بعد مجلس الأمن الدولي، التفاهم الأميركي ــ الروسي على احتواء أزمة الكيميائي السوري يستمر، ويبدأ البحث عن وسيلة لإخراج فريق آكي سلستروم الأممي للتحقيق الكيميائي من فندق «فور سيزنز» إلى غوطة دمشق.
الأميركيون والروس كلفوا وزيري خارجيتيهما جون كيري وسيرغي لافروف بالعمل معاً، لإقناع حلفائهما تباعاً في المعارضة والنظام بتسهيل مهمة الفريق الأممي، ورعاية وقف إطلاق للنار في المناطق التي سيزورها مفتشو الكيميائي، وتأمين ممرات آمنة لهم، وسلامة الفريق الأممي.
وأظهرت المشاورات الهاتفية بين لافروف وكيري، أمس، قراراً أميركياً ــ روسياً واضحاً بعدم ترك المتشددين يستغلون الفرصة لنسف العملية السياسية التي يجري التحضير لها في لاهاي نهاية آب الحالي وفي جنيف منتصف تشرين الأول المقبل بحسب معلومات لـ«السفير».
وأعرب المبعوث العربي والدولي إلى سوريا الأخضر الإبراهيمي عن اعتقاده أن الهجوم الكيميائي يجب أن يسرّع مسألة الإعداد لعقد مؤتمر «جنيف 2 ويجب أن يثبت للعالم انه لا يوجد حل عسكري». وأعلن نقل مكتبه والموظفين معه إلى جنيف، موضحاً انه كان يخطط لهذا الأمر منذ زمن بعيد والآن حان الوقت لذلك.
وبدا أن الوزيرين يشرفان على إدارة أزمة الكيميائي السوري، لتبريد الأجواء، واستعادة الملف من المحاربين، والتأكد من الوقائع. وبرغم انه لم يصدر موقف رسمي سوري بالقبول بتوسيع مهمة الخبراء الدوليين إلى غوطة دمشق، فالأرجح أن لافروف حصل على موافقة حليفه الدمشقي، قبل الإعلان انه «يحث الحكومة السورية على التعاون معهم» ليطلب من كيري إقناع حلفائه في المقابل «بضمان ممر آمن للبعثة الكيميائية».
ويعكس التفاهم على التبريد المشترك ليس الحاجة إلى فرض العملية السياسية فحسب، وإنما ضرورتها كخيار لا بديل عنه يلتقي عنده الأميركيون والروس، في لحظة تتبلور فيها المواجهة التي أصبحت أكثر وضوحاً مع الرافضين داخل المعارضة السورية لأي مؤتمر في جنيف، وتصعد فيها قوة الجماعات «الجهادية» التي لن تسخر أي تغيير في ميزان القوى العسكري لمصلحة تحسين شروط التفاوض مع النظام السوري، كما كانت تأمل واشنطن التي دعمت قبل شهرين تأجيل «جنيف 2»، وإنما للقضاء عليها نهائياً.
وقاد هذا الأمر البيت الأبيض، على لسان ناطقة باسمه، إلى التملص من التزامات بالخط الكيميائي الأحمر، عندما قالت أمس الأول «إننا لا نستطيع التحدث عن خطوط حمر بشأن الكيميائي، ولم يحدد احد أي خطوط حمر».
ولا يبدو أن أزمة بحجم الكيميائي السوري، استطاعت إحداث شرخ في التفاهم الروسي ــ الأميركي، فضلا عن تقارب غير معلن في تبادل المعلومات وقراءة القرائن التي لا تشير بالضرورة إلى ما تشير إليه أصابع المعارضة.
وفضلا عن التمسك بطوق النجاة في جنيف، يظل «النأي بالنفس» الأميركي سارياً، بالإضافة إلى تجاهل اتهامات المعارضة السورية للنظام السوري بارتكاب «مجزرة الغوطة الكيميائية»، وترك أمر ضبط معالجة الأزمة إلى الأمم المتحدة وحدها التي بدت ملجأ الطرفين لتحديد المسؤوليات عن مجزرة الغوطة. إذ تملص الرئيس الأميركي باراك أوباما من أي نية في مواجهة النظام السوري، من دون تفويض أممي، يعرف مسبقاً انه لن يأتي بوجود روسيا والصين في مجلس الأمن، مشيراً للمرة الأولى إلى عدم وجود الحلفاء الموثوقين.
وقال أوباما، في مقابلة مع شبكة «سي ان ان» الأميركية، «إذا ذهبت الولايات المتحدة وهاجمت دولة أخرى من دون تفويض من الأمم المتحدة، ومن دون أدلة واضحة، فسيكون هناك تساؤلات هل يدعم القانون الدولي ذلك، وهل لدينا التحالف اللازم لذلك؟».
وبدت سوريا لأوباما مشكلة طائفية معقدة، أكثر منها مسرحاً لهجوم كيميائي محرم، مستنتجاً أن «فكرة أن الولايات المتحدة تستطيع التدخل لحل مشكلة طائفية معقدة، أمر مبالغ فيه». وأعلن انه أمر أجهزة الاستخبارات بجمع معلومات إضافية حول هذا الهجوم.
وأكد البيت الأبيض أن موقف أوباما هو أنه لا يتوقع إرسال قوات أميركية إلى سوريا وإن كان ما زال يدرس كيفية الرد على مزاعم حدوث هجوم كيميائي هناك. وقال مسؤول أميركي، لوكالة «فرانس برس» انه لم يتم خلال اجتماع في البيت الأبيض بين مسؤولين من الاستخبارات ووزارة الخارجية والبنتاغون بحث «إرسال قوات على الأرض أو إقامة منطقة حظر جوي».
ومن المنتظر، في الساعات المقبلة، أن تلتحق بمجموعة اكي سلستروم، مجموعة إضافية من المحققين الدوليين لتعزيز عمل الفريق الكيميائي، إذا ما توفرت لهم شروط الأمان على الأرض. وكان «لواء الإسلام» اصدر أمس بياناً تعهد فيه بتوفير شروط السلامة للبعثة الدولية. وأصدر «الائتلاف الوطني السوري» بياناً مماثلا تعهد فيه أيضاً بتوفير تلك الشروط، علماً أن «القيادة العسكرية الموحدة» لا تملك إمرة حقيقية على أكثر الكتائب المنتشرة في منطقة جوبر وزملكا، حيث ينبغي أن يعمل المحققون، وحيث تنتشر كتائب «جبهة فتح العاصمة» التي وضعت نفسها بإمرة «جبهة النصرة».
وتبرز تباينات جغرافية في الإحداثيات التي يقدمها «الائتلاف» وتلك التي قدمها «لواء الإسلام» لما يقولان انه المواقع التي أطلق منها الجيش السوري «الصواريخ الكيميائية» باتجاه زملكا وجوبر. ففي حين قال الأمين العام لـ«الائتلاف» بدر جاموس ان اللواء ١٥٥ المتمركز في القلمون، واللواء ١٢٧ المتمركز في السبينة هما من نفذا عمليات القصف، يتهم بيان «لواء الاسلام» اللواء ١٠٥ ومدفعيته المتمركزة في جبل قاسيون والمزة بقصف عربين وجوبر، على مشارف العاصمة نفسها بالصواريخ الكيميائية.
وتستطيع لجنة التحقيق الدولية البدء بتفحص جثث 16 جندياً وضابطاً سورياً، و41 جريحاً من العسكريين، الذين أصيبوا بحالات اختناق بالكيميائي في موجة الهجوم الميداني الأولى التي قام بها اللواء ١٠٥ نحو عربين وحدها، بعد تحرك ارتاله عند السادسة صباح الأربعاء، حيث نقلت ٣٩ سيارة إسعاف إصابات عسكرية بالكيميائي نحو مستشفى يوسف العظمة العسكري.
وكان الجيش السوري قد بدأ هجوم «درع المدينة» على مواقع المعارضة، بالتمهيد له بالقصف المدفعي الكثيف، قبل إطلاق ارتال المشاة والدبابات في جوبر وعربين وزملكا. وكان ناطق باسم الجيش السوري قد وصف الاتهامات باستخدام الجيش للكيميائي «بأنه عمل انتحاري»، إذ ليس منطقياً أن يمهد الجيش لهجوم بقصف كيميائي ثم يطلق جنوده نحو الأهداف التي تلوثت كيميائياً، من دون أن يعد ذلك من قبيل الانتحار.
ويستند الهجوم الروسي، على ضمانات عدة لإقناع الحكومة السورية بأنه لا مخاطر سياسية أو ديبلوماسية من ان تتحول بعثة التحقيق الكيميائية الى بعثة تفتيش تكرر السيناريو العراقي، أولها أن البعثة لن تتجاوز في الوقت الحاضر تحديد ما إذا كان الكيميائي قد استخدم أم لا. إذ أن تحديد حضور الكيميائي وتسببه بمقتل المئات من المدنيين كما تقول المعارضة، ليس عنصراً عدوانياً بحد ذاته، وان تحديد هوية من استخدم الكيميائي ومن قصف والمواقع التي خرج منها هي مهمة لن ينفرد بها فريق سلستروم، وإنما ستعمل تقارير الاستخبارات الغربية والعربية وغيرها، على تقديم المعلومات الضرورية إلى الأمم المتحدة، كما جرت العادة.
وتملك أجهزة الاستخبارات الروسية والغربية «لائحة بصمات الكيميائي» الذي تم تسليمه في التسعينيات إلى العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، والذي تحوم شبهات على نقل جزء منه في الأشهر الأخيرة إلى سوريا. ويمكن استكمال المعلومات بطلب البعثة صور الأقمار الاصطناعية من دول مجلس الأمن، التي تملك تلك الصور، لإنجاز عملها وتحديد هوية المسؤول عن عملية القصف بالكيميائي.
ونقلت وكالة «رويترز» عن مصادر أمنية أميركية وأوروبية قولها إن تقييماً مبدئياً لأجهزة الاستخبارات الأميركية وأخرى متحالفة معها «تشير إلى أن القوات السورية استخدمت أسلحة كيميائية لمهاجمة منطقة قرب دمشق وإن الهجوم حصل على الأرجح على موافقة من مسؤولين كبار في الحكومة».