أسس وقواعد في تربية الأبناء.

قيم هذا المقال
(0 صوت)
أسس وقواعد في تربية الأبناء.

 قال الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } صدق الله العليُّ العظيم.

 لازال الكلام موصولاً حول بعض الأسس والقواعد التي أولاها الإسلام عناية فائقة، لما لها من تأثير في السلوك التربوي على الأبناء، والمربي أو الوالدان إذا لم يتوجها لأهمية هذه القواعد فإنّ التربية قد تُصاب بإخفاق كبير، وبالتالي لا تستطيع تلك الأم وذلك الأب أن يحصدا تلك الثمار الطيبة من الجهد في التربية . ومن هذه القواعد التي ينبغي أن يلحظها المربي: 

الأولى : حب الذات
حب الذات أمر فطري للإنسان، ينبثق منه الاعتماد على النفس، وهذا الحب للذات الذي غرسه الباري تبارك وتعالى بيد قدرته في كنه وجود الإنسان له جنبتان:
جنبة إيجابية : تعود على الإنسان بالنفع والخير العميمين.
جنبة سلبية : تُؤثر سلباً في سلوك الإنسان نحو الكمال.

وعلى المربي الناجح أن يرعى ذلك الجانب الإيجابي من حب الذات باعتبار - كما أشرنا آنفاً - أنّ خصال الخير الحميدة وبالذات فن الاعتماد على النفس ينبثق من حب الإنسان لذاته، وحتى ندرك أهمية حب الإنسان لذاته لابد أن نزيد هذا المطلب إيضاحاً، وذلك بأنّ نُؤكد على أنّ الإنسان يرى بوجدانه الحب والمودة لمن يُحسن إليه، كما أنّ من يسيء إليه يعتبره عدواً له، أي يبغض من يسيء إليه ويُحبُّ من يُحسن إليه، وهذا مبدأ عام، ينبثق أيضاً من قاعدة يشير إليها الفلاسفة والعلماء من المسلمين وغير المسلمين، وحتى أنّ الفيلسوف الكبير (جون ديوي) أشار لهذه القاعدة عندما قال: ((أنّ مسألة الحيازة على الاهتمام هي أهم محرك ودافع يدفع الإنسان إلى التألق والوصول إلى الكمال)) فهذا الفيلسوف يشير إلى أنّ الإنسان عالم عظيم ينطوي على الأهمية من خلال مسألة  الحيازة، التي تساوق وتساوي حب الذات.

الثانية : أهمية مبدأ الإحسان إلى الآخرين
       الإحسان قانون عام يتمثل في العطاء والتشجيع للإيصال إلى الكمال من غير أن يكون هذا العطاء مشوباً بالمن أو الإيذاء.ولذا، نجد أنّ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام أبانوا مفصحين عن أهمية الإحسان غير المشوب بالمن والأذى، فالإمام الصادق عليه السلام يُبلور هذا المفهوم في طائفة من الأحاديث الواردة عنه التي يقول فيها ((جُبلت القلوبُ على حُب من نفعها وبُغض من ضرها))، وعنه عليه السلام: ((طُبعت القلوبُ على حُب من أحسن إليها وبُغض من أساء إليها)) وهكذا يُفصِّل الأئمة من أهل البيت عليهم السلام في طائفة من الأحاديث أهمية التعامل الإيجابي الذي يحصل عليه المربي من خلال العطاء وإضفاء الاحترام والتقدير على الغير، باعتبار أنّ ذلك الغير سيتولد في وجوده الحب الذي يبادلك به المشاعر والعواطف والأحاسيس، التي بدورها تجعل ذلك الولد كالأرض الصالحة القابلة لإنبات البذور الطيبة، وعلى العكس تماماً، إذا أساء الإنسان إلى الغير - وبالخصوص ذلك الولد أو تلك البنت – فإنه من المؤكد سوف يمس ذاته بأذى، وسيتولد من هذا المِساس بالإيذاء أو الامتهان للكرامة علاقة تبادلية، أي أنه في الأعم الأغلب من يُسيء إلى ذلك الولد فسوف يجد عدم الاحترام من قِبَله، طبعاً هذا في علاقاته العامة وينعكس هذا الأمر بنسبة أقل بين الابن وأبويه. من هنا يواجه الآباء مشكلة كبيرة، وبالخصوص الذين لديهم أولاد متعددون، يختلفون في المواهب والقدرات ونمط التفكير. فالقلوب جُبِلت على حُب من أحسن إليها، لذا، نجد بعض الأبناء يحسن لأبويه، لوجود علاقة تبادلية تجعل ذلك الحب المتدفق من الأبوين تجاه ذلك الابن البَّار والمُحْسن بشكل أكبر وأعظم، وبالتالي إذا ظهر ذلك الحب تجاه ذلك الابن سيولد مزيداً من التعنت لدى الابن الآخر الذي لا يُحسن لوالديه، لأنه يرى أنه لا يُبَادَل المشاعر والأحاسيس.
والروايات الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام بالإضافة إلى القواعد في هذا المجال - التي أولتها الدراسات الحديثة في علم التربية والنفس عنايةً فائقة - تدعو المربي أن يتأمل ملياً لوضع الدواء في المكان المناسب.

الثالثة : مبدأ التسوية والعدل بين الأولاد
إنّ مبدأ العدل والإحسان بشكل متساوٍ بين الأولاد ذو أهمية كبيرة في التعامل مع الأبناء، ولذا، ينبغي على الوالد الحكيم أن يُخفي ما يدعوه أن يُحسن كثيراً لأحد الأبناء دون الآخر- حتى إذا كان ذلك ناشئاً من بعض الميزات أو البِّر من قِبَل ذلك الابن – كي يساوي في تعامله بين أبنائه بما لا يعود بالضرر عليه أوعليهم. ولذا، نجد القرآن الكريم يُؤكد على أنّ تعامل الإنسان مع أخيه الإنسان يتم على أساس قواعد العدل والإحسان، وبغض النظر عن الانتماء الديني، قال تعالى :{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، وكذلك النبي صلى الله عليه وآله  ركّز على هذا المبدأ في مواقف متعددة، فنجده  صلى الله عليه وآله - عندما رأى ذلك الرجل الذي قام بتقبيل أحد أولاده وترك الآخر- لم يرضَه هذا التصرف، وقال للأب ((فَهلّاَ ساويت بينهما؟))، ويقول صلى الله عليه وآله  أيضاً في موقفٍ آخر: (( اعدلوا بين أولادكم كما تُحبون أن يعدلوا بينكم)) أو ((إليكم)).
فمن أهم طرق التعامل الإيجابي بين الأولاد هو التسوية بينهم في الحنان وتوزيع النظرات والابتسامات، ولذلك نجد أنّ الأئمة من أهل البيت عليهم السلام أبانوا بأنّ سورة يوسف ما جاءت إلا مِِثَالاً لتقويم السلوك التربوي والسير به في المسار الصحيح.
فالنتيجة التي نصل إليها هي أنّ الأضرار التي تترتب على عدم التسوية بين الأولاد ليس مقتصرة على البغضاء فقط، وإنما تُؤدي إلى عُقدة الحقارة والنقص كما يقول العلماء، فهذا الابن إذا لم يُبغض أبويه فإنه لن يصل إلى ما يصبو إليه ذلك الأب أو تطمح إليه تلك الأم من وصول ذلك الولد إلى الدرجة المثلى والمرتبة العالية .  

طرق علاج سلوك الأبناء في مدرسة الأئمة عليهم السلام
إذا تتبعنا الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في طرق العلاج الناجعة والسليمة للأبناء نصل إلى الطرق والأساليب التالية :

الأول: المصانعة والمدارة .
        يقول الباقر عليه السلام: ((والله لأُصانع بعضَ ولدي، وأُجلِسُهُ على فخذي، وأُ كثر له المحبة، وأُ كثر له الشكر، وإنّ الحقَ لغيره من ولدي، ولكن محافظةً عليه مِنه ومِن غيره، لئلا يصنع به ما فَعل بيوسف إخوتُه)) فبعض الأولاد لا يستحق المصانعة نتيجةً لاعوجاج سلوكه ولكن يضطر المربي الناجح لمصانعته، وإعطائه مزيداً من الحنان والمحبة، لئلا تتكرر في بيته قصة يوسف، بأن يكيدوا له إخوتَه وإما أن يكيد لهم، ولذلك، يقول الإمام عليه السلام: (( وأُ كثر له الشكر وإنّ الحقَ لغيره من ولدي، ولكن محافظةً عليه منه (من نفسه)))، فهو عليه السلام يُؤكد خوفه من حسد غيره من الأولاد الذين هم أولى منه، مع كونهم أكثر استحقاقاً منه للعناية والاهتمام، ولكنه يُحسن لهذا الولد كي لا يُسيء لإخوانه الذين يستحقون الإحسان. (( محافظة عليه منه ومن غيره لئلا يصنع به ما فعل بيوسف إخوته))، ثم يقول عليه السلام: ((وما أُنزلت سورة يوسف إلا أمثالاً لكي لا يحسد بعضنا بعضاً كما حسد يوسفَ إخوتُه، وبغوا عليه))، وهذا من روائع الأحاديث التي يشرحها أهل البيت عليهم السلام في كيفية التعامل بشكل حكيم ومدروس من لدن الأب أو الأم، أو حتى المربي الآخر الذي يتولى أيتاماً فيريد أن يُسبغ عليهم حناناً أو عاطفةً أو عطاءً مادياً، فيحاول أن يعدل في إسباغه لتلك النعم المادية والمعنوية على من يتولى رعايتهم.      

الثاني : التصابي ومراعاة مستوى الابن
وهي من القواعد المهمة التي أولاها الأئمة من أهل البيت عليهم السلام عناية كبيرة، وتتجلى أهميتها في السلوك التربوي لانعكاس أثرها الطيب على نفسية الابن، والمقصود من التصابي هو أنّ الصبي ليس بمستوى الإدراك والعلم والثقافة والفهم والقدرات كما هو عليه الأب أو الأم، وبعض الناس يريد أن يتعامل مع أبنائه على حد تعامله مع الكبار، الذين طورتهم التجارب وأنمت خبراتهم بينما الطفل ليس كذلك، فتحتاج أن تنزل إلى مستواه كي يُتاح له أن يرتقي بشكل تدريجي إلى نوع من المستوى الذي يُؤهله لتعلم ما لديك.
وهذه قاعدة أشارت إليها الروايات بعنوان التصابي، أي أن تخفض مستواك لتجعل مستواك الثقافي والعلمي وخبراتك كأنك معه سيان، حتى ينفتح عليك وتنفتح عليه وشيئاً فشيئاً ترفع من مستواه. ولنلحظ ما ورد من الروايات في هذا المجال، يقول النبي صلى الله عليه وآله : ((من كان عنده صبيٌ فليتصابى له))، أي، إذا كان عندك ولد فاجعل نفسك بمستواه. وبعض العلماء تصور أنّ كلمة ((فليتصابى له))، تعني، فقط مسألة اللعب معه، بينما المسألة ليست في مقام اللعب مع الطفل، وإنما ترتبط بتنزيل مستوى القدرات التي وصل إليها ذلك الأب أو المربي إلى المستوى الذي عليه الولد، كي يُتاح له أن يوصل أفكاره وأخلاقه إلى سلوك ذلك الولد، وهذا الأسلوب الرائع له أهميته الفائقة في رفع مستوى الابن الإدراكي والعلمي والثقافي، ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ((من كان له ولدٌ صَبَا))، يعني ليكن في مستواه، أي يكون صبياً كابنه. 

الثالث : التآلف والتأديب
إنّ الولد في - الأعم الأغلب - لا ينسجم إلا مع من يماثله ومن هو على شاكلته، وبالخصوص إذا تفتَّحت مداركه، فيحتاج إلى أسلوب كي تجذبه إليك، أي إعمال بعض قواعد الإثارة وممارسة دوراً إعلامياً في جذبه إليك، وذلك من خلال التودد إليه وتقديم الهدايا وإعطاء بعض المعلومات المؤثرة التي يحبها، وبالتالي يبدأ في عملية تلاحم وتلاقي مع فكرك وهذا ما تشير إليه كلمة التآلف، الواردة في حديث النبي  صلى الله عليه وآله  عندما قال: ((رحم الله عبداً أعان ولده على برِّه بالإحسان إليه، والتآلف له، وتعليمه وتأديبه))، كما أنّ التأديب في الحديث لا يعني أن تجعله مؤدباً وتُسدي إليه النصيحة، وإنما التأديب في اللغة مثل الترويض وممارسة الرياضة، فالإنسان إذا أراد أن يتعلم فناً من فنون الرياضة فهو يحتاج إلى الممارسة المتكررة، والتأديب بنفس المعنى، أي تحاول أن تغرس ما تريد إيصال ذلك الولد أو تلك البنت إليه من خلال التكرار. فالنبي صلى الله عليه وآله  لا يريد منا أن نُعلمه فقط وإنما يريد أن نُؤدبه بمعنى أن نُروض ذلك الولد كي يصل لتلك الدرجة التي نطمح الوصول إليها.

الرابع : إدخال السرور والفرح إلى الابناء
إنّ هناك رواية عن النبي صلى الله عليه وآله  أشارت إلى معاني في غاية الدقة والأهمية للمربي وللأب والأم من أجل إيصال الأبناء إلى درجات من الكمال العلمي والسلوكي، يقول صلى الله عليه وآله : ((من فرَّح ابنته فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل، ومن أقرَّ عين ابنٍ له فكأنما بكى من خشية الله))، فهذه الرواية تشير إلى نقطتين هامتين تتعلقان بالبنت والابن:

 الأولى : هي إدخال الفرح على البنت بالذات، باعتبارها مجموعة من المشاعر والأحاسيس التي قد تُصاب بضغوط طبيعية في الحياة، وتحتاج إلى من يمارس عملية التنفيس عن هذه الضغوط كي لا ترتد عكسياً على شخصية الفتاة، وللأب والأم الدور الأكبر في ذلك، ولذا، نجد النبي صلى الله عليه وآله  يشرح عظمة هذا الدور عندما يَقرنُهُ بثواب عتق شخص من ولد إسماعيل، أي عندما تُدخل الفرح والبهجة على قلب تلك الفتاة فكأنك أعتقت أحد أولاد الأنبياء.
الثانية : هي جعل الابن قرير العين، أي تجعله مرتاح البال، هادئ النفس، مطمئناً في خطواته ولديه استقرار نفساني، هذا العمل الذي تقوم به تجاه ابنك يشير النبي  صلى الله عليه وآله  أنه يُوصلك إلى  قمة العبودية وأعلى مراتب السلوك العرفاني، الذي يُحققه البكاء من خشية الله، فكما أنّ الخشية من الله والبكاء خوفاً منه وشوقاً إليه تجعل الإنسان في أعلى درجات الكمال العبودي كذلك إقرار عين الابن بهذه المثابة.
     وهذه القواعد السلوكية التي أفصح عنها النبي صلى الله عليه وآله  والأئمة من أهل البيت عليهم السلام تجعل الإنسان يدرك أنّ سيره في الاتجاه الصحيح الموصل للولد والبنت إلى الرقي والتقدم والمستقبل الباهر.

قراءة 2005 مرة