أطوار الأمة والمثل الأعلى الحقيقي

قيم هذا المقال
(0 صوت)
أطوار الأمة والمثل الأعلى الحقيقي

تمرّ الأمّة بمراحل في الحقيقة، يمكننا تلخيصها في أربعة مراحل:
 
المرحلة الأوّلى، الإبداع والتجديد
فهذا المثل يكون له في المرحلة الأوّلى فاعليّةٌ وعطاءٌ وتجديدٌ، بقدر ما يكون له من ارتباط بالمستقبل، ولكن هذه مكاسبٌ عاجلةٌ، وليست مكاسبَ على الخطّ الطويل، لأنّ عمر هذا المثل قصيرٌ وسوف يتحوّل في لحظةٍ من اللحظات إلى قوّة إبادةٍ لكلّ ما أعطاه من مكاسب. انظروا إلى قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ َحْظُوراً﴾([1]).
 
المرحلة الثانية، التجمد والانقياد
حينما يتجمّد هذا المثل الأعلى ويستنفذ طاقته وقدرته على العطاء، يتحوّل إلى تمثالٍ، والقادة الذين كانوا يعطون ويوجّهون على أساسه يتحوّلون إلى سادة وكبراء، وجمهور الأمّة يتحوّل إلى مطيعين ومنقادين، لا إلى مشاركين في الإبداع والتطوير، وهذه المرحلة هي المرحلة التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا﴾([2]).
 
المرحلة الثالثة، امتداد تاريخي
هذه السلطة تتحوّل إلى طبقةٍ، بعد ذلك تتوراث مقاعدها عائليّاً أو طبقيّاً، وحينئذٍ تصبح هذه الطبقة هي الطبقة المترفة، والخالية من الأغراض الكبيرة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ ([3]).
 
المرحلة الرابعة، تسلّط وتدمير
ثمّ حينما تتفتت الأمّة وتفقد ولاءها لذلك المثل التكراريّ يسيطر عليها مجرموها وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُون﴾([4]). يسيطر هتلر والنازيّة مثلاً في جزءٍ من أوروبا، لكي يحطّم كلّ ما في أوروبا من خيرٍ، ويقضي على كلّ تبعات ذلك المثل الأعلى، الذي رفعه الإنسان الأوروبيّ الحديث، والذي تحوّل بالتدريج إلى مَثلٍ تكراريّ.
 
ما هو المثل الأعلى الحقيقي؟
هو الله سبحانه وتعالى. وفي هذا المثل، التناقض الذي واجهناه في القسمين السابقين من المثل العليا، سوف يُحلّ بأروع صورةٍ، وحاصل ذاك التناقض أنّ الوجود الذهنيّ للإنسان محدودٌ، والمَثل يجب أن يكون غير محدودٍ، فكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود؟ هذا التنسيق سوف نجده في المَثل الأعلى الحقيقيّ، لأنّه ليس من نتاج الإنسان بل هو مَثلٌ لأنّه مطلقٌ، لكن الإنسان حينما يريد أن يمسك بحزمةٍ من هذا النور، طبعاً هو لا يمسك إلّا بقدرٍ محدودٍ من هذا النور، إلّا أنّه يميّز بين ما يمسك به وبين مثله الأعلى.

ومن هنا حرص الإسلام على التمييز دائماً بين الوجود الذهنيّ وما بين الله سبحانه وتعالى، الذي هو المثل الأعلى، فرّق حتى بين الاسم والمسمّى، وأكّد على أنّه لا يجوز عبادة الاسم، وإنّما العبادة تكون للمسمّى، لأنّه هو المطلق، أمّا الاسم فهو مقيّدٌ ومحدودٌ.
  
المثل العليا – بتصرّف يسير، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

([1]) الإسراء: الآيات 18 إلى 20.
([2]) الأحزاب:67.
([3]) الزخرف:23.
([4]) الأنعام:123.

 

قراءة 466 مرة