"من الأمور المطروحة الآن من أجل ترك قضية فلسطين لرياح النسيان و الحؤول دون إثارتها في الرأي العام للأمة الإسلامية هو هذه التي تسمى بمفاوضات السلام".
الإمام الخامنئي 29/09/2009
الفصل الخامس: السلام والاستسلام
أولا: حيلة السلام
حيلة الصهاينة و حماتهم اليوم – و الحكومة الأمريكية هي أهم داعم لهم – هي استخدام كلمة السلام الجميلة. السلام طبعاً شيء جيد جداً. و لكن أين يكون السلام و مع من؟! شخص يدخل إلى داركم و يحطم الباب بالقوة و ينهال عليكم بالضرب، و يهين عيالكم و أولادكم، و يستولي من بين غرفكم الثلاث على غرفتين و نصف ليسكنها، ثم يقول لكم لماذا تشتكون لهذا و ذاك بلا سبب، و لماذا تعارضون و تتشاجرون دوماً، تعالوا نتصالح و نعيش بسلام. فهل هذا سلام؟! العدوان هو طبيعة هذا النظام. الكيان الصهيوني قام أساساً و يعمل على ركائز القوة و العنف و القسوة.
و لو لا هذه الركائز لما حقق أي تقدم و لن يحقق بعد اليوم أيضاً. يقولون: ليتصالحوا مع هذا الكيان! إذا اقتنع الصهاينة بحقهم – أي إذا تركوا الدار و هي فلسطين لأصحابها، و ذهبوا إلى شأنهم، أو إذا حصلوا على إذن من الحكومة الفلسطينية ببقاء عدد منهم أو جميعهم في ذلك البلد – فلن يحاربهم أحد.
الحرب هي أنهم دخلوا بالقوة و الاغتصاب إلى ديار الآخرين و طردوهم من ديارهم و يظلمونهم الآن. و لا زالوا لحد الآن يظلمون جميع بلدان المنطقة و يشكلون تهديداً للجميع. إذن، حتى السلام يريدونه كمقدمة لاعتداء لاحق! إذا كان ثمة سلام فهو مقدمة ليستطيعوا بعد ذلك الاعتداء و الاغتصاب بشكل آخر.
ثانيا: مشروع استسلام فلسطين أمام إسرائيل
من الأمور المطروحة الآن من أجل ترك قضية فلسطين لرياح النسيان و الحؤول دون إثارتها في الرأي العام للأمة الإسلامية هو هذه التي تسمى بمفاوضات السلام والجارية بين فئة من الفلسطينيين و الإسرائيليين. أعني عملية الاستسلام و حكومة ما يسمى بالسلطة الفلسطينية. هذه بدورها من أقبح الأحابيل و الحيل الإسرائيلية التي وقع فيها للأسف عدد من المسلمين و من الفلسطينيين أنفسهم. لماذا؟ لأنه على أساس أفضل الافتراضات لو تحققت في إحدى المفاوضات التي أجروها جميع الالتزامات التي أخذها الإسرائيليون على عاتقهم، فإن ما تحصل عليه تلك الفئة الفلسطينية هو أكثر بقليل من أربعة بالمائة من أرض فلسطين! بمعنى أنهم سيعطون من هذا البلد الفلسطيني الذي هو كله ملك الفلسطينيين و حقهم أربعة بالمائة منه! و أية أربعة بالمائة منه؟! أربعة بالمائة غير مجتمعة في مكان واحد، بل متفرقة على أجزاء منفصلة! والأشخاص الذين قالوا لهم تعالوا و شكلوا سلطة هنا لم يسمحوا لهم إطلاقاً بالعمل كحكومة. طلبوا منهم الذهاب إلى هناك و مراقبة الفلسطينيين في تلك المنطقة لئلا ينشطوا ضد الحكومة الإسرائيلية! أي منطقة محدودة صغيرة متفرقة لا يمكن إدارتها كبلد أعطيت لهم بشكل منقوص و غير كامل! و ما يجب عليهم أن يقوموا به في المقابل هو أن يعملوا هم أيضاً ضد المجاهدين الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة إضافة إلى ما تقوم به الأجهزة الأمنية الإسرائيلية! خيانة الذين يقومون بمثل هذه الأعمال باسم الفلسطينيين أقبح و أفظع و أسوء من جميع الخيانات التي مورست ضد فلسطين لحد الآن! و لم يفعل هؤلاء أي شيء لشعب فلسطين لحد الآن، و لا يستطيعون أن يفعلوا.
ثالثا: منطق استسلام العرب أمام إسرائيل
الحكومات العربية كانت تقول: لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم! يجب تنفيذ ما يطالب به الفلسطينيون أنفسهم. أولاً قضية فلسطين قضية العالم الإسلامي. و هي قضية تكليف إلهي و إسلامي ما عدا جوانبها السياسية والأمنية و الاقتصادية و هي فوق ذلك مسألة إلهية. لكن حتى لو لم يكن المرء مؤمناً بالله و أراد العمل من أجل شعب فلسطين فقط فعليه أن ينظر ماذا يقول جميع أبناء الشعب الفلسطيني. الشعب الفلسطيني اليوم هم من يُعتقل أبناؤهم في سجون الدولة الغاصبة، و هناك عشرات أضعافهم يهتفون و يقومون بالعمليات في الشوارع و في المسجد الأقصى و في الأسواق و في كل الأراضي المغتصبة. ثمة أقلية صغيرة جرى تطميعها و ذهبت و استسلمت للعدو.. هؤلاء ليسوا الشعب الفلسطيني حتى يقال لسنا فلسطينيين أكثر من أبناء فلسطين.
رابعا: سبب عدم نجاح الانتفاضة الأولى
في ذلك الزمن – زمن الانتفاضة الأولى – عمَّت أجواء الاستسلام في المنطقة تدريجياً. البعض مالت قلوبهم إلى أمريكا، و جماعة أخرى اعتقدت أنه لا يمكن الصمود أمام ذلك الضغط السياسي و الأجواء الدولية المعاكسة، و لا يوجد سبيل سوى قبول الاستسلام و بالشروط التي تمليها أمريكا و إسرائيل.
و بعد التطورات التي شهدتها المنطقة في ذلك الحين توفرت الأرضية لتكريس هذه النظرية أكثر. في ذلك الزمن (زمن الانتفاضة الأولى) كان هناك دوماً أسلوبان يطرحان للتعامل مع إسرائيل: المواجهة العسكرية بين جيوش العرب و الجيش الإسرائيلي – و التي يقال فيها إن جميع التجارب السابقة المماثلة كانت فاشلة – و أسلوب الاستسلام الذي يؤدي إلى تحقيق مطاليب إسرائيل بالطرق السلمية، و يضمن عدم نمو القدرات العسكرية للبلدان العربية مقابل الانسحاب من جزء من الأراضي المحتلة.. نظير ما حصل في كامب ديفيد. لم يكن نموذج المقاومة مطروحاً في ذلك الحين، و قيل إنه لا يحظى بقبول عام.
خامسا: نتائج مشروع أوسلو الاستسلامي
تحمّل الشعب الفلسطيني في انتفاضته السابقة خسائر فادحة، و قدم الكثير من الشهداء و المعاقين في سبيل الإسلام و تحرير الأرض الإسلامية، لكن محادثات أوسلو أوقفت الانتفاضة في النتيجة. حتى المخططون و المدافعون الفلسطينيون عن أوسلو لم يعودوا يدافعون عنها اليوم، لأنهم أدركوا عملياً أن إسرائيل لم تكن تقصد سوى حل مشكلتها، أي التخلص من المواجهة مع مجاهدي الحجارة، و التقليل من ضعفها و هشاشتها. إذا كانت قد أعطت شيئاً بسيطاً للطرف الفلسطيني و أسمت ذلك إعطاء امتيازات فما ذلك إلا لإطفاء نيران الانتفاضة و تقليل الضربات التي تتلقاها.
وبمجرد أن وجدت أن مشكلتها قد انحلت و شعرت خطأً أن الشعب الفلسطيني لم يعد قادراً على استئناف الانتفاضة و المقاومة و المواجهة معهم أوقفت منح حتى تلك الامتيازات البسيطة و أعلنت عن جشعها الذاتي. عملية الاستسلام و مشروع أوسلو جعلت شعب فلسطين في حالة أثبتت لهم أنه لا سبيل أمامهم سوى الثورة.
سادسا: خيانة القضية الفلسطينية
تجري المساعي من أجل نسيان شيء اسمه الشعب الفلسطيني بالمرة. كأنه لا توجد أرض اسمها فلسطين أو شعب يمتلك هذه الأرض! هكذا مهّدوا الأسباب و يرى الإنسان بمنتهى الغرابة و الحيرة و الأسف أن البعض يستسلمون و أن هناك اليوم أشخاصاً يستسلمون لمثل هذه الظاهرة الظالمة العجيبة الغريبة البلهاء بالنسبة لتلك الجماعة المستسلمة! هذا ما يحدث اليوم: يأتون بجماعة تسمى فلسطينية إلى جزء من أرض فلسطين الكبيرة و يعطونهم هناك – أي في أربعة بالمائة من بلد فلسطين – سيادة منقوصة و كاذبة و سطحية و غير حقيقية و ما يطالبونهم به في المقابل هو نسيان قضية فلسطين و أرض الشعب و قضيته بالكامل و تركها جانباً، و كل فلسطيني يذكر اسم الشعب الفلسطيني أو بلد فلسطين أو تاريخ فلسطين يقمع على يد نفس هؤلاء الذين أبرموا هذه الصفقة الخاسرة!
سابعا: خيانة الحكام العرب لفلسطين
الصهاينة و حماتهم و على رأسهم الولايات المتحدة أمسكوا بأيديهم زمام المبادرة في رفع شعارات الاستسلام و عموماً باتجاه تكريس الاحتلال الغصبي لفلسطين و جروا خصومهم إلى حيث أرادوا بمقدار استطاعتهم.
في الماضي طعنت بعض الحكومات المسلمة حتى جبهة بلدان الخط الأمامي بخناجرهم من الخلف! الصمت الراضي لغالبية رؤساء البلدان العربية و المصحوب أحياناً حتى بالخيانة الصريحة، مضافاً إلى المواقف الذليلة و الخيانية لأدعياء قيادة الشعب الفلسطيني هي حلقات مترابطة في سلسلة الغدر و الظلم و الاعتداء و الخيانة التي تروم أن تبقى أرض فلسطين الإسلامية مغتصبةً دوماً و شعبها الجريح المظلوم أسيراً مشرداً على الدوام. الصمت و الاستسلام الخياني للعديد من الحكومات العربية و حتى تظاهر بعضها بعدم الاهتمام و الحساسية لمصير فلسطين أوصل الأمور إلى أن تتجرأ الدولة الصهيونية الغاصبة و تعاود ادعاء إسرائيل الكبرى علناً بعد أن أبقت ذلك لسنوات في طي الكتمان و الإنكار، و تكرِّر بكل وقاحة و عدم حياء نواياها القذرة في اغتصاب أراضي أخرى من الوطن الإسلامي.