّ أنّه يسلك صراط الملائكة في توبتها وإنابتها إلى الله.

د ـ الاتباع لسُنّة الأنبياء: وإذا قيل سُنّة الأنبياء فلا يعني ذلك إلّا الأسلوب الوحيد الذي وضعه الله لتكامل الإنسان، وهذا الاتّباع الحسي والشعوري لابدّ وأن يركّز الاتباع الحياتي بمجموع ما في الحياة من نشاط، ويتم تركيز هذا الشعور عند الطائف بأُمور: منها شعوره وهو يطوف حول الكعبة بأنّه يطأ موطئ الأنبياء جميعاً والأئمّة والصالحين عبر التاريخ... يضع قدماً حيث وضعوا، ويتّجه حيث اتجهوا، ومنها الأدعية التي يستحب له قراءتها آنذاك وقبله حيث استحبّ له التسليم على النبيّ (ص) قبل كلّ شيء، ثمّ التسليم على جميع الأنبياء مع التركيز على سلام خاص بإبراهيم (ع) رمز الحنيفية الصافية، التي لم تلوثها مبتدعات اليهود والنصارى. ومنها هذا المقام الذي يصلي عنده ركعتي الطواف، وحجر إسماعيل الذي يدخله بعد، فيصلّي ويدعو وغير ذلك.

هـ ـ تركيز التوحيد وتعظيمه باعتبار البيت الواحد رمزاً لله الواحد القهار، وباعتبار أنّ الأرض كلّها مكلّفة بالطواف حول هذا المركز الواحد الذي خصّه الله بذلك ليعمّق الإيمان الخالص به تعالى، ويبدو هذا واضحاً من خلال ما يدعو به الطائف عند الطواف من أدعية.

و ـ العمل الجاد في سبيل نشر أضواء الإسلام على العالم: وذلك يمكن أن يستفاد من الروايات التي تجعل الكعبة منار الإسلام وعلمه. فالطائف حول الكعبة جندي يطوف حول العلم ويتمسك به ويعمل على رفعته وتقدّمه، كما يظهر من الروايات التي تشبه الطائفين بالملائكة المطيفين بعرش الله، ومن ملاحظة وجه الشبه وهو كون العرش محور حركة الكون، والكعبة محور حركة الأرض ينطلق المسلم ليحقّق هذا المعنى في الأرض، فينزل أمله في جعل الكعبة محور حركة الأرض إلى واقع التطبيق.

ويرى محمّد أسد (ليو بولد فايس) المستشرق النمساوي المعروف في كتابه (في الطريق إلى مكّة) أنّ الكعبة هي رمز الوحدة الإلهيّة، وإنّ حركة الحاجّ هي التعبير الرمزي عن نشاط الإنسان. وهنا تنسجم المشاعر مع الألفاظ حيث يدعو الطائف (اللّهُمّ افتح لي أبواب رحمتك، واستعملني بطاعتك).

5 ـ السعي بين الصفا والمروة: قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 158). وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «ما من بقعة أحبّ إلى الله من السعي لأنّه يذلّ فيها كلّ جبّار».

وهناك رواية في (العلل) تربط السعي بسعي أُمّ إسماعيل بين الصفا والمروة لجلب الماء لإسماعيل. وأُخرى تربطه بسعي إبراهيم لطرد إبليس. ومن المناسب التذكير بأنّ الجبلين كانا موضعين لبعض الأصنام وقد تأثم البعض من السعي لذلك فنزلت (فَلا جُنَاحَ).

وروى بعض الأصحاب أنّه قال: «كنت في ظهر أبي الحسن موسى (ع) على الصفا والمروة وهو لا يزيد على حرفين: اللّهُمّ إنّي أسألك حُسن الظنّ بك على كلّ حال، وصِدق النيّة في التوكل عليك».

وإذا لاحظنا هذا تأكد في أنفُسنا أنّ السعي بين الصفا والمروة يعني فيما يعني:

أ ـ ذلة الجبارين، ونزع صفة التجبر والتكبر عن الإنسان لأنّهما رداء الله ولا يمكن أن يلبسهما غيره، وبهذا تفيض كلّ معاني الاستسلام لله الجبار استسلاماً كاملاً. فيصحو الإنسان على واقعه، ويتجاوز كلّ الخيالات الباطلة التي تدور في ذهنه نتيجة للترسبات الجاهلية الخداعة. وما أروع أن نجد المتحكمين يُطلب منهم أن يسعوا، بل ويرملوا في بعض المواضع مكشوفي الرأس لابسين بردي الإحرام فقط ليشعروا حساً بعدم الفرق بينهم وبين غيرهم وبأنّهم عبيد خاضعون له تعالى.

ب ـ السعي ضمن حدود الله: وهذا المعنى يتوجه إليه الحاجّ بوضوح، فيدرك أنّ الفعالية والنشاط، ورفض الكسل والجمود والخمول، والتوكل على الله أمر أصيل في الإسلام؛ ولكن على أن يكون ذلك السعي ضمن الحدود التي وضعها الله على ضوء من المصالح البشرية التي هو أعلم بها.

ج ـ الارتباط اكثر فأكثر بتلك العائلة المقدّسة، عائلة إبراهيم (ع) التي شكّلت حلقة الوصل الحسي بينه وبين النبيّ الأكرم (ص) والذي يؤكّد التلاحم الهدفي بينهما.

فالسعي بين الصفا والمروة تقليد واعٍ لسعي بينهما قامت به هاجر لتجد الماء لابنها إسماعيل جد النبيّ (ص)، فهو شعور بآلام هذه العائلة وآمالها، وهو تحرك لتحركها ووقوف لوقوفها. وكأنّ الجميع عائلة واحدة أبوها إبراهيم (ع) (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج/ 78) وهي الأُمّة التي دعا لها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان قواعد الكعبة. يقول تعالى في ذلك: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَاً وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (البقرة/ 125-129).

فيستجيب الله هذا الدعاء ويبعث النبيّ الأكرم (ص) ويقول تعالى في القرآن الكريم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة/ 2).

والملاحظ في كلّ هذه الآيات أنّها تطوف حول محور أصيل، وهو التسليم لله تعالى. ولذا تحمّلت هذه العائلة كلّ المشاق تسليماً لله، فكلّ مسلم عاش حياة السلم كان من ضمن هذه العائلة المقدّسة الموحّدة... عائلة خليل الله.

6 ـ الوقوف بعرفة والمزدلفة: قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة/ 198).

1 ـ ورد أنّه يوم دعاء ومسألة[20].

2 ـ وجاء عنهم (ع) أنّه «وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم فان الشيطان لن يذهلك في موطن قط أحب إليه من أن يذهلك في ذلك الموطن، واياك ان تشتغل بالنظر إلى الناس، وأقبل قِبَلَ نفسك»[21].

3 ـ وتواترت الأخبار في أدعية عرفة ومنها رواية دعاء الحسين (ع) يوم عرفة.

4 ـ وجاء في خبر عن النبيّ (ص) أنّ علة إيجاب الوقوف بعرفات بعد الظهر، والانصراف بعد المغرب، هي كون الوقت الأوّل يناسب وقت عصيان آدم والآخر وقت التوبة عليه[22].

5 ـ وعن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (ع) قال: «أصبح على طهر بعد ما تصلي الفجر فقف إن شئت قريباً من الجبل، وإن شئت حيث شئت، فإذا وقفت فاحمد الله عزّوجلّ، وأثن عليه، واذكر من آلائه وبلائه ما قدرت عليه، وصلّ على النبيّ (ص) ثمّ ليكن من قولك: (اللّهُمّ ربّ المشعر الحرام فك رقبتي من النار، وأوسع عليَّ من رزقك الحلال)»[23].

إلى ما هناك من الأخبار الكثيرة في هذا الصدد. وإذا أردنا أن نتحدّث عن بعض المشاعر التي يشعر بها الحاجّ في هذا الموقف الجليل استطعنا أن نذكر منها ما يلي:

أ ـ فرصة الدُّعاء: فقد رأينا بعض الأخبار التي تؤكّد على الدُّعاء، كما أنّ الروايات الواردة فيما يقرأ آنذاك كثيرة، وكلّها جاءت تشبع رغبة الإنسان في الدُّعاء والتضرع في هذا الموقف الرائع. ولن نحاول هنا التعرّض إلى دور الدُّعاء في حياة الإنسان، وإنّما نشير إليه باعتباره عاملاً مهماً في نفسه لتركيز عبودية الإنسان لربّه خصوصاً، بل ولتركيز كلّ المفاهيم والأخلاق الإسلامية إذا كانت له مضامين عالية كالذي ورد عن الأئمّة (ع) من ثروة دعائية لا تُقدَّر بثمن فإنّها كانت أدعية ركّزت العقيدة الصحيحة، والمفاهيم الحقّة والأخلاق الإسلامية في المسلم، ولنختر بهذه المناسبة أحد أروع الأدعية وهو دعاء الحسين (ع) الوارد في يوم عرفة ونقرأه لنجد الدليل الواضح على ذلك. وهذه فقرات منه:

(اللّهُمّ إنّي أرغب إليك، وأشهد بالربوبية لك، مقراً بأنّك ربّي وإليك مردّي، ابتدأتني بنِعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً.. فابتدعت خلقي من مني يمنى، وأسكنتني في ظُلمات ثلاث بين لحم ودم وجلد، لم تشهدني خلقي، ولم تجعل لي شيئاً من أمري، ثمّ أخرجتني للذي سبق لي من الهدى... حتى إذا اكتملت فطرتي واعتدلت مرتي (قوّتي) أوجبت عليَّ حجّتك بأن ألهمتني معرفتك...). (اللّهُمّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وأخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أُحبّ تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت، اللّهُمّ اجعل غناي في نفسي، واليقين في قلبي، والإخلاص في عملي، والنور في بصري، والبصيرة في ديني، ومتعني بجوارحي، واجعل سمعي وبصري الوارِثَينِ مني، وانصرني على من ظلمني.(

ب ـ تذكّر القيامة: وتجسمها بمثل هذا الموقف الرهيب حيث تمتلئ الصحراء بالحجيج في ثيابهم البيض التي تشبه الأكفان، تصهرهم أشعة الشمس، والوجوه كلّها تعنو للحيّ القيوم... إنّ الدُّعاء ليكتسب له معنىً خاصاً في مثل هذا الجو المفعم بالخشوع.

ج ـ التوبة: فقد حدّثتنا بعض الروايات أنّ هذا الوقت يشكّل ببُعديه وقت عصيان آدم ووقت توبته، وهي التجربة البشرية الأُولى التي مرّ بها آدم فندم عليها وتاب الله عليه، وهذا الجوّ الذي أوحت به الروايات وهو القيامة وجو الدُّعاء كلّها تشترك لتركّز مفعول التوبة في النفس، لتكون توبة نصوحاً.

د ـ الحياة الخالصة لله: وهذا المعنى يحسّ به المسلم تماماً حين يجد نفسه وقد ترك كلّ مشاغله ليعيش لله مطهراً نفسه من أدرانها ومعاهداً الله على أن يحوّل حياته بعد الموقف كلّها حياة مرضية له تعالى.

هذا إلى ما هنالك من المشاعر، ومنها شعور الإنسان بعظمة الإسلام الذي يستطيع أن يجمع القلوب والأجسام على صعيد واحد وتذوى حينذاك كلّ التفرقة الوهمية، وشعوره بأنّ هؤلاء جميعاً أينما وجدوا وكانوا هم أخوة له يقفون موقفه، ويدعون بدعائه، ويستهدفون هدفه، وغير ذلك.

7 ـ رمي الجمار: روى الصدوق عن النبيّ (ص) والأئمّة (ع) إنّما أُمر برمي الجمار لأنّ إبليس اللعين كان يتراءى لإبراهيم في موضع الجمار فيرجمه إبراهيم (ع) فجرت بذلك السنة[24].

قال: وقال (ع): الحاجّ إذا رمى خرج من ذنوبه[25]. وروى الكليني عن أبي عبدالله (ع) قال: قلت: ما أقول إذا رميت؟ قال: «كبّر مع كلّ حصاة».

وأهم ما يبدو للإنسان في هذا المنسك الرائع هو هذا الرمي المجموعي لرموز الشيطان واحداً بعد الآخر تعبيراً حسياً عن لزوم نفي الشرّ من الأرض بعد اتّباع طريق الخير، والطواف حول رمز الخير الكعبة. والجميل في الأمر أنّ المسلم يشعر إذ يطوف حول مركز واحد، ويرمي رموزاً للشرّثلاثة، بأنّ طريق الله واحد في حين أنّ طُرق الشيطان متعدّدة.

وباستحباب التكبير له عند كلّ رمية يشترك اللفظ في الموقف ليؤكّد في شعور الإنسان عهده لله تعالى بأن يرمي الشرّ والشيطان ولا يتبعهما، ويبقى وفياً لعقيدته بأنّ الله خالق كلّ شيء وفوق كلّ قوّة.

8 ـ الذبح: وهو جانب مهم من مناسك الحجّ، ويؤكّد على الوجه الاجتماعي للعبادات. إذ أنّ الذبح في كلّ عام يوفِّر للفقراء مقداراً كبيراً من الطعام ـ وإن لم يعمل المسلمون على الاستفادة منه بشكل أحسن ـ على أنّ الحاجّ إذ يقوم بهذا المنسك يتأكد في نفسه عنصر مواساة الفقراء وإطعامهم، وتخليص المجتمع من مآسي الجوع. وهنا يتجلّى أيضاً معنى التضحية العملية التي قام بها إبراهيم (ع) بتقديم وُلده العظيم إسماعيل. وتتوارد خواطر التسليم المطلق لأمر الله، وتتردّد صرخة إسماعيل المسلم (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) (الصافات/ 102) ممّا يُوجد شعوراً لدى المسلمين بقيمة الأوامر الإلهية، ولزوم التسليم لها حتى لو لم تعلم الحكمة فيها، لأنّها قد صدرت من لدن حكيم خبير.

9 ـ الحلق: في الرواية عن أبي عبدالله (ع) أنّه سُئِل: كيف صار الحلق على الصرورة واجباً دون من قد حجّ؟

قال: «ليصير بذلك موسوماً بسمة الآمنين، ألا تسمع قول الله عزّوجلّ: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ) (الفتح/ 27)»[26]، وكأنّ الحلق أصبح علامة للمسلمين تميزهم عن غيرهم. ومن هنا يحلق الحجاج لينضموا إلى الرعيل المؤمن المسلم عبر التاريخ.

وهكذا:

فقد رأينا كيف أنّ الحجّ بنظرة إجمالية، وبنظرة تفصيلية يشكّل أروع الأساليب التربوية التي قام بها الإسلام لتهذيب النفوس وتأكيد سيرها على خطّ التكامل.

 

[1]- سفينة البحار، عبّاس القمي، ج1، ص211.

[2]- المصدر السابق نفسه.

[3]- المصدر السابق نفسه.

[4]- المصدر السابق نفسه، ص210.

[5]- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج9، ص3.

[6]- المصدر السابق نفسه، ص47.

[7]- المصدر نفسه، ص48.

[8]- المصدر السابق نفسه.

[9]- المصدر نفسه، ص49.

[10]- المصدر نفسه، ص50.

[11]- المصدر السابق نفسه، ص76.

[12]- المصدر نفسه، ص91.

[13]- المصدر السابق نفسه، ص93.

[14]- المصدر نفسه، ص321.

[15]- المصدر السابق نفسه، ص325.

[16]- المصدر نفسه، ص386.

[17]- المصدر نفسه، ص388.

[18]- المصدر نفسه، ص401.

[19]- المصدر نفسه، ص403.

[20]- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 10.

[21]- المصدر نفسه، ج 10، ص15-16.

[22]- المصدر نفسه، ص 24.

[23]- المصدر نفسه، ص 45.

[24]- المصدر نفسه، ص 69.

[25]- المصدر نفسه، ج10، ص68.

[26]-  المصدر نفسه، ج10، ص188.

قراءة 874 مرة