بعد فترةٍ من الترقّب استمرت لمدة 25 يوماً، نفّذ الكيان الصهيوني عدوانه على الجمهورية الإسلامية في إيران؛ ردّاً على عملية "الوعد الصادق 2" التي شهدت هجوماً صاروخياً واسعاً وكبيراً من قبل إيران استهدف العديد من القواعد و المطارات العسكرية الإسرائيلية، وأحدث زلزالاً جيوسياسياً على الصعيد الإقليمي، وامتدت آثاره لتشمل الصراع العالمي بمجمله، والذي جاء بدوره ردّاً على قيام "إسرائيل" باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في ضواحي طهران، واغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قي الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت.
ما قبل العدوان الإسرائيلي
شهدت الفترة التي سبقت العدوان الإسرائيلي الكثير من التسريبات السياسية والإعلامية، وخصوصاً من قبل واشنطن و"تل أبيب" حول حجم الرد الإسرائيلي وطبيعته وكيفيته، وعمد الجانبان إلى تظهير خلافاتهما ومناقشاتهما حول ذلك في ما بدا وكأنه أشبه بسجال مسرحي له غايات سياسية وتكتيكية كان أهمها جسّ النبض واستشراف ردود الأفعال المحتملة على العدوان قبل وقوعه، سواء تلك الصادرة عن إيران أو عن محور المقاومة وجبهات الإسناد بشكل عام، وكذلك ردود الأفعال الإقليمية والدولية.
ويمكن إيجاز تلك المواقف وردود الأفعال بالآتي:
أولاً؛ إن القرار الإيراني كان حاسماً وقطعياً لجهة الردّ على أي عدوان إسرائيلي بشكل يتناسب مع حجمه وطبيعته ونتائجه بالتوازي مع تسريبات لمواقف مطالبة بتغيير العقيدة النووية الإيرانية في حال تعرض المنشآت النووية للاعتداء.
ثانياً؛ إن جبهات الإسناد كثّفت من عملياتها العسكرية التي تستهدف الكيان الإسرائيلي كمّاً ونوعاً، إذ انتقل حزب الله إلى مرحلة جديدة أطلق عليها "مرحلة إيلام العدو"، واستعاد زمام المبادرة في الميدان على الحدود وفي عمق فلسطين المحتلة وصولاً إلى "تل أبيب"، والأمر ذاته ينطبق على المقاومة العراقية التي أعلنت الانتقال إلى المرحلة الخامسة من المواجهة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اليمن الذي وجّه أول صفعة إلى منظومة الدفاع الجوي الأميركية "ثاد" التي فشلت في إسقاط الصاروخ الفرط-صوتي اليمني "فلسطين2" الذي استهدف وسط فلسطين المحتلة.
ثالثاً؛ أعلنت الدول الإقليمية، وتحديداً دول الخليج، رفضها السماح باستخدام أجوائها لمهاجمة إيران بعد جولات مكوكية لوزير الخارجية الإيراني في تلك الدول.
رابعاً؛ قامت روسيا، ووفقاً لمصادر عديدة، بتزويد إيران بمنظومات دفاع جوي متطورة في موقف يتقاطع مع موقفها السياسي الرافض لمهاجمة إيران ولوقوع حرب شاملة.
خامساً؛ أعلنت الصين موقفاً رافضاً لأي عملية عسكرية ضد إيران محذرةً من خطورة الحرب الشاملة، وهو موقف يتقاطع مع مواقف أخرى حذرت من انعكاس المواجهة على إمدادات النفط وسلاسل توريد الطاقة و التجارة.
سادساً؛ أظهرت قمة "بريكس" التي عقدت في روسيا حجم التبدل المتسارع في التوازنات الدولية لصالح المجموعة و دول الجنوب والشرق على حساب الولايات المتحدة ودول الغرب الجماعي، وبطبيعة الحال، فإن إيران باتت عضواً أصيلاً وفاعلاً في مجموعة "بريكس"، وباتت دول المجموعة ملزمة بمواقف أقل ما يقال عنها إنها ودية وقانونية تجاهها.
واستناداً إلى تلك المواقف الإيرانية والإقليمية والدولية والتقييم الأميركي -الإسرائيلي لظروف الميدان والمواجهة، وجدت واشنطن نفسها مضطرة للتراجع عن دعمها المطلق للخيار الإسرائيلي بتوجيه عدوان واسع غير مضمون النتائج، وزعم الجانبان بأن واشنطن اقنعت الكيان الإسرائيلي بضرورة تجنب استهداف منشآت الطاقة والمنشآت النفطية و النووية، وأوفدت واشنطن وزير خارجيتها بلينكن إلى "إسرائيل" ودول إقليمية في محاولة للتخفيف من وقع التهديدات، وإيصال رسائل احتواء العدوان قبيل وقوعه مع الإيحاء بعدم تخليها عن الحل السياسي لوقف إطلاق النار.
العدوان الفاشل
بعد يوم من مغادرة بلينكن المنطقة، نفذ الكيان الصهيوني تهديداته بالعدوان على إيران، وترافق العدوان مع حملة إعلامية منسقة ومضخمة من قبل وسائل الإعلام الإسرائيلية والأميركية طوال مدة العدوان الذي استمر لأربع ساعات ليلة السبت الفائت، وبحسب الجانب الإسرائيلي وتصريحات قادة الكيان، فقد تم تنفيذ العدوان بواسطة 100 طائرة من سلاح الجو استهدفت مصانع إنتاج الصواريخ ومنظومات الدفاع الجوي وحماية المنشآت، وزعم نتنياهو بأن العدوان حقق أهدافه بدقة. في المقابل، أعلنت طهران أن دفاعاتها الجوية تصدّت بنجاح للعدوان الجوي الإسرائيلي الذي استهدف مواقع عسكرية في طهران وخوزستان وإيلام، وأن آثار العدوان كانت محدودة، معلنة استشهاد أربعة من جنودها.
وبعيداً من التهويل الإعلامي الذي تقوده منظومة الإعلام الصهــيوني والمتصهيــن؛ يبدو أن العدوان الإسرائيلي على إيران كان محدوداً، وهو ما يعكس خشية إسرائيلية من رد إيراني واسع النطاق، ووفقاً للمعطيات والنتائج التي أعلن عنها، فإنه يبدو أن الدفاع الجوي الإيراني قد فاجأ سلاح الجو الإسرائيلي بقدراته المتطورة وتمكّن إلى حد بعيد من مواجهته، وهو ما عكسته طول مدة العدوان التي استمرت لأربع ساعات، وأكدته خيبة الأمل التي أظهرتها وسائل الإعلام الصهيونية لاحقاً.
قراءة في نتائج العدوان
يمكن لنا وفقاً للمواقف السياسية والتسريبات الإعلامية، وأيضاً وفقاً للمعطيات الميدانية أن نستقرئ جوانب عديدة متعلقة بالدلائل والاستنتاجات التي عكسها العدوان الإسرائيلي، والنجاح الإيراني في إفشاله وفق الآتي:
أولاً؛ أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في اليوم التالي للعدوان عن مقترح هدنة في قطاع غزة لمدة يومين يشمل تبادلاً محدوداً للأسرى ويكون أساساً لاتفاق شامل، ويبدو أن المقترح المصري كان معدّاً مسبقاً بالتنسيق مع واشنطن، ويعكس رغبة أميركية بعدم التصعيد بهدف تقطيع الوقت من قبل واشنطن حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
ثانياً؛ بدا واضحاً أن ما تريده واشنطن اليوم هو أن يبقى الاشتباك مضبوطاً تحت سقف محدد حتى الانتخابات الرئاسية، وأعرب الرئيس الأميركي جو بايدن بُعيْد العدوان عن أمله في أن تكون هذه هي نهاية التصعيد بين إيران و الكيان الإسرائيلي.
ثالثاً؛ إن محدودية العدوان الإسرائيلي على إيران من حيث خريطة الأهداف وحجم العدوان، تؤكد أن واشنطن هي من يقود المعركة في مواجهة محور المقــاومة، وأنها أرادت حفظ ماء وجهها قبل "إسرائيل" ، وهو ما أكّده مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية في واشنطن بأن الولايات المتحدة أرادت أن تكون هذه الهجمات الانتقامية "متناسبة بحيث لا تحتاج إيران إلى الرد".
رابعاً؛ أرادت الولايات من تزويد الكيان الصهيــوني بمنظومات "ثاد" القول بأنها لا ترغب في حرب مفتوحة، وأرادت روسيا من دعمها لإيران بمنظومات دفاع جوي متطورة القول بأنها لا تريد حرباً مفتوحة أيضاً، وإذا كان الفعل الأميركي يشير إلى جاهزية واشنطن لدخول الحرب لمنع تدمير "إسرائيل"، فإن الفعل الروسي أشار إلى قرار روسي بعدم ترك إيران وحيدة في المعركة.
خامساً؛ إن الوقت القاتل بالنسبة إلى الكيان الإسرائيلي و الولايات المتحدة هو الفترة الممتدة من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية، وهذه الفترة ستشهد تصعيداً انتقامياً و ردعياً من قبل محور المقـاومة، وتحديداً من قبل حزب اللــه، وربما سنشهد الكثير من العمليات النوعية من قبل الحزب وجبهات الإسنـــاد في ظل عجز الكيان و استنزافه لبنك الأهداف.
سادساً؛ مما يمكن استنتاجه من العدوان الإسرائيلي على إيران هو أن بروباغندا الضربة القاضية والحاسمة التي روجت لها "إسرائيل" طوال سنوات قد سقطت، وأن استراتيجياتها مع واشنطن لهزيمة إيران قد دفنت.
سابعاً؛ بالمعنى الإستراتيجي، فقد قادتهم إيران ومن خلال هذا العدوان الفاشل إلى الاعتراف بها كقوة لا يمكن لهم هزيمتها، وهذا الفشل كشف الغطاء عن محدودية خيارات الولايات المتحدة و "إسرائيل" في مواجهة إيران، ولا سيما العسكرية منها.
تاسعاً؛ عندما يتحدث وزير الحرب الصهيـوني، غالانت، بعد العدوان الفاشل عن تنازلات مؤلمة من أجل تحرير الأسرى، فهذا لا يعني فقط أن "إسرائيل" غير قادرة على تحقيق أهدافها من حرب الإبادة التي تشنّها منذ أكثر من عام، بل يعني بأن قادة الكيان يريدون الالتفاف على الرأي العام الإسرائيلي وإقناعه بأن هدف الحرب هو تحرير الأسرى بعد أن تم إيهامه بأن الهدف من الحرب هو سحق المقــاومة في فلسطين ولبنان، وصولاً إلى تغيير الشرق الأوسط.
عاشراً؛ إن فشل العدوان أعطى إيران هامشاً واسعاً لانتهاز الفرصة والوقت والتحرك بوسائل وأدوات دبلوماسية وميدانية على الصعيدين الإقليمي و الدولي، بينما سيكون العدو الإسرائيلي مضطراً لترقب خطر الرد الإيراني وطبيعته إلى جانب حرب الاستنزاف التي أنهكته.
وخلاصة الموقف اليوم هو أن العقل الإستراتيجي الإسرائيلي يدرك بأن وقف الحرب وفق المعادلات ونتائج الصراع الحالية قد تكون أشدّ خطورةً على وجود الكيان من اجتراع الاستنزاف اليومي للصراع، بل إنه بات على يقين أن وقف الحرب يعني انتحاراً سريعاً، واستمرارها يعني انتحاراً بطيئاً، وأن ما أنجزه الكيان منذ انطلاقة "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر العام الفائت وحرب الإبادة التي يشنها على غزة ولبنان يكاد يقارب الصفر على المستوى الإستراتيجي، ولعل استخدام قادة الكيان مصطلح "الحرب الوجودية" هو خير دليل على حجم المأزق الذي بلغه الكيان، وعلى نتائج المعركة إلى اليوم.
المصدر :المیادین