د. محمد بن أحمد الصالح*
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم التنزيل: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة/ 18).. والصلاة والسلام على سيد الأوّلين والآخرين القائل: "من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له به بيتاً في الجنة". المسجد هو مدرسة المسلمين الأولى لإقترانه بالصلاة، والصلاة عماد الدين، ولذا كان المسجد اللبنة الأولى في بناء الجماعة الإسلامية التي وضعها رسول الله صلی الله علیه وآله حين هاجر إلى المدينة المنورة.. وفي فرض الصلاة خمس مرات كل يوم بيان لأثر المسجد في بناء الجماعة المسلمة، إذ جعل الشارع الحكيم بهذه الفريضة المسجد مكان اجتماع المسلمين كل بضع ساعات، لأنّ صلاة الجماعة في المسجد تعلو على صلاة المسلم منفرداً درجات ودرجات، جاء في الحديث الصحيح أنّ رسول الله صلی الله علیه وآله) قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة". وقال رسول الله (صلی الله علیه وآله): "صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً، وذلك أنّه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثمّ خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللّهمّ صلّ عليه، اللّهمّ ارحمه، ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة"[1]. وقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "علمنا النبي (صلی الله علیه وآله) سنن الهدى وان من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه" وقال (رض): "حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى وانّ الله تبارك وتعالى شرع لنبيه (ص) سنن الهدى، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق بَيِّن النفاق، ولقد رأيتنا وانّ الرجل ليهادى بين رجلين حتى يقام في الصف، وما منكم أحد إلا وله مسجد في بيته ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم"[2]. وجماهير العلماء من السلف والخلف على انّ الصلاة في الجماعة فرض عين بل عدها بعضهم شرطاً في صحة الصلاة[3]. وقد وضع الرسول (ص) بالبيان العملي رسالة هذه المدرسة الإسلامية، ومن مساجد المسلمين خرجت جيوشهم تغزو في سبيل الله، وفيها تخرج العلماء والفقهاء، وفي رحابها كان التقاضي والقضاء ومحاسبة الخلفاء. ولطالما أقام القضاء فيها الجمَّال والحمَّال مع أمير المؤمنين، والأجير والفقير مع الأمير الكبير ثمّ حكموا له أو عليه لا يبالون مع الحق صغيراً ولا كبيراً. وما دهى المسلمين أمر ولا عرض لهم عارض إلا نودي (الصلاة جامعة) فاجتمع الناس في المسجد. ومن وظائف المسجد الاجتماعية أنّه مركز ترابط الجماعة الإسلامية، يتلاقى فيه أفرادها للصلاة وتبادل الرأي، وإليه يرجع مسافرهم أوّل ما يرجع ليؤدي ركعتين "كان النبي (ص) إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه"[5]. وفيه يتم إبرام عقود النكاح فتوضع أسس الأسرة المسلمة في جو من التقوى والهداية، وفيه يهنىء المسلم اخوانه بأفراحهم ومناسباتهم السارة، وفيه يعزي المسلم أخاه إذا أصابه مصاب. ويقف فيه المسلمون على أخبار اخوانهم، ويلتقون في رحابه الطاهر على طاعة الله والتعاون على البر التقوى، فهو بحق منتداهم ومركز مؤتمراتهم ومحل تشاورهم وتناصحهم. واجتماع المسلمين في المساجد يعكس روح الدين الحنيف من مساواة وأخوة، ونظام وترابط ووحدة في الصف، ويربيهم على التواضع والتجرد. ونحن إذا عدنا إلى مسجد المدينة في عهد الرسول (ص) وجدناه مسجدا، وجامعة مكانا يعد للحياة ويدفع للتقدم في كل آفاقها فكل عبادة أو منسك أو شعيرة فيه لها انعكاسها على المجتمع خارج المسجد، فالمسجد إذن قلب المجتمع وعقله، والمجتمع جسم الإنسان وحواسه، ليس هناك أي انفصام بين المسجد باعتباره مركز عمل وتوجيه وبين المجتمع المسلم الكبير – فالمسجد ميدان تطبيقي لكل ما تعلمه المسلم فيه من آداب وقيم تربطه بالآخرين، وبالمجتمع الذي يعيش فيه. وهو المكان الطبيعي لنشر الكلمة المؤمنة الأمينة الموجهة المعلمة التي تزود المسلمين بالعلم والمعرفة في كل ما يتصل بأمور دينهم ودنياهم. انّ الوظيفة الحقيقية للمسجد في الإسلام هي إعداد المسلم المتكامل البناء في خلقه وسلوكه وعمله وعبادته، في علاقته بربه وبنفسه وبأخيه المسلم وبالناس جميعاً، ووظيفة المساجد في صورتها الاجتماعية الشاملة هي أن تكون مركز اشعاع وتوجيه وتربية لمجموعة المسلمين الذين يسكنون الحي الذي يقع فيه المسجد[6]. وأهداف المسجد هي تربية أجيال من الرجال ذوي نوعية خاصة يصفها المولى – عزّ وجلّ في آيات سورة النور: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(النور/ 36-38). فالمسجد يكمل بناء المجتمع ويدعمه ويقوي أركانه ويعمق في النفوس الحساس بالفضائل التي غرستها الأسرة والمدرسة، بل يغذيهما وينميهما ويتعاون معهما في بناء المجتمع الراشد المتجه نحو الصلاح والفلاح بهداية من الله. وبالتردد على المساجد يتعلم النشئ النظام والدقة والنظافة والاستواء والانخراط في صفوف متراصة مستقيمة. وينمو شعور التآلف بين المصلين فتتكون العلاقات الطيبة وتسود المجتمع روح الخير والأخوة. ورواد المساجد من المؤمنين العابدين الساجدين يتخلصون من العيوب الاجتماعية كالإنعزالية والتواكلية والأثرة، والمسجد يعلم المسلم النظافة والطهارة والتزين دون إسراف اتباعا لقول الحكيم الخبير: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31). ولأنّ المسجد بيت الله، وبيت جماعة المسلمين، وبيت كل مسلم، فقد كان دوماً في خدمة المسلمين كافة، ولم يستأثر به بانيه كائنا من كان، وهذه الطبيعة الاستقلالية للمساجد جعلتها بمنأى عن الفتن والخلافات، والتأثر بالأهواء، وأتاحت للتعليم أن ينمو في حمى بيوت الله مستقلاً شامخاً يوم كان المسلمون أساتذة البشرية. وذلك راجع إلى أنّ المساجد اتخذت معاهد للعلم، فضمن ذلك كفاءة العلماء من ناحية، وحرية أهل العلم من ناحية أخرى، ومن ثمّ ظهرت تلك الأجيال الرائدة من أهل العلم على طول تاريخنا الإسلامي. وتلك الطبيعة ذاتها هي التي أفسحت المجال لقضاة المسلمين العدول ليجلسوا في حرم المسجد، ليحكموا بين الناس بالعدل، فتحت سقف المسجد وبين أفراد الجماعة الإسلامية أحس القضاة بأنهم يخدمون الجماعة بتطبيق شرع الله، أحراراً من كل قيد. فسطروا صفحات ناصعات في تاريخ العدالة والقضاء العادل. هكذا نظر المسلمون الأولون إلى المسجد على أنّه مدرسة تحمل كل هذه المعاني، فأقاموا صلتهم به على أساسها، فكان له من الأثر في تكوينهم ما لم يعرف التاريخ له مثيلا في أي عمل تربوي بناء. حتى أصبح المسجد بحق المدرسة التي يتعلم فيها المسلم من المهد إلى اللحد كل ما يعوزه من مبادئ الحياة: حياة البيت، فلايتهاون بحق أهله عليه، ولا بحق الله عليهم، وحياة السوق، فلا يخلط الحلال بالسحت ولا يستبدل الخبيث بالطيب، وحياة الحكم فلا يتخذ من عباد الله خولا، ولا من ماله دولا. وإنما ينظر إلى ما وهبه الله من قوة أو ولاه من أمر على أنّه وسيلة لإعلاء كلمة الله، وتحقيق رسالته في عباده. كان العهد بالمعابد أن توقف على الصلاة والتوجيه الروحي، لا تتجاوز ذلك إلى أعمال الدنيا. فإذا المسجد في الإسلام يتسع ويتسع حتى يشمل الدنيا والآخرة، ويتحول إلى أداة لتكوين المجتمع الفاضل، مجتمع الخير المرتفع من الرذيلة المتسامي عن الانحراف والشذوذ – وذلك لأنّ المساجد بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والآصال تعمر قلوب قاصديها بالإيمان وتذكرهم بجلال الله، وتطهر الصدور من الأحقاد وتملؤها حباً وطهراً وعفافاً، وتبدل جهلهم علماً وسفههم حلماً، وتغرس في الناشئة من الشباب حب الخير والرغبة في البر، فالمسجد رسالة عظيمة فلو هيئت له الوسائل والأسباب لقضي على كثير من الجرائم والإنحراف، وليس ادل على أثر المسجد في مكافحة الجريمة من أننا لو أحصينا الجرائم والانحرافات ومرتكبيها لوجدنا مرتكبيها ممن لا يؤمنون المساجد، أمّا الذين يؤمون المساجد فقلما يقع منهم إنحراف أو اعتداء على حق غيرهم، لأنّهم يشعرون بخشية الله، وتربطهم جميعاً الأخوة في الله – هذه الصورة المشرقة كيف اختفت؟ وتلك الأهداف النبيلة للسجد كيف تضاءلت وتواضعت حتى آل حال المساجد إلى ما هي عليه الآن؟. وهناك أسباب أفضت إلى انصراف المصلين عن المساجد نوجز القول فيها كمدخل للحديث عن أوجه الإصلاح المطلوبة ووائله المقترحة بغية العودة بالمسجد إلى دوره العظيم في بناء المجتمع عامة، وفي الدفاع عن هذا المجتمع ضد الانحراف والجريمة خاصة. - أسباب انحسار دور المسجد: يرى بعض الباحثين[7] اجمالها في ثلاث نقاط رئيسة: أ- ضعف الكثير من المسلمين في تمسكهم بدينهم. ب- انخداع بعض المسلمين بزخرف الحياة في المجتمعات غير الإسلامية. ت- البدع والشوائب التي انتشرت لجهل المسملين بدينهم. أ- ضعف الكثير من المسلمين في تمسكهم بدينهم: يعود هذا الضعف إلى زمن بعيد، عندما بدأ المسلمون يفرطون في أمور الدين ولا يأخذونها بالقدر الكافي. وعانى المسلمون من ابتعادهم عن التمسك بما جاء به الرسول (ص) أسوأ ما تعانيه أمة ضلت طريقها واتبعت السبل فتفرقت بها عن سبيل الله وعن صراطه المستقيم. وقد بدأ الانحراف يعرف طريقه إلى المجتمع الإسلامي بالتحلل من القيم الإسلامية عندما وقع بعض حكام المسلمين تحت اغراء الشيطان الذي زين لهم الباطل ولبس عليهم الحق، فضلت خطواتهم الطريق السوي وابتعدوا بأنفسهم عما يجب أن يكون عليه الحاكم المسلم، فكان أن أهملوا وقصروا في صلتهم بربهم، وفي واجبهم نحو من يرعون من المسلمين فظلموا وانتقصوا الحقوق وأهملوا المرافق، وشغلتهم أموالهم وأنفسهم. وامتد الإهمال – بطبيعة الحال – إلى أهم المرافق وهو المسجد. وعلى مثل هذه القدوة السيئة يقع وزر انحراف من اتبعهم في غيهم، فكان إن ابتعدت الرعية عن بيوت الله، وتباعدت المسافة بين أعمالهم وسلوكهم، وبين روح المسجد وأدبه. فصارت الصلاة عندهم عادة وتقليدا، خالية من الروح الحقيقية للعبادة، وأصبح المسجد في حياتهم شيئاً غير ذي بال يتثاقفون في الذهاب إليه عند كل آذان، يخطفون صلاتهم التي أصبحت نقرا كنقر الديوك. هذا الضعف الذي اعترى الأُمّة الإسلامية منشؤه إهمال المسلمين دينهم وتفريطهم في أمره، لأنّ العناية بالمسجد تأتي ممن يهمهم أمر دينهم، أما إهمال المسجد والبعد عنه فنتيجة طبيعية للإبتعاد عن الدين وإهمال أمره. واقترن إهمال المسلمين لمساجدهم وضعف تمسكهم بدينهم بوقوع المسلمين فريسة لشهواتهم وملذاتهم، وذلك لأنهم تجاهلوا ما ندى به الإسلام من ضرورة الاعتدال والقصد في الأخذ بالدنيا حتى لا يصبح المرء عبداً لشهواته وملذاته. والمسجد بما فيه من ذكر لله وعبادة له، وبما له من تأثير في نفوس المسلمين بما يخاطبهم به من عظات وتوجيهات، وهو العاصم الطبيعي للمسلم من أن تستبد به شهواته أو تشتط به غرائزه. ولكن بتخليهم عن المسجد ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس وانتشرت الخبائث واجْتراء الكثير من الناس على الموبقات فاخذت الخمر وهي أم الخبائث تجد سوقاً في بلاد المسلمين، وتقف القوانين الوضعية عاجزة أمامها وأمام ما تنشر من مفاسد، وشاهدنا عودة الميسر والجرائم الخطيرة التي تنجم عن انتشاره بصوره المختلفة، علاوة على ما يسببه من تبديد للأموال وخراب للذمم وذلك بالإضافة إلى ما ابتليت به مجتمعات المسلمين من الزنا والربا المتسببين في ضياع الأُمم السابقة. وأصبح ضياع الأُمّة واقعاً مؤكداً، وتحقق فيها قول الله تعالى عمن يضيع الصلاة: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم/ 59). ب-انخداع بعض المسلمين بزخرف الحياة في المجتمعات الإسلامية: عندما كان المسلمون متمسكين بدينهم أقوياء العقيدة لم يضرهم اتصالهم بأبناء المجتمعات غير الإسلامية والاطلاع على طريقة حياتهم، بل انّهم كانوا يأخذون منها ما يتفق مع الإسلام، ويتركون ما يختلف مع جاء في كتاب ربهم وسنّة نبيهم (ص). كانت تلك معايير تعامل المسلمين مع ما وجدوه عند غيرهم حينما كان المسلمون ملتزمين بمنهج الإسلام وأخلاقه وآدابه. فلما اعترى المسلمين الضعف لتراخيهم في الالتزام بأوامر الدين تغير موقفهم ولم يجدوا غضاضة في تقليد غير المسلمين دون وعي، فأتاحوا لغيرهم أن يغزوهم فكرياً وعقدياً وحضارياً. ويكفي لإثبات صحة ما نقول أن نأخذ مظهراً واحداً من مظاهر التأثير السيء لغير المسلمين على أفكار المسلمين ومساجدهم. فعندما نجحت الصليبية الأوروبية في احتلال أراضي المسلمين وجدت الفرصة سانحة للتنفيس عن أحقادها على الإسلام باعتباره القوة الوحيدة التي بها يستعيد المسلمون سابق مكانتهم، ويردوا بها كيد أعداء الله إلى نحورهم. فعمل أولئك المستعمرون على إبعاد المسلمين عن دينهم وإبدالهم فكراً أوروبياً بفكرهم الإسلامي. ولكي يتحقق لهم ذلك بذلوا ما وسعهم من جهد في تنفير المسلمين عن دينهم الحنيف، وتشويه حقائقه، والطعن في رسولهم الكريم (ص) وصحابته الأبرار – رضوان الله عليهم –. فكانت مدارس التنصير ومعاهد الاستشراق ونوادي الماسونية والصهيونية أهم وسائل هذا الهجوم الشرس ولمعرفتهم بأهمية المسجد فقد أجمع أعداء الإسلام على حربه، واتبعوا لذلك وسائل شتى. منها إيجاد مؤسسات استعمارية بديلة، فأنشأوا مدارس وملاجئ ونوادٍ ومستشفيات ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب فمظهرها الخارجي بريء خداع يجذب المسلمين من أصحاب الحاجات أو من السذج الغافلين. أما حقيقة تلك المؤسسات، وهي الهدف الذي من أجله أنشئت، فهي التنصير وإخراج الناس من دين الحق. وكان همُّ من أجدوا تلك المؤسسات أن تسرق من المسجد رسالته، فكان لهم ما ارادوا. كما حاولوا القضاء على التعليم الإسلامي، فحرمت المساجد العنصر البشري من أئمة وعاظ، وحاربوا العاملين في تلك المؤسسة بالوسائل الإعلامية التي تحت أيديهم من صحف ومجلات ومسارح بأن سخروا منهم واستهزأوا وشوهوا صورتهم أمام أبناء وطنهم. فهانت في أعين عامة المسلمين صورة أهل العلم من بينهم ونفروا منهم[8]. ت- وكانت البدع والشوائب التي علقت بالعبادة في المساجد نتيجة لجهل المسلمين من الأسباب التي حالت بين المسجد وبين أداء وظيفته، تلك والخرافات التي اتصلت بالمسجد ودخلت عليه بالتحريف والتشويه وشاعت بين الجهال من المسلمين شيوعاً كبيراً. ولو أخلصنا النيات ووحدنا الجهود لتخليص المسجد من تلك السلبيات وأزلنا الأسباب التي تقعد بالمساجد عن أداء دورها لصلح أمر المجتمع ولاستطاعت هذه المساجد العريقة الاسهام بالنصيب الأوفى في محاربة الجريمة والوقاية من الزلل والإنحراف. إنا نرى هذا الدور المنشود أكبر من أن تحدده الألفاظ ولعلّ السطور التالية توضح أهم قسماته: أوّلاً: تقوية الجانب الديني في نفوس الناس بما يتلقونه من وعظ وارشاد وتوجيه يعصمهم من الوقوع في المعاصي، ويجعلهم من عناصر الخير في المجتمع. ثانياً: ارتباط المصلين بالمساجد يدفع المصلين إلى الابتعاد عن الفحشاء والمنكر والبغي وسائر الموبقات. فالصلاة جماعة تنشئ الاتحاد والمحبة والإخاء بين المسلمين، وتجعل منهم كتلة متراصة، فانهم عندما يجتمعون ويقنتون لربهم ويسجدون له ويركعون معاً تأتلف قلوبهم، وينشأ فيهم الشعور بأنهم اخوة فيما بينهم، ثمّ انّ الصلاة في جماعة تدربهم وتربيهم على النظام والانضباط والمحافظة على الأوقات، وتنشئ فيهم المواساة والتراحم، والمساواة والإئتلاف، فتراهم جميعاً غنيهم وفقيرهم، وكبيرهم وصغيرهم، وأعلاهم وأدناهم، يقومون جنباً إلى جنب، "في صفوف متلاحمة لا فرق بين قوي ولا ضعيف، ولا رفيع ولا وضيع". ثالثاً: الخشوع لله الذي يحس به المسلم في صلاته، ويدفعه إلى البعد عن الانحراف، فضلاً عن ارتكاب الجرائم، لما تفعله الصلاة بالإنسان من تطهير نفسه، والارتقاء بروحه، وإصلاح أخلاقه وأعماله. رابعاً: كما انّ المساجد التي تهيئ لروادها التزود بشعور التضامن والأخوة الناشئ من اجتماعهم للصلاة في الجمعة والجماعات والأعياد، وتوجد في هؤلاء المصلين الرغبة في معاونة بعضهم بعضا، وتنزع من أفئدتهم الرغبة في اعتداء بعضهم على بعض بأي نوع من أنواع الاعتداء. خامساً: ومن شأن الدروس التي تلقى في المساجد أن ترتقى بتربية الخلق والضمير إلى أعلى المستويات مما يشيع روح الفضيلة والمثالية فيسود المجتمع جو دائم من الهدوء والسكينة والقناعة والرضا. سادساً: في هذا الجو الذي يسوده الصفاء الروحي والسكينة تصبح المساجد هي المكان الأمثل لإصلاح ذات البين ولاجتماع لجان الصلح بين المتخاصمين والمتنازعين، وفي الصلح قضاء على كثير من الجرائم، بل وعلى التفكير فيها. سابعاً: يجب أن نعمل على تحبيب المساجد إلى الناس وإلى شبابهم على وجه الخصوص، بالعناية بنظافتها ومظهرها والحرص على اختيار القائمين عليها من الأكفاء ثقافةً وورعاً، ومراقبتهم في مظهرهم ولباسهم، والتوسيع عليهم في أرزاقهم بما يمكنهم من الظهور بالمظهر اللائق الذي يدعو إلى الاحترام والتوقير. لأنّ عامة الناس وشبابهم على وجه الخصوص، تخدعهم المظاهر عن الحقائق، ويتأثرون بالمظهر والصورة عن الجوهر والمخبر. ثامناً: من المفيد أن نعمل على ربط الناس بالمساجد، باختيار لجان من صالحي روادها من أهل الأحياء التي تقع فيها، لمراقبة حسن أدائها لوظائفها واقتراح ما تراه معينا عليه. *جامعة محمد بن سعود الإسلامية - الرياض
الهوامش:
[1]- البخاري، باب الصلاة 1/ 166 طبعة عيسى البابي الحلبي – القاهرة. [2]- صحيح مسلم رقم 654 في المساجد باب صلاة الجماعة من سنن الهدى وأبو داود رقم 550 في الصلاة باب التشديد في ترك الجماعة، والنسائي 2/ 107 في الامامة باب المحافظة على الصلوات حيث ينادى بهن. [3]- فتح الباري باب وجوب صلاة الجماعة 1/ 126. [4]- البخاري كتاب الصلاة/ 1/120. [5]- علي عبدالحليم محمود، المسجد وأثره في المجتمع الإسلامي، القاهرة 1396هـ، ص173-174. [6]- علي عبدالحليم محمود، المرجع السابق ص79 وما يليها، بتصرف.
[7]- علي عبدالحليم، المرجع السابق، ص90.
المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد 28 لسنة 1984م