لم يعُد ممكناً، في العالم الذي نعيش فيه اليوم، تجاهل أو إنكار الأثر الذي تتركه مواقع التواصل الاجتماعي على تطوّر الطفل ومن ثمّ المراهق، المعاصرين لتلك المواقع، فهو في الواقع، دور يستحيل تجاهله بتربية هذا الطفل، فهو يوازي، كي لا نقول يفوق أحياناً، دور الأهل.
والحقيقة أن شاشات (التلفاز، والكمبيوتر أو الحاسوب، والتابلت، والآيباد، والتلفون الذكي/ المحمول... إلخ) تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من يوميّات معظم العائلات؛ وهي - أي الشاشات - تضاعف عمليّات التواصل الممكنة بين الناس، فتلغي المسافات، وتفتح الأفق على عالمٍ من المعلومات والمعارف وعلى عالم من التواصل من دون وسيط... إلخ.
بفعل هذا الدخول المباشر والإمكانات التي لا حدود لها، تشكّل هذه الشاشات أدوات جديدة تثير العديد من أحاسيس القدرة والفرح، ويستخدمها صغار السنّ بنَهَم؛ الأمر الذي يدفعنا للتساؤل: أيؤدّي ذلك للأفضل أم للأسوأ؟
وللإجابة عن هذا التساؤل، ننطلق من مشاعر الحيرة التي يبديها الأهل والمربّون، بشكل عام، حول انعكاسات هذه الثورة الرقميّة على طفلهم: ألا تعرض هذه الشاشات تلك التحوّلات الضروريّة لنموّه وتطوّره كطفل على مستوى عمليّات التعلّم التي يحقّقها لبناء هويّته الشخصيّة؟ وعلى إمكانيّة أن يشغلوا، كأهل راشدين، مكانهم بالنسبة لتأمين الاحتياجات اللازمة لولدهم ومساعدته على بناء شخصيته ضمن إطار الحياة الاجتماعيّة، لكن مع الحفاظ على فرادته؟
يمكّننا هنا القيام بجولة سريعة في أفق هذه الثورة الرقميّة للاطّلاع على آراء الاختصاصيين بهذا المجال، وعلى آراء علماء النفس والاختصاصيين في عالم الطفولة للتعرّف إلى مختلف الانعكاسات الاجتماعية والنفسية المرتبطة باستخدام الأطفال والمراهقين لهذه الشاشات، نظرًا للاهتمام الكبير الذي أولوه لإيجابيّاتها (من إبداعات ومبادرات فرديّة حقّقها هؤلاء الصغار والمراهقين) ولسلبيّاتها المتعددة والمتنوعة وهي تشتمل على أضرار نفسيّة متعدّدة، يبقى أهمّها إصابة تشكيل الهويّة الشخصية بالاضطراب... وعلى أضرار جسميّة تطال، على سبيل المثال، مشاكل السمع واضطرابات النوم و... إلخ.
وترتبط هذه الأضرار، عموماً، بالإفراط في استخدام مواقع التواصل من جهة، وبجهل الأهل لكيفيّة التعامل مع أولادهم بهذا الخصوص، من جهة أخرى.
أهميّة الشاشات بالنسبة للطفل
يعتبر الإنترنت، والآيباد، والتلفون الذكي والتطبيقات الاجتماعيّة بتعدّد أنواعها من غوغل، ويوتيوب، وتويتر، وألعاب على الخط، وواتساب،... إلخ، التي تنتشر في جميع مجالات الحياة بمنزلة شاشات في نظر الطفل؛ إنّها أدوات تواصُل قيّمة جدّاً في تقريب المسافات، وفي توسيع المدى المعرفي لدى الإنسان المعاصر، وفي تجديد معارفه، وفي تسريع الاتّصالات التي يقوم بها حاليًّا؛ كما أنّها أيضاً في تجدّد دائم.
وقد كشفت العيادة النفسيّة للأطفال والمراهقين، في هذا الإطار، عن نهمهم بالنسبة إلى هذه الأدوات، إذ يمنحهم استخدامهم لها العديد من المشاعر والأحاسيس التي تُشعرهم بالقوّة والفرح؛ أمّا الأهل فقد بدوا في غاية البلبلة وفي حاجة ماسّة إلى نصائح الاختصاصيين الهادفة لتوجيه خطاهم.
هذه الشاشات، وإن كانت مسلّية وعمليّة في بعض المواقف، قد تجرّ أضراراً متعدّدة على صحّة الطفل ونموّه؛ لذا، يُنصَح بتأطير (أي الحدّ من) استخدامها؛ وبالفعل، فقد صاغت إدارات صحّية رسميّة متعدّدة (في أميركا وكندا وأوربا... إلخ)، إضافة إلى العديد من جمعيات أطبّاء الأطفال في العالم بأسره، نصائح مماثلة بالنسبة لتعرُّض صغار الأطفال للشاشات.
قوة مسيطرة
الحقيقة أن وسائل الإعلام، بدءاً بالتلفزيون، وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة، التي تتضمّن الهواتف المحمولة/ الذكيّة، إضافة إلى الآيباد ومختلف وسائل التواصل الاجتماعي (المذكورة أعلاه) من واتساب، وغوغل، ويوتيوب، وفيسبوك، وإنترنت... إلخ، تعدّ بمنزلة قوّة تسيطِر على حياة الإنسان المعاصر، وعلى حياة الطفل بوجه خاص؛ ولا يزال التلفزيون، هو الآخر، وسيلة مسيطِرة لدى الطفل والمراهق، مع العلم بأنّ شعبيّة الوسائل التكنولوجيّة الجديدة تتزايد بسرعة فائقة.
لا بدّ من التوقّف هنا عند الاهتمام الذي أبدته وتبديه بشكلٍ مستمر المنظّمات والأكاديميات الصحية العالمية بالنسبة لطبيعة التأثيرات المحتملة (إيجابيّة كانت و/ أو سلبيّة على حدٍّ سواء) الناجمة عن الرسائل والصور التي تُطلقها الوسائل الإعلاميّة؛ يُضاف إليها نتائج مختلف البحوث والدراسات العلميّة التي تمحورت حول هذا الموضوع: لقد تمّ التركيز، في هذا الإطار، على أمور متعدّدة تأتي في مقدّمتها كيفيّة استخدام العالَم الرقمي، وطبيعة العلاقة التي تجمع كلًّا من الطفل والمراهق بالشاشات (أضرار هذه الشاشات وفوائدها...)، ثمّ ضرورة تثقيف الأهل في هذا المضمار.
كيفيّة استخدام العالم الرقمي
قد يُستخدَم هذا العالم الرقمي في كل الاتّجاهات، كما قد يُنظَر إليه بأشكالٍ عديدة ومتنوّعة تساهم كلّها في خلق أشكال جديدة من الترابط liens والتنافس والإبداع؛ لكنّ الأهم إنّما يكمن في فهم مدى تحويل الفرد هذه الأدوات الجديدة لطرق تواصُل لديه، لبناء هويّته وعلاقته بعمليّات التعلّم والمعرفة.
ويمكن فهَم إمكانيّة تحقيق ما سبق ذكره في ضوء ما كشفت عنه البحوث المعاصرة بخصوص تميّز الدماغ بمرونة كبيرة وتطوّرٍ سريع تحت تأثير النشاطات التي يقوم بها الفرد، نذكر من ضمنها تأثير التكنولوجيّات التي يستخدمها هنا.
المسألة، إذن، مسألة استخدام الإنسان للأدوات التي اخترعها: فإنّ لم يتعوّد، مثلًا، على إرفاق ما تعلّمه ضمن إطار العالم الرقمي (من اختبارات رقميّة وغير ذلك...) بنشاطات تتم ممارستها ضمن إطار الحياة الواقعيّة، لن يتعلّم أبدًا كيف يتصرّف في الحياة اليوميّة، أي: كيف يتفاعل، مثلًا، مع الرفاق، مع الزملاء، مع المربّين... إلخ؟
يُضاف إلى ذلك مسألة حياتيّة أخرى في غاية الأهميّة وتكمن في الدور الذي يلعبه الراشد (الأهل بوجه خاص) في خفض مدى الاهتمام الذي يوليه الطفل لهذه الشاشات، وبشكل خاص الوقت الذي يقضيه أمامها؛ يوضح ذلك الواقع التالي وهو شائع جدّاً على مستوى الحياة اليوميّة: تعامل الطفل، بشكل مكثّف جدّاً، مع العالم الرقمي ضمن إطار منزله، لكنّه، في المقابل، يهمله بشكل تامّ حين يكون، مثلاً، عند الأجداد: ما الفرق؟ إلامَ يعود ذلك؟ يجيب الطفل حين يُسأل عن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، «عندما أكون عند أجدادي، لا أحتاج أبدًا إلى استخدام العالم الرقمي لأنّهم يقترحوا عليّ العديد من النشاطات كي أقوم بها مثل: الذهاب لصيد السمك، والمساعدة في حرث الحديقة، بجمع الفاكهة والثمار، بتنظيف الحديقة، بالمساعدة في الأعمال البيتيّة...، أنا مشغول طوال الوقت ولا وقت عندي لألعاب الفيديو أو للاهتمام بالشاشات».
من المنطقي إذن أن يلجأ الطفل إلى العالم الرقمي/ الشاشات كي يتسلّى حين يكون وحيداً وضجرًا بعد إنهاء واجباته المدرسيّة؛ وهكذا، قد تصبح التسلية مع الوقت إدماناً عند مَن يمتلك الاستعداد الشخصي للإصابة بذلك، لمَ لا؟
لاختصار ما سبق، نستعيد ما يقوله الطفل غالبًا «أنا ضجران»؛ لكنّ الضجر عند صغير الإنسان، المشهور بحركته الدائمة، هو أمرٌ غير مستحبّ على الإطلاق وخطِر جدّاً، إذ هناك دائمًا ما يتسلّى به: المهم تركه هادئاً، وهو سيجد ما يتلهّى به، فمثلاً قد ينزع خيوطاً من السجّادة، يحرّك رِجل كرسي...؛ هو لا يتوقّف أبداً عن التحرّك... ويجد دائماً شيئاً ما.. وهذا ما يزعج الأهل فينهروه «توقّف عن لمس كل شيء» ويُجلِسونه/ يلصقونه أمام التلفزيون أو يسمحون له باستخدام ما يرغب به.
قدرة فطريّة
يتعرّض الصغير لفقدان قدرته على الاستكشاف، على الاختراع... إلخ، لأنّ قدرة الاستكشاف لديه هي فطريّة عنده كإنسان، لكنّها لا تصبح فعليّة ومحسوسة إن لم تتمّ رعايتها من قِبَل أهل/ راشدين يدركون أهميّة ذلك، أي أهميّة ترك الولد يلعب كما يشاء طالما لا يتعرّض أو يُعرّض شيئاً للخطر؛ والأهم، توجيهه وإرشاده للقيام بنشاطات ذات هدف مفيد قد يساعده على تنمية المهارات التي سيحتاج إليها لاحقًا كمهارة التفاعل مع الآخرين (مع أمثاله، بوجه خاص) لتطوير علاقاته الاجتماعية لاحقاً، مهارة تعلّم كيفيّة تسلية نفسه بنفسه حين يكون مضطرّاً للبقاء بمفرده، حيث يتمكّن من القيام بأعمال قد تصبح إبداعيّة: لمَ لا؟... إلخ.
ومن ناحية أخرى، يمكن التنبيه للأخطار الناجمة عن قضاء طفل ما بين الصفر والسنوات الثلاث أمام الشاشات (التي في مثلاً) على نموّه نذكر من أهمّها استحالة تعلّمه كيفيّة تصوّر الشخص الآخر (تصوّر وجهه وحركاته و...) فيكوّن عنه معالم واقعيّة - حيّة تساعده، فيما بعد، على التفاعل مع الآخرين؛ أكثر من ذلك نقول: قد تصبح الشاشات/ العالم الرقمي وسيلةً دائمة تساعد الطفل على الهروب، مثلاً، من وضعيّات تضطرّه لمواجهة وجوه أخرى تثير قلقه. ذلك أمرٌ لا بدّ من إيلائه أهميّة خاصّة، لأنّ الوقاية من الاستخدام المَرَضي للعالم الرقمي/ الشاشات يجب أن تبدأ، عند الإنسان، منذ طفولته.
هناك واقع آخر في غاية الأهميّة لا بدّ من الإشارة إليه ضمن هذا الإطار، ونقصد به اختلاف الوظيفة التي يشغلها العالم الرقمي عند الطفل عنها عند المراهق، وذلك على مستويات متعدّدة يبقى أهمّها: المفاجأة، واللذّة، والتمتّع، وحتّى إحساس الفرد بوجوده، إذ يكون الطفل، انطلاقاً من 5 إلى 6 سنوات، قد امتلك اللغة والقوّة المحرِّكة له بشكلٍ جيّد؛ ثمّ إنّ حشرّيته كطفل تجاه العالم المحيط به تكون قد بلغت مداها، فتتحدّد مثلاً بالتركيز على العالم الرقمي (على اليوتيوب، والإنترنت، والشبكات الاجتماعيّة، وألعاب الفيديو،... إلخ) مع كلّ ما يرافق ذلك من مخاطر حتميّة، وذلك بعيداً عن العالم الواقعي/ الحياتي؛ لذا، من الضروري التعرّف إلى معالم هذه الحشريّة، فيتم تشجيعها أو، على العكس، يتم تغيير مسار توجّهها لديه ككائن في عزّ نموّه وتطوّره.
كارثة عصبيّة
مع البلوغ المسمّى عموماً «كارثة عصبيّة» (بنظر الأهل والبالغ معاً)، وبعد ذلك، مع المراهقة، تختلف وظيفة الشاشات بمعنى أنّها ترتبط بقدرة البالغ والمراهق على اختبار الانفعالات نفسها التي يحسّ بها الراشد (ونعني، بالدرجة الأولى، الانجذاب الجنسي والعنف)، لكنّه لا يزال عاجزاً عن امتلاك القدرة على ضبط نزواته الذي لن يتمكّن من تحقيقه سوى أخيراً؛ ثمّ، حتّى وإن كان قادراً على ضبط نزواته هذه، ستتأثّر قدرته كمراهق بضغط الجماعة التي ينتمي إليها.
ويميل المراهق لحماية نفسه من خطر اللقاءات الفعليّة الواجب عليه تحقيقها مع الآخرين، لأنّه لا يعرف كيف يتفاعل معهم: مع الجنس الآخر، ومع الرفاق، وبشكل خاص مع الأهل الذين لم يعانِ من تجاذُب المشاعر تجاههم (يحبّهم ويكرههم في الوقت نفسه) كما هي الحال معه في الوقت الحاضر.
وهكذا، يميل هذا المراهق للهروب من وضعيّات التفاعل هذه عبر اللجوء إلى العالم الرقمي، علّه يتخلّص من «قلق أزمة المراهقة»، الذي يسيطر عليه، والذي يترافق، بشكل عام، مع بعض السلوكيات غير المتوقّعة وغير القابلة للضبط نتيجة عجزه، غالباً، عن ضبط قلقه. لكنّ هذه المعاناة التي يتعرّض لها المراهق (خصوصاً على مستوى اضطراب علاقاته مع الأقران والأهل والراشدين بشكل عام) لا ترتبط بلجوئه إلى الشاشات إذ كان يتعرّض لها كمعاناة حتى حين لم يكن هناك عالم رقمي.
لاستكمال هذا العرض السريع الخاص بهذا العالم الرقمي، لا بدّ لنا من التوقّف عند تأثيره على الطفل وعلى المراهق؛ وبالتالي يفرض التساؤل التالي نفسه: ما هي طبيعة تأثير هذا العالم الرقمي على نمو الطفل؟
تأثير العالم الرقمي على نمو الطفل والمراهق
ككل اكتشاف، لهذا العالم الرقمي تأثيرٌ مزدوج، أي أنّه إيجابي حين يحسُن استخدامه، خصوصاً على المستوى التربوي، وسلبي إن أسيءَ هذا الاستخدام. ثمّ إنّ هذا التأثير يرتبط، عمومًا، بالمساحة الكبيرة التي يشغلها هذا العالم من حياة الطفل وتفاصيلها، إذ يقضي ساعات طويلة من وقته أمام الشاشات دون كلل أو ملل، ترافقه أينما كان ويدخل هذا العالم لينعزل عن محيطه وكأنّه لا يشعر بالانسجام والفرح والتواصل إلّا من خلالها.
وبالنسبة لتأثير هذا العالم الرقمي على الطفل، ومن ثمّ على المراهق، يمكن القول إنّه شديد التنوّع والتعدّد إيجاباً وسلباً:
على المستوى الإيجابي، يمكن القول إنّ للأجهزة الإلكترونيّة العديد من الفوائد التي يصعُب إحصاءها، لذا سنركّز، بالدرجة الأولى، على ما يرتبط بالطفل والمراهق:
- لقد سهّلت الأجهزة (كالهاتف المحمول/ الذكي، الكمبيوتر/ الحاسوب،... إلخ) على الإنسان المعاصر حياته، إذ اختصرت عليه الكثير من الوقت وتوفير الجهد الذي كان سلفه يتحمّله سابقاً للحصول على خدمة الاتّصال والتواصل مع الآخرين.
- وقد وفرّت هذه الأجهزة العديد من وسائل الترفيه (للطفل والمراهق بشكل خاص) كألعاب الفيديو، وأجهزة البلاي ستيشن، البرامج التلفزيونية المتنوّعة... إلخ؛ والمعلوم أنّ هناك استحالة لرؤية منزل يخلو من وجود تلفزيون.
- لقد سهّلت العمليّة التعليميّة وطوّرتها بشكل مهم جدًّا، إذ وفّرت وسائل للتعلّم عن بُعد، إضافة إلى توفير سُبُل تمكّن المعلّمين والتلامذة/ الطلّاب مع بعضهم بشكل أبسط وسريع.
- أدّت إلى زيادة فرص التعليم وإتاحته لجميع الأشخاص حول العالم نتيجة ظهور التعلّم عن بُعد.
- لقد فتحت الأجهزة الإلكترونيّة الباب على العديد من التخصّصات التعليميّة، وذلك في العديد من المجالات، ومنها، مثلًا، مجال الأجهزة الإلكترونيّة وصناعتها وصيانتها.
- مكّنت من إجراء اجتماعات ولقاءات في آنٍ واحد ومن أماكن مختلفة عبر مؤتمرات الفيديو video conference.
- مكّنت من الاطّلاع على آخر الأخبار والمستجدّات لحظة بلحظة من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام وشبكة الإنترنت.
استمرار المخاطر
هذا غيضٌ من فيض بالنسبة إلى إيجابيّات التكنولوجيا، وقد اختصرناها لأنّ ما يهمّنا هنا يكمن في التعرّف على ما هو على علاقة بالطفل والمراهق من جهة، وفي تجنّب التطويل من جهة أخرى.
وعلى المستوى السلبي، يعتبر تأثيرها بمنزلة استمرار للمخاطر التي تعرّض لها الطفل، ومن ثمّ المراهق، منذ الصغر.
والحقيقة تُقال، يستحيل التوقّف عند كلّ السلبيّات، إذ، كما بالنسبة للإيجابيّات، يتطلّب ذلك العديد من الصفحات؛ لذا سنكتفي بذكر المخاطر الناجمة عن وضع الأجهزة التقنيّة الحديثة بين يدي الطفل في سنّ مبكرة، وخصوصاً في ضوء التأكيد الدائم على ضرورة عدم تعريض أو السماح للأطفال حديثي الولادة حتى السنوات الثلاث باستخدام أيٍّ من هذه الأجهزة، وفي عمر الـ 3 - 5 سنوات ينبغي الاكتفاء بساعة واحدة يوميّاً، وبعد ذلك (من عمر 6 - 13 سنة) تكفي ساعتان فقط يوميّاً.
تجدر الإشارة هنا إلى سهولة حصول الأولاد من الأعمار كافة، اليوم، على أحد هذه الأجهزة (الآيباد والهاتف الذكي/ المحمول بشكل خاص) واستغلالها للدخول إلى عالم الإنترنت واستخدامه؛ لذا، لا بدّ أن يتخذ المسؤولون والأهل خطوات جدّيّة بالنسبة لموضوع التقيّد بالتحذيرات/ المخاطر التي تمّ ويتم التركيز عليها دائمًا في هذا المضمار:
مخاطر استخدام الأجهزة في سنّ مبكرة
- تعرّض نمو الدماغ للخطر: لقد بات معروفًا، في ضوء التطور الهائل الذي حصل على مستوى العلوم العصبيّة، أنّ حجم دماغ الطفل يتضاعف ثلاث مرّات منذ ولادته حتّى عمر السنتين، ويستمر في النمو حتى عمر الـ 21 سنة، يتم ذلك تحت تأثير المحفّزات البيئيّة المحيطة بالطفل؛ لكن، عند تعرّضه بشكل مفرط لاستخدام هذه الأجهزة، يحدث عند ذلك تحفيزًا قويًّا للدماغ قد ينجم عنه أخطار جمّة مثل: نقص الانتباه، وتشتّت التفكير، وضعف أو صعوبات في التعلّم، عجز عن تنظيم التنفّس، وقد يدخل الطفل في نوبات غضب متكرّرة... إلخ.
- تأخّر في التعلّم، إذ يؤدّي تعرّض الطفل لهذه الأجهزة في سنّ مبكرة جدّاً إلى تأخّر نمو المهارات التعليميّة لديه؛ ممّا يؤدّي إلى انخفاض تحصيله الدراسي (على سبيل المثال، كشفت الأبحاث عن وجود واحد من 3 أطفال في أميركا يُعتبرون متأخّرين تعليميًّا، وذوي تحصيل دراسي منخفض وارتفاع بنسبة الأمّيّة سببه تعرّضهم المبكر لاستخدام الأجهزة الحديثة).
- إصابة بالبدانة، وخصوصاً لدى الأطفال الذين لديهم جهاز تقني (تلفزيون مثلاً) في غرفته؛ وكما قيل، قد تكون أجيال القرن الواحد والعشرين الأقصر عُمراً بين الأجيال السابقة.
- إصابة بالأرق، نتيجة عدم رقابة الأهل بخصوص وجود جهاز تقني في غرفة نوم الطفل، والسماح له باستخدامه دون فرض رقابة عليه؛ الأمر الذي يؤدّي إلى حرمانه من النوم وإصابته بالأرق، ومن ثمّ خفض أدائه الذهني... إلخ.
- إصابة بالأمراض العقليّة: اعتبر العديد من الدراسات الاستخدام المبكر للأجهزة الحديثة أحد أهم عوامل إصابة أطفال اليوم بأمراض نفسيّة، مثل الاكتئاب، والقلق، ونقص الانتباه، والتوحّد، والذهان، ومشاكل سلوكيّة، كالعنف مثلاً (خصوصاً عند من يتعرّض لمَشاهِد القتل والتعذيب والاغتصاب والجنس وتعاطي المخدّرات الذي أصبح شديد الانتشار)،... إلخ.
- الإدمان، ويغذّيه الأهل لدى أطفالهم الذين يرفضون أيّة هديّة لا تكون جهازاً إلكترونيّاً كالآيباد والبلاي ستيشن، وغير ذلك من الأجهزة الإلكترونيّة؛ لذا يجب أن يكون الأهل حازمين في هذا الإطار (أي ألّا يستسلموا لمتطلّبات طفلهم)، خصوصاً أنّ أعداد المدمنين على التكنولوجيا بين الأبناء بالفترة العمرية بين 8 و18 سنة تتزايد أكثر فأكثر.
- التعرّض لانبعاثات إشعاعيّة تصدر عن الأجهزة اللاسلكيّة والمحمولة، وهي تعتبر موادّ مسرطنة... إلخ.
- الاستدامة، بمعنى أنّ استخدام هذه الأجهزة ليس مشكلة حاليّة، بل هي مستدامة وستستمر أجيالاً إن لم يعمل الأهل والحكومات بقوّة على إيقاف تعرّض الأطفال لاستخدام التكنولوجيا بشكل مفرط، خصوصاً في المراحل العمريّة المبكرة.
- والأخطر من كلّ ذلك يتمثّل في طول الوقت الذي يقضيه الطفل أمام الشاشات، وذلك على حساب مختلف الأنشطة الواجب تحقيقها على المستوى اليومي كالقراءة، واللعب مع الرفاق، والتمارين الرياضيّة... إلخ.
وإضافة إلى هذه المخاطر العامّة الناجمة عن استخدام الشخص للأجهزة التقنيّة، لا بدّ من الإشارة إلى المخاطر الناجمة عن استخدامها في سنّ مبكرة، وقد تمّ التشديد على مدى الأذى الذي تُلحقه بنمو الأطفال حديثي الولادة وتطوّرهم فيما بعد، والذي يُترجم عبر اضطرابات المزاج والسلوك وصعوبة التعلّم؛ وانعزال الطفل عن محيطه الاجتماعي، وحصول خلل في بنيته الاجتماعيّة؛ وضعف التركيز وتشتّت الانتباه؛ وتعرّضه للعصبيّة والتوتّر والعدوانيّة؛ وتأثّر جهازه العصبي، ومن ثمّ حصول اختلال كبير في نموّه وتطوّره الطبيعيّين.
تثقيف الأهل
يختلف هذا التثقيف بخصوص الشاشات، كما بخصوص طرق استخدامها، تبعاً للعمر حيث، كلّما كان الطفل أصغر سناً يكون خفض الوقت المكرّس لاستخدام هذه الشاشات من قِبَله مهماً جدّاً؛ لكن، كلّما كبُر، يكون للتثقيف (بخصوص وظيفة الشاشات وتأثيراتها: السلبيّة والإيجابيّة... إلخ) أهميّة أكبر.
في الواقع، لا أهميّة/ لا قيمة للشاشات (مهما كان نوعها) لدى طفل ما قبل سن الثلاث السنوات، لأنّ الألعاب واللُعَب التقليديّة وحدها تتناسب مع هذا العمر.
من أهم ما ينبغي على الأهل وجمهور الناس (المربّين، بالدرجة الأولى) معرفته بالنسبة لعلاقة الشاشات بنمو الطفل والمراهق، إنّما يرتبط أساساً بطبيعة هذه العلاقة وما يمكن أن توفّره لهما، هذا من جهة، وبكيفيّة قضاء الأهل أوقات فراغهم من جهة أخرى: فمثلاً، من غير الممكن أن يحدّد هؤلاء الأهل لطفلهم الوقت الذي عليه أن يقضيه أمام الشاشات في حين أنهم يقضون هم أمامها من الوقت بدون حساب؛ يكفي هنا التذكير بأهميّة، لا بل بوجوب، أن يشكّل الأهل «مثالاً» لأبنائهم (بمعنى ألّا يفرض الأهل على الولد ما لا يفرضونه هم على أنفسهم) كي نفهم خطورة هذا التصرّف.
منع مشروط
من المهم جدّاً إدراك الأهل للواقع التالي: يلجأ ابنهم المراهق إلى الشاشات ليهرب، مثلاً، من قلق أزمة المراهقة؛ كما أنّ السلوكيات الاضطرابيّة وغير المتوقَّعة لديه تزداد كلّما عجز عن تجاوز هذا القلق... ويمكن القول، بالتالي، إنّ المراهق كان يعاني المشاكل، العلائقيّة/ الاجتماعيّة بوجه خاص، قبل ظهور الشاشات واهتمامه بها.
من المؤكد أنّه من غير الممكن، اليوم، منع أي شخص من استخدام الأجهزة الحديثة، إذ تعتبر التقنيّة المرتبطة بها مفيدة جدّاً، ومن أفضل وسائل التعلّم، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، من غير الممكن العودة إلى الوراء، لأنّ التطوّر يفرض نفسه ويستحيل تجاهله.
ثمّ إنّ المنع المفروض قد ارتبط بشروط متعدّدة من أهمّها: الحرمان التام منها خلال الأعوام الثلاثة الأولى، ومنع ازدياد الاستخدام عن حدٍّ أقصى، وليس المنع التام الذي يعرّض لخسارة كبرى، وتكريس الأهل وقتًا محدّدًا كلّما تقدّم الولد بالعمر لمناقشة ما شاهده، أو تخصيص وقت معيّن ليشاهدوا مع الولد البرامج التي يختارها... إلخ.
أخيراً، يكمن الأهم في البدء بعدم شراء الأهل أي جهاز إلكتروني للطفل إلّا ضمن إطار احترامهم وتقيّدهم بالتعليمات التي صدرت وتصدُر باستمرار عن الأبحاث العلميّة وعن منظّمات الصحّة العالميّة... إلخ، وشرط تطبيق الحسم الصارم بالنسبة إلى شروط الاستخدام.