ما هو الأفضل للأبناء.. أن نترك لهم رصيداً في البنوك.. أم نترك لهم عقارات نمنحها لهم ليبدؤوا بها حياتهم.. أم نترك لهم شركات ومؤ سسات تقيهم شر الزمن.. أم ننفق قيمة كلّ ذلك على تعليمهم وتأهيلهم.. أم نحاول أن نفعل كلّ ذلك معاً؟!
إنه السؤال الصعب الذي يواجه الآباء، فالأسرة هي السوق الاستثماري الذي يبدأ فيه استثمار الأموال في البناء، وهي المصنع الحقيقي الذي ينتج البشر، فحين يبني الإنسان نفسه جيداً، فهو يبني أباً جيداً لأبنائه، وحين يختار زوجة صالحة فهو يختار أماً قادرة على تربية أبنائه، باختصار فإن الإنسان يبني مشروع حياته الذي سوف يستثمر فيه أبناءه.
مصطلح الإستثمار في الموارد البشرية والبشر هو مصطلح جديد، يضع معايير لهذه القضية المعقدة، حتى داخل كلّ أسرة.
مفهوم الاستثمار البشري، هو مصللح جديد بدأ يظهر في علم الإدارة مؤخراً، وأصبحت هناك مواصفات عالمية خاصة بالإستثمار البشري، فقد بدأ علم الإدارة يخاطب اهتمامات الأشخاص وهواياتهم وطموحاتهم، ماذا يحبون وماذا يكرهون، فالإنسان كائن متكامل بما يملكه من أفكار ومشاعر وأحاسيس، وليس كما ينظر إليه البعض على أنه زوج من الأيدي والأرجل.
لذلك فإن الاستثمار في الموارد البشرية هو استثمار بأموال ولكن ليس بضخ النقود فقط، وإنما من حيث الوقت وإعطاء فرصة للتعلم، فمن حق الفرد أن يخطئ ويناقش خطأه في سبيل تقويم سلوكه، وهذا نوع من الاستثمار غير المباشر، في حين يكون الاستثمار المباشر من خلال التدريب والتأهيل.
الاستثمارفي التعليم
ماذا عن حيرة الآباء فيما يجب أن يفعلوه للأبناء، هل يمنحونهم المال أم الميراث أم المشروعات أم العقارات؟
يُجمع الكثير من العلماء والباحثين على أن أفضل أنواع الاستثمار في الأبناء، هو الاستثمار في التعليم، فالإنسان هو المحور الأساسي للإبداع والإختراع لذلك فهو أهم قيم الحياة. ويخطئ بعض الآباء في اعتقادهم أن استثمار الآبناء في التعليم يعني اختيار مدرسة أو جامعة نموذجية ودفع مبلغ معين من النقود فقط، دون الاهتمام بجوانب وتفاصيل حياة الأبناء الأخرى، وهذه نظرة قاصرة لأنها تغطي جانباً واحداً وهو تعليم المناهج الدراسية، في حين أن هناك جوانب أكثر أهمية، وهي أن نستثمر أبناءنا نفسياً وجسدياً وفكرياً ومعنوياً ليشمل هذا الاستثمار كافة جوانب الحياة، ولكن بلا أدنى شك أن التعليم الجيد هو أفضل طرق الاستثمار، ولكنه ليس الطريقة الوحيدة، فليس هناك معنى لشخص تعلم جيداً بينما شخصية لا تصلح لمواجهة الحياة ومصاعبها.
تنمية الهوايات
ولكن البعض يعتقد أن الهوايات مضيعة للوقت..؟
هذا حقيقي وينظر بعض الآباء بالفعل إلى هوايات أبنائهم وميولهم على أنها ترف ويقفون حجر عثرة أمام تنميتها، وقد يعتقدون أن هوايات كالموسيقى أو الرياضة أو الرسم تهدر وقت الأبناء و تصرفهم عن دراستهم وعن بناء مستقبلهم، وعلى خلاف هذا الفهم الخاطئ فإن تنمية ميول الأبناء أحد أهم السبل لتعليمهم وتطوير طرق تفكيرهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم، فعلى سبيل المثال، أكدت دراسة حديثة أن تعلم الموسيقى ينمي ملكات التفكير، فحجم الخلايا الذهنية في أثناء تعلم العزف يزداد. ويجب علينا أن نكون آباء متعلمين منفتحين مع الحفاظ على ما يصلح من عاداتنا وتقاليدنا، كذلك يجب علينا في بعض الحالات التدخل لتوجيه ميول أبنائنا بما يصب في مصلحتهم، فنحن وبحكم تجاربنا قد نكون أكثر إدراكاً وفهماً للحياة.
التفكيرالناقد
في إطار التعليم الجيد، يجبر البعض الأبناء على اختيار تخصص معين باعتباره يقدم أفضل الفرص المادية بعد التخرج، فكيف ترى ذلك..؟
هذه الإشكالية التي تحصل دائماً بيننا وبين أبنائنا حول ما نريده نحن، وما يريدونه، هي واقع شئنا أم أبينا، ولكن يجب أن ننتبه إلى أن هناك معطيات متوافرة في البيئة المحيطة بأبنائنا، توفر لهم فرصة لتكّون تفكيرهم الناقد الذي يعطيهم مفاتيح الحل لمشكلات الحياة وصعوباتها، فإذا استطعنا أن ننمي هذا التفكير لديهم، لا يهم أي المجالات سوف يدرسون، لأنهم سيكونون قادرين على تطويع هذه الدراسة لتخدم حياتهم العملية من خلال ابتكارات جديدة تساهم في تطوير حياتهم و تنعكس إيجاباً على بناء المجتمع، فتعلم مهارة حل المشكلات والتعامل مع التغيير الحاصل في المجتمع أهم من مجال الدراسة نفسه، فالدراسة هي جواز سفر الشخص وليس من الضروري التقيد بها، و إنما هناك فرصة للإبداع و التطوير.
وقت لأبنائك
*هل يقتصر الاستثمار في الأبناء على ترك حرية الاختيار لهم وتقديم فرص تعليم جيدة..؟
الاستثمار في الأبناء ليس بالمال فقط، وليس بتقديم الفرص فقط، بل يجب أن نستثمر جزءاً من وقتنا أيضاً من أجل الأبناء، وهناك جزء من عملنا في تنمية الموارد البشرية هو المساهمة المجتمعية، وأحد أهم هذه الجوانب هو تطبيق مفاهيم الإدارة على الأسرة، وفي هذا المجال يوجد مفهوم في الإدارة يسمى «التغذية الراجعة» والذي يعني معرفة مدى رضى العلماء عن الخدمات المقدمة، وهذا المفهوم يمكن تطبيقه على أبنائنا، فبإمكانك تخصيص ساعة في الشهر لكل ابن من أبنائك، تخرج معه منفرداً، وتستمع له، تتعرف إلى مشكلاته وهمومه، وتعطيه جزءاً من خبراتك التي تصطلح لزمانه وتتوافق معه، وبنفس الوقت تحصل منه على التغذية الراجعة الخاصة بإدارة شؤون الأسرة، أين أخطأت و أين أصبت، فأنت بذلك تشعره بأهمية بالنسبة إليك، وتعلمه طرق جديدة، للتواصل مع ذاته ومع الآخرين، فالأسرة مشروع استثماري يحتاج إلى الإدارة، خاصة إذا علمنا أن نسب الطلاق قد تجاوزت 30% في بعض الدول العربية.
قبل فوات الأوان
هناك تباعداً حدث بين أفراد الأسرة العربية فرضته ظروف الحياة وتسارع عجلة الزمن، إلا أن هذا ليس مبرراً لعدم إعطاء الوقت الكافي لحياتنا الأسرية، فقد نستيقظ بعد فوات الأوان، يوجد مثال يطبق على حياتنا العملية والأسرية «خلال التدريب نعرض لقطة مدتها 30 ثانية، يؤديها أشخاص يلعبون بالكرة، وفي أثناء هذه اللقطة يمر شخص يرتدي لباس«غوريلا»، يطلب من المتدربين إحصاء عدد المرات التي لمست فيها الكرة الأرض، وعدد المرات التي التقطها الاعبون».
بعد انتهاء اللقطة أسأل المتدربين، هل من شيء غريب حدث في أثناء اللعب؟ والمفاجئ أن واحداً أو اثنين من بين ثلاثين متدرباً، ينتبهون إلى مرور الغوريلا، في حين أن البقية وعلى الرغم من عدم إجابتم عن العدد فإنهم لا يلحظون مرور أي شيء. بالضبط هذا ما قد يحدث مع أبنائنا، فقد تمر كارثة أو مصيبة كبيرة ونحن منشغلون بتفاصيل صغيرة ولا ندركها إلا بعد فوات الأوان، لذلك يجب أن نكون على تواصل وعلم دائمين بكل التفاصيل التي تحيط بنا.
قالب الحلوى
وكيف نتغلب على ذلك؟
حتى نستثمر وقتنا بالشكل الأمثل، يجب أن نرتب أولويات حياتنا حسب أهميتها، فالوقت أثمن شيء بالوجود، وبهذا الخصوص يقول أبو الإدارة الحديثة «بيتر دراكر» إن الشخص الناجح يبدأ يومه ليس بما يجب عليه فعله وإنما ما هو الوقت المتاح له للفعل، ويشبه دراكر الوقت بقالب الحلوى، الذي يسعى كلّ شخص للحصول على قطعة منه، فهذا يريد منك الرد على البريد الإلكتروني وذاك يريد منك حضور اجتماع أو تقديم خدمات، وأنت من واجبك توزيع هذا القالب حسب أهمية الأشياء. وهذا التنظيم سوف يتيح لك الفرصة لإعطاء الأهمية لكل جوانب حياتك على حدٍ سواء، ابتداءً من العمل ومروراً بالأسرة وانتهاءً بالتواصل الاجتماعي.
يجب الإصرار على أن يكون يوم الإجازة مقدساً في حياتنا الأسرية، مهما بلغت إغراءات العمل، فهو فرصة لقضاء أوقات ممتعة مع أفراد العائلة وزيارة أماكن للترفيه، وليس بالضرورة رصد ميزانية كبيرة، فأي مكان يكسر الروتين المعتاد يفي بالغرض، بشرط التنويع والتغيير.
الدكتاتورية مطلوبة
عندما تتعارض الرغبات، كيف يمكن اتخاذ القرار في هذه الحالة، وهل الديمقراطية هي الأفضل..؟
يقع على عاتق الآباء أحيانا وضع قواعد عامة لسولك الأبناء و شرح هذه القواعد ودواعيها التي تخدم مصلحة الأبناء، وعلى الرغم من أهمية الإقناع في الحوار بين الآباء وأبنائهم، فإن الديكتاتورية قد تكون مطلوبة في بعض الحالات، فالتعرض للتلفاز يجب أن يكون مقننا، وأوقات الفراغ يجب ملؤها بما هو نافع كتنمية الهوايات، كذلك يتوجب علينا الجلوس مع أبنائنا وتصفح مواقع الإنترنت التي يحبونها وتوجيههم لمواقع مفيدة تساهم في تكوينهم المعرفي، وعلينا ألا ننسي أبداً أن أبناءنا يحتاجون إلى مساحة خاصة بهم يقضونها مع أقرانهم، وينمون مهاراتهم في التواصل الاجتماعي.
استثمار طويل المدى
وختاماً، فالأسرة هي المكان الأول لاستثمار البشر، وقد لا تتوافر لديها الإمكانيات المادية، ولكن يجب أن نتذكر قولاً مفاده: إذا امتلكت الإدارة سوف تجد الطريق للوصول. فهناك أمثلة كثيرة لأشخاص تجاوزوا خط الفقر إلى الإبداع، حققوا ذاتهم بالإصرار والعزيمة، إن الاستثمار بالأسرة والأبناء هو استثمار معنوي طويل المدى وهو استثمار مادي أيضاً، لذلك يجب علينا زيادة الوعي من أجل الاهتمام بهذا الجانب من خلال وسائل الإعلام ومن خلال الدعوة لإعداد مناهج متكاملة تهدف إلى الاستثمار في الإنسان.
*د.علاء جراد (خبير الاستثمار في البشر)