إنّ الله سبحانه أوصانا بالوالدين إحساناً، وجعل شكر الوالدين مساوياً لشكره، فالله هو الذي أبدع الحياة، وهو الذي أوصى الإنسان بشُكر والديه وبرّهما، ولهذا قال: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان/ 14).
ونحن لا نريد الآن أن نتحدَّث في هذا الموضوع بشكلٍ فوق العادة، لكنّنا نريد أن نشير إلى نقطة أصولية لها جانب فقهي، وهي أنّ المطلوب هو الإحسان إلى الوالدين لا إطاعتهما، (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً) (الإسراء/ 23-24)، أي أن تبقى تحسّ بعمق الرحمة لأبويك، وخصوصاً في كبرهما، لأنّه عندما يكبر الإنسان، يفقد سعة صدره، وهدوء مشاعره، فيضيق صدره، وتتوتّر مشاعره، وقد يفقد توازنه في مواجهة الأشياء، ولذلك، فإنّ الذي يرعاه أو يعيش معه، سيعاني صعوبةً في ذلك، فقد يحتاج إلى طاقة كبيرة من التحمّل حتى يصبر على مزاجه وسلبيّاته، وحتى يصبر على هذا الخلل في التوازن. لذلك فإنّ مرحلة كبر الوالدين تعتبر مرحلة التحدّي لأخلاقيّة الإنسان ولإنسانيّته، فلذلك أراد الله له أن يكبت كلَّ مشاعره تجاه السلبيات التي يمكن أن تصدر عن والديه: (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا)، عليك أن تبقى مبتسماً في وجهيهما، وأن تبقى في حالة وداعة وانفتاح بالنسبة إليهما، فلا تنهرهما، ولا تصرخ في وجهيهما، ولا تدفعهما بيدك، ولا تسيء إليهما.
(وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) فيه كلُّ عطاء المحبّة، وكلّ عطاء الخير، وكلّ إنسانيّة الشعور، وكلّ إنسانيّة الكلمة، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، فلا يأتك الشيطان ليقول لك إنّ أباك أساء إلى كرامتك وعليك أن تثور لها، وإنّ أُمّك أساءت إلى عزّتك وعنّفتك بكلامها أمام الناس وأمام زوجتك وأمام أولادك، وعليك أن تدافع عن عزّتك ولا تقبل الذلّ من أُمّك وأبيك، لا تستمع إلى الشيطان بذلك، لأنّك جزء من أبيك وجزء من أُمّك، والإنسان لا يشعر بالكرامة أمام جزء من أجزائه. هل تشعر بالكرامة إذا عضّ سنّك لسانك أو يدك، مع أنّك قد تشعر بالألم الشديد؟ فالكرامة إنّما تكون بين إنسانٍ وإنسان، ولكنّها لا تكون بينك وبين أبيك وأُمّك، فأنت جزء منهما، وهما أصلك وأنت فرعهما، كما هي الشجرة بالنسبة إلى أغصانها.
لذلك، كن الذلّيل معهما، ولكن لا ذلّ الكرامة، وإنّما ذلّ الرحمة، أفلا تتذلّلون أنتم الذين لديكم أولاد عندما يتمرَّد الولد؟ ألا تتذلّلون له تذلّل الرحمة؟ ألا تخضع لولدك؟ ليكن خضوعك لأبيك وأُمّك أكثر من خضوعك لولدك، لأنّك لست من ولدك وإن كان منك، لكنّك من أبيك وأُمّك: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، كما يخفض الطائر جناحه. وتذكَّر عندما يؤذيانك، وعندما يسيئان إليك، كيف كنت تؤذيهما ويتقبّلان أذاك بكلِّ محبّة، كيف كنت تحرمها النوم ويسهران يهدهدانك ويلاعبانك ويتحمّلان منك ما لا يتحمّل، كيف كنت وأنت مريض تجعلهما في حالة طوارئ، وتجد أنّ قلبيهما يحترقان عليك، تذكَّر (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً).
حقُّ الأُمّ والأب
ونختم الحديث بكلمتين للإمام زين العابدين (ع) في حقِّ الأُمّ وحقِّ الأب، ونحن لا نريد أن يكون هناك يوم للأُمّ وحدها، ولكن علينا أن نجعل يوماً للوالدين، لأنّ الله أرادنا أن نحسن إليهما معاً. يقول الإمام زين العابدين في "رسالة الحقوق"، كما رُوِي عنه: "وحقّ أُمِّك أن تعلم أنّها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحداً"، قد يحملك أحد على ظهره، ولكن هل يحملك أحد في داخل جسده في الليل وفي النهار وأنت تعبث بكلّ جسده؟! "وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحداً، ووقتك بجميع جوارحها"، أرأيتها كيف تحافظ عليك عندما تريد أن تمشي وتقول لك: لا تستعجل؟ وعندما تريد أن تحمل شيئاً، فتقول لك: لا تحمل شيئاً ثقيلاً يمكن أن يساهم في إسقاطك، ولا تأكل أيَّ شيء يمكن أن يضرّك، وهي تتحمّل الألم مستبشرةً فرحةً، متحمِّلةً لما فيه مكروهها وألمها، حتى دفعتها عنك يد القدرة عندما جاءت ساعة الوضع، وأخرجتك إلى الأرض؟ "ولم تبالِ أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتظلّك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحر والبرد لتكون لها، فإنّك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه"، فإذا كان الأمر كذلك، فلتشكرها على قدر ذلك، هذا عن الأُمّ.
وأمّا عن الأب: "وأمّا حقّ أبيك، فأن تعلم أنّه أصلك، وأنّك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك ـ من خصالٍ وأخلاقٍ وسجايا وجمال ـ فاعلم أنّ أباك أصل النِّعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوّة إلّا بالله".
هذا هو الخطّ الإسلامي الأصيل في نظرة الإسلام إلى الأب وإلى الأُمّ، ولذلك، إذا كان العالم يحتفل بيوم الأُمّ، فعلينا أن ندرس هذا الاحتفال إسلامياً، بحيث نتبيّن على ضوء خطِّ التوعية الإسلامية العامّة للأُمّة، ما هو حقّ الأُمّ، ونتبيّن ما هو حقّ الأب، حتى نستطيع أن نعيش في هذا الجانب من الخطّ الإسلامي على هدي الإسلام، لا مجرّد الجانب العاطفي فحسب.