تعد امريكا من أكثر دول العالم صخباً وضجيجاً بالحديث عن حقوق الإنسان وشعاراته، كما أنها الدولة الأكثر استخداما لورقة حقوق الإنسان في سياستها الخارجية، لكن واقع الحال يحكي انها من الدول الاكثر انتهاكا "لحقوق البشر بدأ" من المجازر بحق الهنود الحمر مرورا "بالقنابل الذرية على اليابان في مدينتي هيروشيما وناجازاكي ابان الحرب العالمية الثانية وصولاً الى التاريخ الناصع السواد في حرب الفيتنام وما تلاها من كل الحروب التي خاضتها وتخوضها واشنطن في العراق وأفغانستان وصولاً الى العنصرية بحق مواطنيها السود والتي يدمى لها جبين البشرية فضلاً عن الانتهاكات القائمة على التمييز العنصري ضد العرب والمسلمين.
أما كل هذا الضجيج والصخب -الأمريكي -حول حقوق الإنسان لم يكن سوى ستارا، أخفى خلفه نزعة التوسع والسيطرة التي طبعت الامبراطورية الأمريكية منذ نشأتها وقيامها فوق تلال من جماجم عشرات الملايين من الهنود الحمر، وهكذا فان حقوق الإنسان كانت هي اللافتة التي اتخذتها الولايات المتحدة ستارا لارتكاب أبشع ممارسات انتهاكات الإنسان في تاريخ البشرية.
لذا فان اصل قيام هذه الدولة قام على انتهاك حقوق الانسان ضاربة عرض الحائط اقل المعايير الانسانية, وعليه فليس لها الحق بان تتصدى لمشاريع تتعلق بالانسانية, وخاصة في المحافل الدولية كمجلس الامن الذي يعتبر ايضا" من اكبر التجمعات العنصرية على وجه التاريخ.
وقد دفعت هذه المفارقة الصارخة احد المحللين الى القول بان امريكا أكثر الامبرطوريات دموية في التاريخ.. كانت هي الأكثر وقاحة بين نظيراتها في استخدام حقوق الإنسان كمبرر لتلك الدموية غير المسبوقة. وقريبا من هذا المعني، ذهب المفكر الأمريكي ناعوم شومسكي الى القول "من وجهة النظر القانونية أن هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية بأنهم مجرمو حرب، أو على الأقل متورطون بدرجة كبيرة في جرائم حرب".
لم يتوقف السيد الامريكي هنا, بل ذهب اكثر من ذلك عبر دعم الكيان الاسرائيلي باساليب القتل واستخدام الفيتو في المحافل الدولية ضد اي قرار يدين الاجرام الاسرائيلي بحق الفلسطنيين او غيرهم, منذ النكبة وحتى تاريخنا الحاضر الذي تجلى بدفاع جون كيري عن انتهاك حقوق الانسان من قبل اسرائيل والذي قال خلال محادثات مع الصحافيين منذ ايام انه "موقفنا دائما الدفاع عن إسرائيل وحماية مصالح إسرائيل في مجلس حقوق الإنسان".
ومضيفا "اتهامه، مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالتركيز بشكل غير متناسب على الاتهامات بانتهاكات "إسرائيل" لحقوق الإنسان. وقال كيري في كلمة للمجلس في جنيف، أن سجل مجلس حقوق الإنسان مقلق للغاية بشأن "إسرائيل"، و لا يمكن لأحد في هذه الغرفة إنكار وجود تركيز غير متوازن على دولة ديمقراطية واحدة. وأضاف كيري مدافعاً بشدة عن دولة صهيونية مجرمة "ان اتهام اسرائيل بانتهاك حقوق الانسن قد يقوض مصداقية هذه المنظمة". وأكد كيري، أن أمريكا ستعارض أي محاولة لأي جماعة أو مشارك في نظام الأمم المتحدة لنزع الشرعية عن "إسرائيل" أو عزلها بشكل تعسفي ومنتظم. مضيفا "أن أي تحقيقات مع إسرائيل يجب أن تكون "موضوعية ومحايدة ... وليست متحيزة ومنحازة".
ووفق احد المسؤولين المرافقين لكيري فإن أحد بواعث القلق الرئيسية لواشنطن هو تحقيق الأمم المتحدة الذي تجريه في عدوان إسرائيل على غزة ، الذي أدى إلى مقتل 2100 فلسطيني معظمهم من المدنيين. ففي العام الماضي فقط, عارضت امريكا 18 قرارا" للجمعية العامة للامم المتحدة تدين الكيان الاسرائيلي بانتهاكه حقوق الانسان, بالاضافة 5 قرارات لمجلس الامن استخدمت فيهم الفيتو..
هذا خارج امريكا اما بالنسبة للداخل فحدث ولا حرج من العنصرية اتجاه المواطنين السود, ففي بيان واضح اعترفت وزارة العدل الأمريكية إن السلطات وشرطة مدينة فيرغسون قامتا بانتهاك حقوق سكان ذوي أصول إفريقية، وفي التقرير الذي نشرته الوزارة أقرت بأن رجال شرطة فيرغسون قاموا مرارا باستخدام القوة المفرطة ضد الأمريكيين من أصول إفريقية، إضافة عن ترديدهم نكات ذات طابع عنصري، بما في ذلك تبادل الرسائل الإلكترونية.
اضافة الى ذلك, التقرير الحكومي الذي نشرته صحيفة " نيويورك تايمز" كشف أن 93% من المعتقلين في فيرغسون في الفترة بين عامي 2012 و2014 كانوا من السود. وكانت مدينة فيرغسون الأمريكية التي يعتبر السود نسبة 67% من سكانها، قد شهدت احتجاجات حاشدة ضد قسوة الشرطة والتمييز العنصري على خلفية قتل شاب أعزل من أصول إفريقية يدعى مايكل براون في آب / أغسطس الماضي، وتجددت الاحتجاجات في فيرغسون وعدد من المدن الأمريكية الأخرى في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عقب قرار هيئة المحلفين عدم إحالة دارين ويلسون، وهو الشرطي المتهم بإطلاق النار على براون، إلى المحكمة.
وعطفا" على ماسبق, فبحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية صدر في السادس والعشرين من الشهر الماضي، فان الشرطة الامريكية استخدمت قنابل غاز محرمة دوليا في مواجهة الاحتجاجات الشعبية على عدم مقاضاة الشرطي الابيض. كما شكك التقرير فيما اذا كانت السلطات الامريكية المنوط بها تنفيذ القانون قامت بواجبها على الوجه الصحيح، في اشارة الى ان اعتبارات عنصرية تدخلت في هذه القضية.وغني عن البيان ان حادث قتل مواطن اسود ثم عدم مقاضاة قاتله الابيض، لن يبدو اكثر من نقطة في بحر، اذا اردنا ان نتعرض الى تفاصيل السجل الامريكي في انتهاكات حقوق الانسان، سواء محليا او دوليا. الا ان معطيات سياسية في الاساس تمنح امريكا وضعا استثنائيا يتمثل في حصانة من المحاسبة على ما ارتكبته من جرائم كبرى ضد الانسانية.
وفي سياق متصل, ومن اجل وضع النقاط على الحروف وفي انتقاد مقنع لامريكا وحلفائها، اتهم وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف تلك الدول باستغلال حقوق الانسان “لاخفاء مخططات اجتماعية وسياسية واستراتيجية واسعة لتغيير المنطقة وتقويض حكومات اعتبرت غير صديقة”.
ان ما يحكم السياسات الامريكة هو الغريزة العنصرية التي تتحكم بهم بشكل باطني, وعلى هذه الغريزة تترجم افعالهم اللانسانية, والاكثر غرابة انتقاضها للحكومات التي يتعرض جزء من مواطنينها لاقل الممارسات العنصرية الشبيهة لامريكا فهل يمكن ان نتخيل الموقف الامريكي اذا قتلت الشرطة في اي بلد عربي نصف العدد الذي قتلته الشرطة الامريكية من متظاهري فيرغسون.
وعادة ما ترد الخارجية الامريكية بغضب شديد اذا حاول احد تذكيرها بأن تهتم اولا بادائها في حقوق الانسان، ومثال ذلك الازمة الدبلوماسية التي نتجت عن بيان للخارجية المصرية ادان مقتل المواطن الاسود وطالب واشنطن بضبط النفس. وانه لامر مؤسف ان تستمر الانتهاكات لحقوق المواطنين السود في امريكا، في عهد اول رئيس اسود، وهو من كان يفترض ان يصنع فرقا في هذا الملف على الاقل.
ولعل العرب والمسلمين الذين وعدهم اوباما في بداية عهده بصفحة جديدة في العلاقة مع امريكا، بما في ذلك تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، يجدون عزاء الان في ان اوباما لم يخيب امالهم وحدهم، بل وحتى ابناء جلدته من الامريكيين ايضا. لكنهم مطالبون قبل ذلك بأن يرفضوا الاستماع الى محاضرات واشنطن ودروسها في حقوق الانسان التي عادة ما تكون غطاء للتدخل في شؤونهم دفاعا عن مصالح، وليس عن مبادئ او اخلاق ينطبق عليها القول «فاقد الشيء لا يعطيه».