لا شك أن الضربة العسكرية الأمريكية ضد قاعدة الشعيرات الجوية فى سورية قد أربكت العديد من الحسابات الخاصة بمختلف الأطراف فى الأزمة السورية. ولا يكمن هذا الارتباك فقط فى عدم توقع مثل هذه الضربة، وهى كانت فعلا غير متوقعة، ولكن فى احتمال توجيه ضربات آخرى، وهو ما كان خارج التوقعات قبل إقدام ترامب على ضربته تلك.
نحن لسنا فى صدد تحليل أسباب هذه الضربة الأمريكية، ولا أسباب التحول فى موقف الرئيس الأمريكى الذى بنى خطابه السياسى خلال حملته الانتخابية على عدم التورط فى صراعات خارجية، ومنها الشرق الأوسط وسوريا تحديدا إلا فقط لمحاربة داعش. وهو ما كانت معظم الأطراف المشتبكة فى سوريا قد ركنت إليه وعليه تبنت سياسات ومواقف بناء على حسابات ثبت خطؤها. ليكون أول سؤال يطرح نفسه هو ما إذا كانت هذه الضربة عمل استثنائى أم بداية لتصعيد أمريكى فى الشأن السورى؟
لكل إجابة سيناريو وحسابات جد مختلفة عن الأخرى، وقد حرص وزير الدفاع الأمريكى جيمس ماتيس فى مؤتمره الصحفى الأسبوع الماضى على إزالة أى لبس حول الدافع من وراء هذه الضربة العسكرية أو تكرارها، (وأشدد هنا على كلمة تكرارها)، حيث ربط أى ضربات أخرى بعدم التزام سوريا بحظر استخدام الأسلحة الكيماوية. فى ذات الوقت الذى أكد فيه على استمرار النهج الخاص بمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية المعروفة باسم داعش وهزيمتها.
معنى ما تقدم أنه لن تكون هناك ضربات عسكرية أمريكية قادمة ضد قوات بشار الأسد مادام لن يستخدم مرة أخرى الغازات السامة. ولكن على الرغم مما تقدم، ما زال القلق يساور جميع الأطراف من حدوث مفاجآت غير متوقعة، مما يقتضى إعادة النظر فى جميع الحسابات السابقة، وحسبان احتمالات تدخل أمريكى آخر، وستكون هذه المرة بأى ذريعة أخرى يمكن التحجج بها، بعد أن ثبت أن الرئيس ترامب لا يتورع عن تغيير موقفه مائة وثمانين درجة فى لحظة ما، وهو ما كان البعض يتخوف منه ويحذر من عدم القدرة على التنبؤ مسبقا بأفعاله.
يزيد الشكوك من احتمالات تدخل أمريكى أكبر فى سوريا، العداء الشديد الذى يضمره ترامب إزاء إيران، فى مقابل إيمان شديد بالعلاقة الوثيقة مع إسرائيل. فترامب لم يتورع عن الدفاع عن إسرائيل فى الأمم المتحدة قبل دخوله البيت الأبيض، وعين زوج ابنته جاريد كوشنر(يهودى أصولى يجمع والده التبرعات لبناء المستوطنات فى الضفة الغربية) مبعوثا خاصا للسلام فى الشرق الأوسط. كما أشارت العديد من وسائل الإعلام الأمريكية إلى خطة ترامب لتكوين تحالف عربى إسرائيلى بعد حل القضية الفلسطينية من أجل مواجهة إيران . وكلنا نعرف كيف حاول نتنياهو دون جدوى عرقلة التوصل إلى اتفاق نووى بين الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها ( الخمسة زائد واحد) وبين إيران، وإلى حد التهديد بتوجيه ضربات عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية. ينسجم ذلك مع الانتقادات الواسعة التى وجهها ترامب أثناء حملته الانتخابية ضد أوباما فيما يتعلق بسياسته إزاء طهران.
إذن التماهى بين ترامب ونتنياهو فى العداء لإيران يدفع كليهما إلى المزيد من التنسيق والتعاون فيما بينهما، ولا شك أن إسرائيل تستشعر خطرا متزايدا من الوجود الإيرانى فى سوريا وخاصة فى ظل ما تواتر من أخبار بشأن وجود إيرانى على الحدود مع الجولان، والإعلان عن تشكيل لواء تحرير الجولان المرتبط بحركة النجباء المدعومة إيرانيا. هذا فضلا عما نقلته بعض المواقع الإعلامية من وجود نية إيرانية لتعزيز وجودها البحرى على السواحل السورية. الأمر الذى تأخذه إسرائيل على محمل الجد، ودفعت برئيس وزرائها إلى القيام بزيارة لموسكو فى مارس الماضى، وكان محور الحديث مع بوتين يدور حول الوجود العسكرى الإيرانى فى سوريا. ولا شك أن إسرائيل بما عرف عنها من تفضيل الضربات الإستباقية لكل ما تراه خطرا محتملا ضدها، ستعمل على ألا تكون الضربة الجوية الأمريكية الأخيرة مجرد رسالة تحذير للجانب الإيرانى، ولكن أن تتبعها خطوات وإجراءات أخرى لتحجيم التواجد الإيرانى فى سوريا.
روسيا بدورها لن تقف مكتوفة الأيدى وهى ترى أيا من حليفتيها تتعرض للتهديد، وهو ما تعيه واشنطن تماما، وتسعى من أجله إلى عقد صفقة مع روسيا بهدف فك تحالفها مع إيران. وهو الأمر الذى يصعب تحقيقه فى ظل العلاقات المتشابكة بين البلدين، وما تمثله طهران كدولة جوار من أهمية للأمن القومى الروسى. هذا فضلا عما تمثله كل من سوريا وإيران من قيمة إستراتيجية لروسيا فى ظل لعبة التوازنات الدولية الحالية.
يزيد المشهد تعقيدا أن الساحة السورية لا تقتصر فقط على روسيا وأمريكا أو إسرائيلو إيران، ولكن هناك أيضا العديد من الأطراف الأخرى مثل تركيا والسعوديةو حزب الله والأكراد. فضلا عن التنظيمات المسلحة للمعارضة السورية باختلاف توجهاتها وتحالفاتها، والتى تتغير بين كل لحظة وأخرى.
إذا السؤال الذى يجب أن يطرح نفسه الآن وبكل قوة هو ماذا ستكون عليه سياسة ترامب فى سوريا؟، خاصة فى ظل ما يتواتر عن رغبة كلا الطرفين، روسيا وأمريكا، فى عقد صفقة كبرى تتناول جميع الموضوعات والملفات محل النزاع بينهما. ولكن مما لا شك فيه، فإنه فيما يتعلق بسوريا، فإن إسرائيل ستكون دائما الغائب الحاضر فى أية تسوية قادمة.