الناتو يصعد لاستدراج روسيا.. أخطر مواجهة منذ الحرب الباردة

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الناتو يصعد لاستدراج روسيا.. أخطر مواجهة منذ الحرب الباردة

صراع روسيا وتركيا يضرب جذوره في أعماق التاريخ منذ العقود الأولى للدولة العثمانية ويمتد لما ينوف عن 500 عام، اشتبك فيها الطرفان 17 مرة في “حروب مباشرة”، فازت روسيا فيها جميعها، آخرها أدت إلى تخلي تركيا عن نفوذها في شبه جزيرة القرم إبان الحرب بينهما بداية القرن التاسع عشر، وخسارتها “مناطق النفوذ العازلة” بينهما في جنوبي أوكرانيا. 

تجدد الأزمة بينهما وتصاعدها المضطرد “بإشراف مظلة حلف الناتو” أعاد تنشيط الذاكرة لتفاقم الصراع الدولي مع تدهور الأوضاع الأمنية عند الحدود المشتركة مع سوريا ومقاربة ظروف اندلاع الحرب العالمية الأولى وتشابه استغلال حوادث ثانوية آنذاك، من قبل القيصر الألماني فيلهلم وامبراطور النمسا فرانز جوزيف، وتسخيرها في خدمة أهداف سياسية ضيقة. 

القيصر والامبراطور اليوم يجسدهما فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان. الأول يهدد تركيا بأنها “ستندم على فعلتها”، والثاني يتوجه لدول الناتو طالبا مزيدا من الدعم العسكري، وإن جاء رمزيا. القوات العسكرية للبلدين تقف في مواجهة بعضهما مباشرة على جانبي الحدود السورية، فضلاً عن الحجم الهائل للترسانة العسكرية الروسية ووضعها على أهبة الاستعداد. الثابت أيضاً أن كلا الدولتين تحافظان على إبقاء مسافة بينهما ولو ضيقة، تسمح بعدم الاقتراب من حافة الهاوية، لا سيما الطرف الأضعف منهما رغم ضجيج الصخب الإعلامي وقعقعة السلاح. 

تركيا “سُمح” لها توخي لهجة التهدئة إعلامياً بينما يمضي حلف الناتو في تعزيز وجوده العسكري على الأراضي التركية. أردوغان من جانبه استحدث لهجة “الدفاع عن العالم التركماني”، اسوة بخطاب الدول الاستعمارية في “الدفاع عن الأقليات” العرقية والدينية. 

ربما من سخرية القدر هذه الأيام رؤية الدول المتورطة في نشوب الحرب العالمية الأولى عينها تتهدد وتتوعد اليوم باعتماد المواجهة العسكرية: فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، أميركا، وتركيا. اليابان في محصلة الأمر ستقف إلى جانب حلف الناتو لا محالة. 

نوايا حلف الناتو بمحاصرة وتفتيت روسيا لم تعد حبيسة التكهنات ومنطق التحليلات السياسية. يحضرنا في هذا السياق ما أورده القائد الأميركي السابق لقوات حلف الناتو، الأميرال جيمس ستافريديس، مطلع عام 2014، محذرا من تفاقم وتيرة الصراع في وعلى منطقة الشرق الأوسط “وقد يمتد ليلتهم عموم منطقة الشرق الأوسط .. ويؤشر على تهديد حقيقي لأمن القارة الأوروبية .” وأوضح في مغزى تصريحاته أن الدول التي سيمتد إليها خطر الحروب هي “دول حلف الناتو في أوروبا وأصدقاء أميركا في المنطقة، من السعودية للخليج العربي للأردن وإسرائيل.” يشار إلى أن الأميرال ستافريديس أشرف على قصف حلف الناتو لليبيا والعمليات العسكرية في دول بحر البلقان، ومناطق أخرى. 

دروس التاريخ القريب والبعيد تؤكد حقيقة لجوء القيادات السياسية لقرع طبول الحرب كأحد الأساليب المفضلة لتعزيز مكانتها داخل مجتمعاتها، وحماية مصالح القوى المتنفذة، وتمديد السيطرة والنفوذ إلى مناطق متعددة.

أميركا تهدد بصراع مفتوح

استغل الرئيس الأميركي باراك أوباما فرصة لقائه نظيره الروسي في مؤتمر المناخ في باريس للنفخ في ديمومة الصراع الدولي مع “الدولة الإسلامية .. التي تشكل تهديدا جديا لفترة زمنية قادمة”، متراجعا عن توصيفه السابق لها بأنها “لاعب مبتدئ”، أرفقه بالإعلان عن إرسال بلاده قوة إضافية من القوات الخاصة “في مهمة استكشافية” وشن عمليات خاطفة في سوريا والعراق.
 

نزعة التدخل العسكري في شؤون الغير هي رغبة متأصلة في جذور النظام السياسي، الأميركي والاوروبي. بيد انه ينبغي النظر إلى الجولة الاخيرة في تعزيز التواجد العسكري الأميركي واتباعه الغربيين من زاوية المناخ الانتخابي المطبق على المشهد الأميركي، وما يواكبه من مزايدات ومواقف سياسية متشددة، والتي لا تقتصر على حزب او توجه سياسي معين. الثابت في هذا المجال ان بعض القيادات البارزة في الحزب الديموقراطي وانصارها في الطرف المنافس نجحت اخيرا في “ابتزاز” موقف الادارة وتعزيز مطلبها بالتدخل العسكري في سوريا – وان على مراحل. 

على الطرف المقابل، برزت النائب عن ولاية هاوايي وعضو لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، تولسي غابارد، تحذر من تداعيات الانخراط العسكري، سواء ان كان مدروسا او بخلافه، وما ينطوي عليه من جر الولايات المتحدة إلى “حرب نووية” مع روسيا هذه المرة. 

واوضحت غابارد مصدر قلقها بأنه ناجم عن “نشر روسيا لنظم وبطاريات دفاعاتها الجوية المتطورة (في سوريا) مما سيضاعف من امكانية حدوث تصادم متعمد او عرضي” بين القوتين العظمتين. 

اللافت أيضاً أن إبلاغ الكونغرس بإرسال مزيد من القوات الخاصة لسوريا والعراق جاء على لسان وزير الدفاع آشتون كارتر، في مثوله أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب، مناشدا الاغلبية من صقور الحرب اصدار تفويض جديد وصريح يخول الكونغرس بموجبه الرئيس أوباما شن حرب على تنظيم "الدولة الاسلامية"، ينزع القيود الراهنة على قانون التفويض لعام 2001 المعمول به حاليا. 

وبرر كارتر دعوته بأنه يتعين على أعضاء الكونغرس “النظر .. لشن القوات الأميركية غارات محددة الأهداف غير مقيدة في اي مكان من الأراضي السورية والعراقية .. اينما سنحت الفرصة لذلك”، وما سيترتب عليها من منافع وانجازات “تتيح لها انشاء ارضية افضل لجمع معلومات استخباراتية، ينطوي عليها تحديد أهداف اضافية، وشن مزيد من الغارات، وتعزيز قوة الدفع” العسكرية. لم يغفل كارتر الاشارة بوضوح إلى ان مهام “القوات الخاصة الاستكشافية .. تتضمن قيامها بشن غارات احادية الجانب داخل الأراضي السورية.” 

تباين تقييم المؤسسة العسكرية والبيت الأبيض، في ما يخص “احتواء” داعش برز بوضوح في جلسة لجنة القوات المسلحة المشار اليها، نظرا لعزم الحزب الجمهوري على تفنيد ادعاءات الرئيس أوباما بأن “استراتيجيته” في المنطقة بدأت تؤتي أكلها. رئيس هيئة الاركان المشتركة، جوزيف دنفورد، ابلغ اللجنة المذكورة ان قيادات البنتاغون تختلف في تقييمها لتنظيم الدولة الاسلامية عن الصورة الصادرة عن البيت الأبيض، اذ ان خطر التنظيم “لم يعد قيد الاحتواء.”

هجمات باريس ذريعة للتدخل

سارعت الدول الأوروبية  الرئيسة، فرنسا وبريطانيا وألمانيا، إلى استثمار الهجمات المتزامنة في باريس لتواكب المطالب الأميركية بمزيد من الانخراط الفعلي ميدانيا، في سوريا والعراق، توجه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون باستصدار تفويض برلماني يخوله استخدام “سلاح الجو الملكي” شن غارات مكثفة على مدينة الرقة السورية – عاصمة "دولة الخلافة الإسلامية".
 

ألمانيا، التي عادة ما تبرز فرط حساسيتها لإرسال قواتها العسكرية خارج حدودها، انضمت لدعم المطلب الأميركي دشنته المستشارة انغيلا ميركل بموافقة حكومتها على إرسال قوات برية قوامها 1،200 عنصر ترافقها طائرات مقاتلة للعمل في الأجواء  السورية؛ عزتها بإرسال فرقاطة حربية “لحماية حاملة الطائرات الفرنسية” العاملة في مياه المتوسط. 

وزارة الدفاع الالمانية اصدرت تقريرا عن تدني فعالية قواتها الجوية مقارنة بما كان عليه الوضع العام الماضي، اذ انخفض عدد طائراتها من طراز تورنادو من 89 إلى 66، صلاحيتها للعمليات القتالية لا تتعدى 29 مقاتلة. يشار في هذا الصدد إلى العقبات التي اعترضت مهام المقاتلات الالمانية في عمليات انزال اسلحة وذخيرة لقوى البشمركة الكردية في شمالي العراق، وتوفيرها مساعدات طبية خلال انتشار وباء ايبولا في الغرب من القارة الافريقية. 

زيادة عدد الطلعات الجوية من الدول الأوروبية  المختلفة إلى جانب المقاتلات الأميركية والتركية في الأجواء  السورية يعزز مشاعر القلق من تدهور سبل السيطرة على العمليات العسكرية وحدوث اشتباكات مباشرة مع سلاحي الجو الروسي والسوري، واسقاط تركيا للقاذفة الروسية، وما رافقها من نشر روسيا لاحدث ما في ترسانتها من دفاعات جوية في الأراضي السورية؛ وما ينطوي عليها من استعداد البشرية لما هو اسوأ، كما عبرت عنه النائب الديموقراطي تولسي غابارد. 

القطعات البحرية المختلفة تتزاحم أيضاً في مياه البحر المتوسط والخليج العربي، كل لاسبابه وتبريراته المختلفة: أميركا وحلفاؤها في دول الناتو مقابل روسيا بالدرجة الأولى. المصادر الاعلامية الروسية أشارت مؤخرا إلى غواصتين تركيتين تواكبان تحرك المدمرة الروسية، موسكوفا، بالقرب من شواطئ مدينة اللاذقية؛ ردت عليها روسيا بإرسال سفينة امداد حربية عبرت مضيق الدردنيل رافقتها زوارق خفر السواحل التركية في رحلتها باتجاه الشواطيء السورية.

موسكو والناتو علاقة مضطربة

في العام 1997 عقدت سلسلة ترتيبات بين موسكو – يلتسين وقيادة حلف الناتو أرست قواعد “اشتباك” جديدة بينهما خولت روسيا مقعد المراقب في مداولات الحلف للحد من التوترات المستقبلية. لم تصمد العلاقات الودية أمام اي امتحان منذ ذلك الزمن بدءا لأسباب تخص الحلف وقوته الاساسية المتمثلة في الولايات المتحدة لمحاصرة واحتواء روسيا، دشنها بالتعدي على دول الجوار الروسي، جورجيا، لادامة النزيف في الجسد الروسي.
لحظة الافتراق البينة بينهما كان العدوان الغربي على ليبيا، 2011، والمناوشات المستمرة للحلف بالقرب من الحدود الاقليمية لروسيا: دول بحر البلطيق والجمهوريات السوفياتية السابقة. تصعيد حلف الناتو ضد روسيا لم يهدأ يوماً، أحدثه جاء مؤخرا باعلان الحلف استعداده لضم “جمهورية الجبل الاسود” إلى عضويته، مما عزز مشاعر القلق الروسية وتهديد موسكو باتخاذ “تدابير عقابية”، وفق تصريحات الناطق باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، لما تراه روسيا من “تمدد البنية التحتية العسكري للناتو شرقا، لن يسفر الا عن اجراءات عقابية من الجانب الروسي”. 

وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حذر اعضاء الحلف في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي من التمدد شرقا معتبرا الخطوة “خطأً، بل استفزازا .. وسياسة غير مسؤولة من شأنها تقويض الجهود لبناء نظام متساو وشراكة أمنية في أوروبا.” 

في هذا السياق تنظر موسكو إلى حادث اسقاط قاذفتها سو-24 من قبل سلاح الجو التركي، كجزء من مخطط استهداف له أبعاد جيواستراتيجية، يستدعي الرد عليه بحزم وحكمة. 

تصعيد الناتو واجهته موسكو بتصعيد عسكري مماثل في القوة باجرائها تجربة ناجحة على نظام صاروخي جديد، نودول، باستطاعته اسقاط الاقمار الاصطناعية العسكرية الأميركية في الفضاء الخارجي، باستغلاله نقاط ضعف بنيوية في تلك الاقمار. وأشد ما يخشاه الأميركيون قدرة موسكو على توجيه بضعة رؤوس متفجرة لا تتعدى 20 صاروخا لتشل قدرة الاقمار الاصطناعية الأميركية للمهام الاستخباراتية بالكامل، فضلا عن تقويض حركة الملاحة الفضائية والحاق الضرر بتقنية الاتصالات المتطورة المستخدمة في اغراض عسكرية.

حقيقة أهداف واشنطن وحلفائها

يجمع الأخصائيون الأميركيون على النتائج الأولية للتدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا بأنه ضرب مخططات حلف الناتو في الصميم لناحية ادامة الصراع الدامي والحيلولة دون التوصل لحل سياسي، لا سيما وان دخول احدث الدفاعات الجوية للاراضي السورية اضاع فرصة تركيا ودول الحلف بانشاء “منطقة آمنة .. او حظر للطيران” في الشمال السوري. 

ولا يفوتهم الاشارة إلى تصميم القيادة الروسية الدخول في مواجهة عسكرية، ولو محسوبة، للدفاع عن مصالحها كما جرى في أوكرانيا والآن في سوريا. قرار الدخول في حرب جديدة ليس ايسر الخيارات بالنسبة للدول الأوروبية  تحديدا، والتي “فرضت” عليها واشنطن اقتطاع مزيد من الموارد المالية لدعم ميزانياتها العسكرية بنسب متفاوتة، 2 إلى 7 بالمائة، في ظل ازمات اقتصادية متجددة لن تكون اليونان حالة استثنائية بينها. 

من الملاحظ تزايد الجدل السياسي في الداخل الأميركي وتناغم خطابه مع نزعة “احتواء” الأزمة في سوريا وليس القضاء على الارهاب كما يروج اعلاميا. الثابت ان واشنطن وحلفاءها في حلف الناتو ووكلاءها في الخليج العربي يجهدون في الابقاء على تنظيم "الدولة الاسلامية" ضمن حدود السيطرة عليه واستغلاله لادامة النزيف السوري استعدادا للفرصة غير المرئية في اضعاف الدولة السورية؛ وفي نفس الوقت تخشى الدول الغربية بشكل خاص امداد التنظيم باسلحة ومعدات تمكنه من فك قيود السيطرة عليه. اتخاذ موقف متوازن بين الخيارين أمر لا يحظى باجماع حتى اللحظة. 

الترجمة العملية لسياسة “الاحتواء” هي توفير الفرصة الضرورية للادارة الأميركية بالقاء سهام الاتهامات بعيدا عنها وابعادها قدر الامكان عن ادامة اتهامها بالعجز او الفشل الأمني والاستراتيجي. اركان الادارة الأميركية يدركون بوعي ان مهمتهم تنحصر في ابقاء جذوة الأزمة مفتوحة وتحت السيطرة، إلى حين تسلم الادارة المقبلة زمام السلطة في شهر كانون الثاني/ يناير لعام 2017. 

الارضية الفكرية لصاحب القرار السياسي في واشنطن، مؤسسات وقوى ومصالح مختلفة، تنسج لحمتها ضمن معادلة “ادارة الصراع”، وليس حله بالضرورة الا حينما يتطابق الحل مع المصالح الأميركية العليا، كما شهدنا في جهودها لتشظي دول البلقان واغراقها بحرب دموية إلى ان حانت فرصة اتخاذ قرارها بمفردها مع غياب الاتحاد السوفياتي عن المسرح الدولي، واغراق روسيا-يلتسن بازمات مفتعلة وان كان بعضها يجد مبررات اقتصادية واجتماعية. 

تسابق الترسانات البحرية لدول حلف الناتو مجتمعة وروسيا بالمقابل، في قلب الوطن العربي، ينذر بخروج الأزمة عن السيطرة وميل بعض القوى الفاعلة إلى ارتكاب خطأ ميداني يجر القوى الأخرى إلى مواجهات مباشرة غير محمودة العواقب.

قراءة 2027 مرة