إن المبررات المادية لوجود العائلة لمؤسسة من المؤسسات الاجتماعية عند بني الإنسان قد زالت والمبررات الخلقية في طريقها إلى الزوال، فهل ستظل العائلة قائمة في المستقبل أم ستنهار وتفنى نهائياً؟ لو أردت أن أتبع الديالكتيك في بحبي لحكمت بأن العائلة في طريقها إلى الفناء إذ لا معنى لوجودها بعد أن تتطور وسائل الإنتاج المجتمع ولكنني لا أرى ذلك صائباً، بل أعتقد بأن العائلة ستحافظ على وجودها، مهما تغيرت وسائل الإنتاج الاقتصادي ومهما تطورت الحياة الاجتماعية وتبدلت الحضارات والأعراف أو حتى الأديان والنظريات الخلقية.
فالحياة العائلية في واقعها لا تقوم على هذه المبررات المادية والخلقية وحسب، بل هناك مبرران أساسيان هما اللذان أوجدا العائلة وهما اللذان يجعلانها قادرة على البقاء كمؤسسة اجتماعين لها خطرها، هذان السببان هما مبرران نفسانيان لا ينتهيان من نفس البشر وهما الرغبة في الانسال.
الرغبة في الاطمئنان
فالإنسان لا يرغب في الناحية الجنسية بسبب الدفع البيلوجي فقط، وليس الاتصال الجنسي هو حاجة جسمية وحسب ولكنه حاجة نفسية أكثر من ذلك، ويدل على ذلك العنة النفسية، وهي العنة الأكثر شيوعاً وأصعب علاجاً، فالإنسان لا يستطيع الاتصال الجنسي مع أي فرد كان، بل لا بد من الود المتبادل والثقة حتى يتمكن من القيام بواجبه في هذا الصدد، وربما يكون الرجل في حاجة إلى ذلك أكثر من المرأة وإن كانت تشاركه في أنها أيضاً لا تصل إلى قمة اللذة إلا مع زوج ترغب فيه وتطمئن إلى ثقته ومودته، فحاجة الإنسان إلى الاطمئنان بوجود شريك يبادله مشاعر الحب والولاء والإخلاص هو الذي يدفع إلى التضحية بقسم كبير من حريته واستقلال فيرضى بالاقتران مع شخص آخر يلتزم تجاهه بكثير من الواجبات {وهو الذي جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة}.
الرغبة في الأنسال
والرغبة في الأنسال لدى الإنسان رغبة أصيلة وشديدة فهو بذلك يشعر أنه يشارك في استمرار بقاء نوعه، فالحياة الخالية من دون نسل لهي في نظره حياة خالية من المعنى، حياة عذاب وقلق مستمر، بل أن هدف الزواج الأول هو الإنجاب ولن يهدأ الزوجين بال حتى يريا ثمرة اقترانهما تملأ البيت بالضجيج، وأعتقد اعتقاداً جازماً بأن الناس سوف يظلون ينجبون الأطفال وأن تمكن العلماء من إيجاد أطفال صناعيين بمكيات تجارية، ذلك أن شعور الإنسان بالطفل الذي يولد منه كشعوره بالطفل المتبنى، ولم يخترع الإنسان مفهوم التبني إلا للتعويض عما يحس من نقص في قرارة نفسه عندما تخلو حياته من الأطفال ويتأكد بأنه غير قادر على الإنجاب مطلقاً.
فالابن بالنسبة إلى أبويه إنما هو استمرار لوجودهما فلكأن بقاءه يخفف عنهما وطئة الشعور بأن للحياة …لابد أن ينتهي بالموت ولذلك يطلقون على النسل (الخلف) بمعنى البقاء، فما دام للإنسان ذرية فهو موجود إن لم يكن يعينه فبشمائله وبذكره… {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرا ونساءاً فاتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}.
هذا السببان هما المبرران الرئيسيان لوجود العائلة حسب المفهوم القرآني: ولذلك لم يشر القرآن إلى أي من المببرات المادية لعلم الله أنها ليست أسباباً رئيسية لوجود العائلة ولا لبقائها، ولذلك لم تجعل شريعة ضمن الحقوق والواجبات المتبادلن واجب الطبخ أو الغسل أو التمريض ضمن حقوق الزوجين وذلك لأن المجتمعات مختلفة في طبيعتها وفي تطورها الحضاري والماديـ وإنما أشار إلى هذين السببين وفي آيات متعددة إلى أهميتها في بقاء العائلة واستمرار وجودها، وأن على الناس أن يرفضوا أي فكرة قد يؤدي إلى إزالتهما من الناس البشرية.
فليس ثمة من فكرة أو دعوة أخطر على مستقبل العائلة من دعوة الحرية الجنسية والدعوة إلى تحديد النسل.
فالدعوة إلى الحرية الجنسية والتي ابتدأت في القوى المعادية للإنسانية تتبناها وتنشرها بكافة الوسائل تعمل على إزالة الثقة المتبادلة بين الزوجين فعندما يشعر الرجل بأن قرينته تخونه وتباشر العملية الجنسية مع رجل آخر تزول ثقته منها ولا يبقى له اطمئنان يسكن إليه. والمرأة عندما تعلم بأن شريكها يخونها مع امرأة أخرى بدون رابط معترف به شرعاً ومجتمعاً فإنها تعيش في جحيم من المشاعر النفسية فتزول بذلك ثقتها ويذهب اطمئنانها.
فازدياد الحالات العصبية لا يرجع إلى النواحي الاقتصادية والمضادات الاجتماعية بقدر ما يعود إلى الحياة العائلية.
وازدياد نسبة الطلاق في العالم ككل وفي البلاد الإسلامية بصورة خاصة انما هو نتيجة ذهاب الثقة المتبادلة بين الزوجين بسبب الخروج على الأخلاق.
أما الدعوة إلى تحديد النسل فهو دعوة مضادة للفطرة العامة في هذا الكون، ونظراً لتبني المؤسسات العالمية لهذه الدعوة صراحة وبدون حياء فلابد من الكلام عنها تفصيلاً وإن كان في ذلك خروج عن نطاق بحث العائلة إذ لابد له من اتصال به.