"إنّ البُعد السياسيّ والاجتماعيّ للحجّ لا يتحقّق إلّا بعد أن يتحقّق البُعد المعنويّ"
الإمام الخمينيّ قدس سره
مكّة: مدينة جهاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
من النقاط المهمّة الّتي ينبغي على الحجّاج الكرام الالتفات إليها، أنّ مكّة المكرّمة والمشاهد المشرّفة مرآة لنهضة الأنبياء والإسلام ورسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مكان نزل فيه الأنبياء وجبريل الأمين عليهم السلام، هذا المكان الّذي يذكّرنا بالمصائب والصعوبات الّتي تحمَّلها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الإسلام والبشريّة لعدد من السنين، وأنّ التواجد في هذه المشاهد المشرّفة والأماكن المقدّسة. وإذا ما أخذنا بعين الإعتبار الشروط الصعبة لبعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، عرفنا أكثر مسؤوليّة الحفاظ على إنجازات هذه النهضة وهذه الرسالة الإلهيّة، وكم عانى النبيّ الأكرم وأئمّة الهُدى من الغربة لأجل دين الحقّ وإزهاق الباطل. لقد استقاموا ووقفوا ولم يهابوا أو يجزعوا من التهم والإهانات وجراحات ألسنة أمثال أبي لهب وأبي جهل وأبي سفيان. وفي نفس الوقت استمرّوا وأكملوا طريقهم رغم الحصار الإقتصاديّ في شعب أبي طالب، ولم يستسلموا ولم يهنوا، ومن بعدها تحمّلوا الهجرات والمرارات في سبيل دعوة الخلق، وتبليغ رسالة الله، وتواجدوا في
الحروب المتتاليّة والغير متكافئة وهم رغم الآلاف من المؤامرات ورغم كثرة المنافقين، قاموا بهداية وإرشاد الناس بهمّة عالية وصلبة حيث تشهد صخور مكّة والمدينة وصحاريها وجبالها وأزقّتها وأسواقها على آثار تبليغ رسالتهم. وإذا ما رفعنا الستار وكشفنا النقاب عنهم في الكلام وعن سرّ ورمز تحقّق: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾1. لعرف وعلم زوّار بيت الله الحرام كم سعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجل هدايتنا وحصول المسلمين على الجنّة، وكم أنّ مسؤوليّة أتباعه ثقيلة، ويقيناً إنّ حجم الظلم والعذاب والصعوبات الّتي مرّت على أئمّتنا كانت أكبر وأكثر بمراتب من مسائلنا نحن.
الكعبة مركز التولّي والتبرّي
إنّ الكعبة المعظّمة هي المركز الأوحد لتحطيم الأصنام، لقد رفع نداء التوحيد من الكعبة إبراهيم الخليل في أوّل الزمان وسيرفعه حبيب الله ولده المهديّ العزيز الموعود | في آخر الزمان، وسيبقى مرتفعاً. قال الله تعالى لخليله إبراهيم:
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾2.
وقال عزّ من قائل: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾3. وهذا تطهير من كلّ الأرجاس وعلى رأسها الشرك كما في صدر الآية الكريمة، وفي سورة التوبة نقرأ: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾4.
المسجد الحرام بيت الجميع
بيت الله الحرام أوّل بيت بُني للناس، هو بيت للجميع، الجميع سواسية هناك. فأهل البادية، وسكّان الصحارى، والّذين يحملون بيوتهم على أكتافهم، متساوون مع العاكفين في الكعبة وسكّان المدن، ورعايا الدول.
هذا البيت شُيّد للناس ولأجل منافعهم، ونهضتهم.
المسجد الحرام ليست للعبادة فقط
إنّ المسجد الحرام والمساجد الأخرى في زمان رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت مراكز عسكريّة وسياسيّة واجتماعيّة ولم يكن مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجل الأمور العباديّة فقط كالصلاة والصيام، بل كانت المسائل السياسيّة هي الأغلب، فكانت الأمور الّتي تتعلّق بإرسال الرجال إلى الحرب وتعبئة الناس إنّما تبدأ من المسجد في أيّ وقت يحتاجون فيه لذلك.
أهميّة البُعد المعنويّ للحجّ
إنّ المراتب المعنويّة للحجّ هي رأسمال الحياة الخالدة وهي الّتي تُقرّب الإنسان من أُفق التوحيد والتنزيه، وسوف لن نحصل على شيء ما لم نطبّق أحكام وقوانين الحجّ العباديّة بشكل كامل وصحيح، وعلى الحجّاج المحترمين والعلماء المعظّمين مسؤولي قوافل الحجّاج أن يصرفوا وقتهم ويكون كلّ همّهم تعلّم وتعليم مناسك الحجّ، وعلى العارفين مراقبة من يرافقهم حتّى لا يتخلّف أحدٌ عن الأوامر لا سمح الله، إنّ البعد السياسيّ والاجتماعيّ للحجّ لا يتحقّق إلّا بعد أن يتحقّق البُعد المعنويّ والإلهيّ وأن تكون كلمة "لبّيك" الّتي تتلفّظون بها استجابة لدعوة الحقّ تعالى. وأنتم مُحرمون لأجل الوصول إلى ساحة الحقّ المقدّسة تشعرون بأنفسكم أنّكم بالتلبية للحقّ تعالى، تنفون صفة الشرك بجميع مراتبها، وتهاجرون بأنفسكم الّتي هي منشأ الشرك الأكبر نحو الباري جلّ وعلا، والأمل في أن ينال الباحثون عن ذلك أجرهم - وهو على الله - فيما لو أدركهم الموت وهم في طريق هجرتهم.
كان نفي الشريك في هذا المقام أيضاً شامل لجميع المراتب حتّى بناء العالم في نظر أهل المعرفة ومشتمل على جميع الفقرات الاحتياطيّة والاستجابيّة مثل "الحمد لك والنعمة لك".
والحمد هنا من اختصاص الذات المقدّسة، وكذلك النعمة ونفي الشريك، وهذا غاية التوحيد عند أهل المعرفة، وهذا يعني أنّ كلّ حمد
وكلّ نعمة تتحقّق في عالم الوجود، هي حمد الله بدون شريك، ويسري هذا المقصد وهذه الغاية على كلّ موقف ومَشعر ووقوف وحركة وسكون وفي أيّ عمل، وخلاف ذلك إنّما يكون الشرك بالمعنى الأعمّ، المبتلون به نحن جميعاً عُمي القلوب.
.... وإذا ما دفنّا في عالم النسيان الجهات المعنويّة، لا تظنّوا أنّكم قادرون.
سرُّ التلبية
إنّ هذه المناسك العجيبة كلّها إشارات عرفانيّة وروحيّة لا يتّسع المجال لتفصيلها في هذا المقال. بدءاً من الإحرام والتلبية وحتّى آخر المناسك. لذا سأكتفي بذكر بعض إشارات التلبية.
إنّ لبَّيك الّتي تتكرّر عدّة مرّات من إنسان، حقيقته أنّه يستجيب لدعوة الله بالاسم الجامع، ويستمع بروحه لنداء الحقّ، فالمسألة هي مسألة الحضور بين يدي الله ومشاهدة جمال المحبوب. ويُحكى أنّ المتحدّث في هذه الساحة المقدّسة يتجاوز ذاته ليفنى وهو يكرّر استجابته للدعوة ويعقّب بعد ذلك بنفي الشريك لله بالمعنى المطلق الّذي يعلمه أهل الله. ليس الشريك في الألوهيّة فقط، وإنّما على التخلّص والتحرّر من مخالب شيطان النفس. وما دمتم في أسر وقيد ذواتكم وأهوائكم النفسانيّة، لن تستطيعوا الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن حرمات الله.
وأنتم أيّها الأعزّاء، ارجعوا إلى ذواتكم، وفكّروا بأبطال الجمهوريّة الإسلاميّة الّذين حقّقوا الانتصارات الإلهيّة لأجل الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة. والآن يوجد بينكم بعض من الشهداء الأحياء يؤدّون مناسك الحجّ معكم، فخذوا العبرة من هذا التحوّل العظيم الّذي حصل في داخلهم، وكان سبباً لكلّ التضحيات والفداء. وليعلم المسلمون أنّه ما لم تحصل في داخلهم درجة من هذه التحوّلات، فإنّ شيطان النفس الأمّارة بالسوء، وشياطين الخارج، لن يدعوهم يفكّروا بالأمّة الإسلاميّة ومظلومي العالم.
تحرّروا من غير الله
في المواقيت الإلهيّة والمقامات المقدّسة، في جوار بيت الله المليء بالبركات، راعوا آداب الحضور في الساحة المقدّسة للعليّ العظيم، وحرّروا قلوبكم أيُّها الحجّاج الأعزّاء من جميع الارتباطات المتعلّقة بغير الله، وأخرجوا من قلوبكم غير حبّ الله ونوّروها بأنوار التجليّات الإلهيّة، حتّى تكون الأعمال والمناسك في سيرها إلى الله مليئة بمضمون الحجّ الإبراهيميّ وبعده بالحجّ المحمّديّ، وبمقدار تخفيف الحمل من أفعال الطبيعة يسلم الجميع من أوزار المنى والمنيّة، وبحمل ثقل معرفة الحقّ وعشق المحبوب تعودون إلى أوطانكم وتجلبون للأصدقاء هدايا النعم الإلهيّة الأزليّة بدل الهدايا الماديّة الفانية، وبقبضات مليئة بالقيم الإنسانيّة الإسلاميّة الّتي بُعث لأجلها الأنبياء العظام من إبراهيم خليل الله عليه السلام إلى
محمّد حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم، تلتحقون بالرفاق عشّاق الشهادة. هذه القيم والدوافع الّتي تحرِّر الإنسان من أسر النفس الأمَّارة بالسوء، وتنجّي من الارتباط الشرق والغرب، وتوصل إلى شجرة الزيتون المباركة اللاشرقيّة واللاغربيّة.
الحجّ سؤال الله
انتبهوا إلى أنّ السفر إلى الحجّ ليس سفراً للتجارة، وليس سفراً لتحصيل أمور الدنيا، إنّما هو سفر إلى الله. أنتم ذاهبون إلى بيت الله الحرام، فأتمّوا كلّ الأمور والأعمال المطلوبة منكم بطريقة إلهيّة. إنّ سفركم الّذي يبدأ من حين التهيّؤ هو وفادة إلى الله، سفر إلى الله تعالى، وكما أنّ المسافرين إلى الله أمثال الأنبياء عليهم السلام والعظماء من ديننا، مسافرون إلى الله في جميع أحوالهم وأوقات حياتهم، ولم يتخلّفوا خطوة واحدة عن أيّ شيء في برنامج الوصول إلى الله، أنتم أيضاً تذهبون الآن وفوراً إلى الله، في الميقات الّذي تذهبون إليه تلبّون فيه نداء الله، وتقولون لبّيك الّلهمّ لبّيك، يعني أنت تدعونا ونحن نجيب الدعوة. معاذ الله أن تقوموا بعمل لا يرضاه الله تبارك وتعالى، أنا لا أقبل، ولا أُريدكم إذا كنتم غير إسلاميّين. معاذ الله أن تجعلوا هذا السَّفر سفراً للتجارة أو تبحثوا الأمور والمسائل التجاريّة فيما بينكم، أيّها السادة أهل العلم، أيّتها القوافل، يا رؤساء القوافل، يا سائر الحجاج، هذا السَّفر سفرٌ إلى الله وليس سفراً إلى الدنيا، فلا تلوّثوه بها.
أخلصوا في الحج
إنّ أهمّ الأمور في جميع العبادات هو الإخلاص في العمل وإذا قام شخص لا سمح الله بعمل ما لأجل التظاهر به أمام الآخرين، وعرَض عمله الجيّد أمامهم، فإنّه يُصبح باطلاً. ولينتبه الحجّاج المحترمون وليواظبوا على عدم إشراك غير الله في أعمالهم.
إنّ الجهات المعنويّة للحجّ كثيرة، والمهم أن يعرف الحاجّ إلى أين يذهب ودعوة من يلبّي؟ وأنّه ضيف من؟ وما هي آداب هذه الضيافة؟
وليعلم أنّ الغرور والنظرة الذاتيّة لا يجتمعان مع حبّ الله وطلبه، ويتناقضان مع الهجرة إلى الله، وبالتالي تكونان سبباً لنقص معنويّات الحجّ. وإذا ما تحقّقت هذه الجهة المعنويّة والعرفانيّة للإنسان، وإذا ما تحقّقت لبّيك صادقة ومقرونة بنداء الحقّ تعالى، حينها ينتصر الإنسان في جميع الميادين السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وحتّى العسكريّة، ومثل هذا الإنسان لن يعرف الهزيمة. إلهي اجعل جزءاً من هذا السير والسلوك المعنويّ والهجرة الإلهيّة من نصيبنا جميعاً.
ليلتفت أولئك الّذين يذهبون إلى الحج أن لا يخلطوا للحظةٍ حجَّهم بالمعاصي. ينبغي أن يكون كلّ شيء إسلاميّاً وكلّ شيء عبادةَ، لتكن المظاهرات عبادة محضة، ولتكن الشعارات عباديّة، خالية من المعصية، لتكن على النحو الّذي أراده الله، يجب أن تكون هذه المسائل طبق برنامج صحيح قد خُطّط له من قبل, ويجب أيضاً الانتباه لهذه المسائل.
سرُّ المناسك
إنّ الطواف حول الكعبة المشرّفة يعني أنّ الإنسان لن يطوف لغير الله. ورجم العقبات هو رجمٌ لشياطين الإنس والجنّ، وأنتم عندما ترجمون عاهدوا الله أن تقتلعوا شياطين الإنس والقوى المستكبرة من البلاد الإسلاميّة. اليوم كلّ العالم الإسلاميّ أسيرٌ بيد أمريكا، احملوا من الله رسالةً إلى مسلمي القارات المختلفة للعالم الإسلاميّ رسالة أن لا تخضعوا لغير الله ولا تكونوا عبيداً لأحد.
عندما تلفظون لبّيك لبّيك، قولوا لا لجميع الأصنام، واصرخوا لا لكلّ الطواغيت الكبار والصغار، وأثناء الطواف في حرم الله حيث يتجلّى العشق الإلهيّ، أخلوا قلوبكم من الآخرين، وطهّروا أرواحكم من أيّ خوفٍ لغير الله. وفي موازاة العشق الإلهيّ، تبرّأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة والطواغيت وعملائهم وأزلامهم، حيث إنّ الله تعالى ومحبّيه تبرّؤوا منهم، وإنّ جميع أحرار العالم بريئون منهم. وحين تلمسون الحجر الأسود اعقدوا البيعة مع الله أن تكونوا مطيعين وعبيداً له، أينما كنتم وكيفما كنتم. وأن تكونوا أعداءَ أعداءِ اللهِ ورسولِه والصالحين والأحرار.
لا تحنوا رؤوسكم، واطردوا الخوف من قلوبكم، واعلموا أنّ أعداء الله وعلى رأسهم الشيطان الأكبر جبناء وإن كانوا متفوّقين في قتل البشر وفي جرائمهم وجناياتهم. أثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يُريد الوصول إلى المحبوب، حتّى إذا ما وجدتموه
هانت كلّ الأمور الدنيويّة، وانتهت كلّ الشكوك والتردّدات، وزالت كلّ المخاوف والحبائل الشيطانيّة وكلّ الارتباطات القلبيّة الماديّة، وازدهرت الحريّة، وانكسرت القيود الشيطانيّة والطاغوتيّة الّتي أسرت عباد الله.
سيروا إلى "المشعر الحرام وعرفات" وأنتم في حالة إحساس وعرفان، وكونوا في أيّ موقفٍ مطمئنّي القلب لوعد الله الحقّ بإقامة حكم المستضعفين. وبسكون وهدوء فكّروا بآيات الله الحقّ، وفكّروا بتخليص المحرومين والمستضعفين من براثن الاستكبار العالميّ، واطلبوا من الحقّ تعالى في تلك المواقف الكريمة تحقيقَ سُبل النجاة، بعد ذلك عندما تذهبون إلى "مِنى" اطلبوا هناك أن تتحقّق الآمال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحبّ شيء في طريق المحبوب المطلق، واعلموا أنّه ما لم تتجاوزوا هذه الرغبات والّتي أعلاها حبّ النفس وحبّ الدنيا التابع لها، فسوف لن تصلوا إلى المحبوب المطلق. وفي هذه الحال ارجموا الشيطان، واطردوه من أنفسكم وكرّروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناءً على الأوامر الإلهيّة، لدفع شرّ الشياطين وأبنائهم عنكم.
لا ترجموا أنفسكم
إنّ هذا السَّفر الإلهيّ الّذي تذهبون إليه وترجمون فيه الشيطان، إذا ما كنتم لا سمح الله من جنود الشيطان فسترجمون أنفسكم أيضاً. وأنتم يجب أن تكونوا فيه رحمانيّين، وأن تصبحوا رحمانيّين، حتّى
يكون رجمكم رجم أتباع الرحمن وجنودِه للشيطان، أنتم تقفون في تلك المواقف والمواضع الكريمة، معاذ الله أن يتلوّث وقوفكم بشيء خلاف الشرع، أو يتلوّث بالمعصية، ففضلاً عن إراقة ماء الوجه أمام الله تسقط كرامة الإسلام في الدنيا. اليوم كرامة الإسلام متقوّمة بوجودكم، أنتم الّذين تذهبون جماعات جماعات إلى تلك المواقف الكريمة ويشاهدكم سائر المسلمين.
لا حجّ كامل بدون حجّ صحيح
إنّ المراتب المعنويّة للحجّ هي رأسمال الحياة الخالدة بحيث تُقرّب الإنسان من أفق التوحيد والتنزيه، وسوف لن نحصل على النتيجة ما لم ننفّذ أحكام وقوانين الحجّ العباديّة بشكل صحيح ولائق.
على الحجّاج المحترمين والعلماء المعظّمين مسؤولي قوافل الحجّاج أن يصرفوا وقتهم ويكون كل همّهم هو تعلّم وتعليم مناسك الحج وعلى العارفين مراقبة من يرافقهم حتّى لا يتخلّف أحد عن الأوامر.
على أيّة حال هذه وظيفة العلماء الموجودين في القوافل يعني هي إحدى وظائفهم، وإنّ إحدى الوظائف المهمّة أيضاً تعريف الناس بمسائل الحجّ، إنّنا نرى الكثيرين من الأشخاص الّذين يذهبون إلى الحجّ ويتحمّلون المصاعب لا يعرفون مسائل الحجّ ويصبحون مقيّدين بحركتهم هناك، وعندما يعودون وبعد عدّة سنوات يسألون: أنّنا قد أنجزنا عملنا على الشكل التالي، فهل حجّنا صحيح أم لا؟ فهل نحن ما زلنا على إحرامنا أيضاً أم لا؟ فيجب على السادة العلماء أن يعقدوا
جلسات للتدريس ويفقّهوا الناس بآداب الحجّ، واجبات الحجّ، محرّمات الحجّ. فإذا لم يتعلّموا الآداب، فليس في ذلك إشكال، أمّا المحرّمات والواجبات، فيجب تعليمها للناس يوميّاً، ويجب على الناس أيضاً الذهاب عند السادة العلماء لحضور هذه الدروس، فإذا ما انعقدت هذه الدروس فيجب أن يذهبوا إليهم ويستمعوا ويتعلّموا مسائل الحجّ حتّى لا يُصبحوا مأسورين فيما بعد عند عودتهم ويتساءل أحدهم كيف كان طوافي، هل كان صحيحاً أم لا؟
فعندما تتعلّمون المسائل فالعمل حينئذ يكون صحيحاً وخالياً من الأخطاء. وأيضاً إنّ إحدى الوظائف الملقاة على الجميع ـ ويجب على العلماء القيام بها هناك، كما يجب على عامّة الناس ـ هي تعلّم مسائل الحجّ وعدم الاكتفاء بأنّنا ذهبنا إلى الحجّ وأنجزنا عملنا كيفما كان.
كلّا الأمر هنا مختلف عن كلّ الأماكن الأخرى. فالإنسان الّذي يذهب للزيارة مثلاً ولم يُنجز الأعمال المتعلّقة بها على النحو الصحيح سوف لن تسبّب له أيّ إشكال أو مشكلة، أمّا هنا في الحجّ فإنّها تسبّب له إشكالا لأنّه ما زال مُحرماً! وهذا يعني أنّه يجب عليه أن يذهب ثانية إلى الحجّ وهو يواجه الكثير من هذه الإشكالات لذا ومن أجلكم أنتم عليكم أن تتّبعوا هذه المسائل وتتعلّموها، حتّى لا تقعوا في الاشتباه والخطأ ولا تكون سبباً لتعبكم فيما بعد، وهذه أيضاً إحدى المسائل.
الأُنس بالقرآن في الحجّ
إنّي أذكِّر الحجّاج المحترمين أن لا يغفلوا في جميع المواقف المعظّمة وطيلة فترة سفرهم إلى مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة عن الاستئناس بالقرآن الكريم، هذه الصحيفة الإلهيّة وكتاب الهداية، لأنّ كلّ ما عند المسلمين وما سيكون، على طول امتداد التاريخ الماضي وكذلك في المستقبل، إنّما هو من بركات هذا الكتاب المقدّس، ولذا أرجو من العلماء الأعلام، وأبناء القرآن، والمفكّرين العظام، أن يستفيدوا من هذه الفرصة ولا يغفلوا عن هذا الكتاب المقدّس ففيه تبيانٌ لكلّ شيء.
هذا الكتاب السماويّ الإلهيّ الّذي هو الصورة العينيّة والكتبيّة لجميع الأسماء والصفات والآيات والبيّنات، ونحن عاجزون عن إدراك مقاماته الغيبيّة، ولا يعلم أحد أسراره غير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، حيث أدركه خلّص الأولياء العِظام ببركة الذات الإلهيّة المقدّسة والقرآن ينهل منه خُلّص أهل المعرفة، وعلى قدر استعداداتهم ومراتب سلوكهم بفضل مجاهداتهم ورياضاتهم القلبيّة. والآن وهو في صورته المدوّنة بعد نزوله بلسان الوحي وصلنا دون نقص أو زيادة حرف، ومعاذ الله أن يُصبح مهجوراً إلّا أنّ أبعاده المختلفة والّتي ينطوي في كلّ بعد منها على مراحل ومراتب بعيدة عن متناول البشر العاديّين، ولكنّ أهل المعرفة والتحقيق في مختلف فروعه وبنسبة العلم والمعرفة والاستعداد لديهم من خلال بياناتهم وخطبهم وأحاديثهم المتفاوتة
إنّما يقرّبون الفهم من هذه الخزائن اللامتناهية بالعرفان الإلهيّ والبحر الموّاج للكشف المحمّدي ويقدّمونه للآخرين، وأن يقوم أهل الفلسفة والبرهان ببحث ودراسة الرموز الخاصّة لهذا الكتاب الإلهي وكشف أصل الأدلّة الفلسفيّة الإلهيّة لإشارات تلك المسائل العميقة ويضعوها في متناول أهلها. وأن يقوم المستقيمون أصحاب الآداب القلبيّة والمراقبات الباطنيّة والّذين حصلوا على رشفة وجرعة من عوالم "أدّبني ربّي" ويقدّموها هديّة لأجل أولئك العُطاشى لهذا الكوثر ويؤدّبوهم بالحدّ الميسور بآداب الله. ويقدّم المتّقون لعُطاشى الهداية بارقةً من نور التقوى الّتي نهلوها من هذا النبع الفوّار ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ 5، هديّة لأجل العشّاق الّذين يتحرّقون لنور هداية الله.
وأخيراً إنّ أيّ طائفة من العلماء الأعلام والمفكّرين العظام، الّذين بروا أقلامهم لكشف بُعدٍ من الأبعاد الإلهيّة لهذا الكتاب المقدّس وحقّقوا آمال عاشقي القرآن، وصرفوا وقتهم في سبر أغوار الأبعاد السياسيّة، الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، العسكريّة، الثقافيّة، والحرب والصلح في القرآن، حتّى أصبح معلوماً أنّ هذا الكتاب هو منبع كلّ شيء، بدءاً من العرفان والفلسفة إلى الأدب والسياسة، حتّى لا يقول الجهلة والّذين لا يعرفون شيئاً إنّ العرفان والفلسفة ليسا سوى نسج من الخيال ليس أكثر، وإنّ السير والسلوك والرياضة النفسيّة إنّما هي من عمل الدراويش. أوْ ما شأن الإسلام بالسياسة والحكومة، وإدارة
البلاد، إنّ هذا من اختصاص وعمل الملوك والسلاطين ورؤساء الجمهوريّات وأهل الدنيا. أو إنّ الإسلام هو دين الصلح والمساومة وإنّه بريء من الحروب والجدال مع الظالمين وينسبون هذه الأمور للقرآن...
يجب أن نعلم أنّ الحكمة هي أنّ هذا الكتاب الخالد الأبديّ إنّما هو لأجل هداية وإرشاد البشريّة من أيّ لون أو قوميّة وفي أيّ قُطب أو قِطر وحتّى قيام الساعة. وأن تبقى المسائل الحياتيّة المهمّة حيّة سواءً فيما يخصّ المعنويّات أو فيما يتعلّق بنظام الملكيّة. وإفهام الناس أنّ مسائل القرآن ليست لعصرٍ وجهةٍ خاصّة، ولا يُظنّ أنّ هدف إبراهيم وموسى ومحمّد عليهم وعلى آلهم السلام يختصّ بزمان خاصّ.
1- سورة هود، الآية: 112.
2- سورة الحجّ، الآية: 27.
3- سورة الحجّ، الآية: 26.
4- سورة التوبة، الآية: 3.
5- سورة البقرة، الآية: 2.