جسّد الإمام الحسين (عليه السلام) أعلى درجات الارتباط بالله، فقد كان المثل الأعلى لمقامات التوكّل والتفويض والرضا والتسليم.
وفي أعظم موقف، وطفله الرضيع بين يديه، رماه حرملة بن كاهل الأسديّ بسهم فذبحه في حجر الحسين، فتلقّى الحسين (عليه السلام) دمه حتّى امتلأت كفّه منه، ثمّ رمى به إلى السماء، ثمّ قال: «هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله»، قال الإمام الباقر (عليه السلام): «فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض»[1].
فالإمام الحسين (عليه السلام) وصل إلى مرتبة التسليم، وإلى درجة لا يرى فيها نفسه، بل لا يرى إلّا الله، يقول (عليه السلام) في دعاء عرفة: «متى غبتَ حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟... عميت عينٌ لا تراك عليها رقيبًا»[2].
وهو ملقًى في آخر لحظات عمره الشريف، وقد أضعفته كثرة الجراح، وتفتّت كبده من حرارة الشمس ولهيب التراب، يناجي ربّه: «اللّهمّ، متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّ عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دُعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادرٌ على ما أردت، ومدركُ ما طلبت، وشكورٌ إذا شُكرت، وذكورٌ إذا ذُكرت، أدعوك محتاجًا، وأرغب إليك فقيرًا، وأفزع إليك خائفًا، وأبكي إليك مكروبًا، وأستعين بك ضعيفًا، وأتوكّل عليك كافيًا، احكم بيننا وبين قومنا، فإنّهم غرّونا وخدعونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيّك، وولد حبيبك محمّد بن عبد الله، الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا، برحمتك يا أرحم الراحمين»[3].
قال أبو مخنف: وبقي الحسين ثلاث ساعات من النهار ملطّخًا بدمه، رامقًا بطرفه إلى السماء، وينادي: «يا إلهي، صبرًا على قضائك، ولا معبود سواك، يا غياث المستغيثين»[4].
زاد عاشوراء للمحاضر الحسينيّ - الإصدار الثامن عشر، مركز المعارف للتأليف والتحقيق
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج45، ص46. (ينقله عن ابن طاووس، السيّد رضيّ الدين عليّ بن موسى الحسينيّ، اللهوف في قتلى الطفوف، أنوار الهدى، إيران - قم، 1417ه، ط1، ص69).
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج64، ص142.
[3] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، مصدر سابق، ص827-828.
[4] القندوزيّ، الشيخ سليمان بن إبراهيم الحنفيّ، ينابيع المودّة لذوي القربى، تحقيق السيّد عليّ جمال أشرف الحسينيّ، دار الأسوة للطباعة والنشر، إيران - قم، 1416ه، ط1، ج3، ص82.