قصة الراهب بحيرة مع النبي (ص)وهو طفل ابن اثنتي عشرة سنة
كما أسلفنا، فقد عاش النبي (ص) مع عمه أبي طالب بعد وفاة جده عبد المطلب. ولم يكن أبو طالب يعنيه شيء كما تعنيه رعاية ابن أخيه محمد والمحافظة عليه. فقد بلغ من عنايته به وحرصه عليه أنه كان إذا اضطر للسفر إلى خارج مكة أو الحجاز يصطحبه معه.
وقد تحدث المؤرخون عن رحلتين للنبي (ص) إلى الشام قبل زواجه بالسيدة خديجة (ع). رحلة النبي (ص) الأولى مع عمه أبي طالب ونحن هنا نتعرض للرحلة الأولى التي كانت بصحبة عمه أبي طالب.
وسوف نروي الرحلة الثانية في المقال القادم. وكانت هذه الرحلة ضمن قافلة تجارية من قريش، وكان عمر النبي (ص) أنذاك اثنتي عشر سنة. ويقول المؤرخون إنه في الطريق إلى الشام، وقبل وصول القافلة إلى مقصدها، توقفت في منطقة تسمى "نصرة"، وهي من مناطق الشام، وكان يسكن في هذه المحلة راهب مسيحي يدعى "بحيرة"، كان يتعبّد في صومعته ويحترمه المسيحيون في تلك المنطقة.
وقد اتفق أن هذا الراهب التقى القافلة التي كان فيها النبي (ص)، فلفتت نظره شخصية محمد وراح يتأمل في صفاته ويحدّق في ملامحه خصوصاً بعدما رأى أن سحابة من الغيم ترافقه أيما جلس لتحميه من حر الشمس، فسأل عنه بعض من في القافلة فأشاروا إلى أبي طالب وقالوا له :"هذا عمه". فأتى الراهب بحيرة إلى أبي طالب وبشّره بأن ابن أخيه نبي هذه الأمة.
وأخبره بما سيكون من أمره، بعدما كان قد كشف عن ظهره ورأى خاتم النبوة بين كتفيه ووجد فيه العلامات التي وصفته بها التوراة والأناجيل وغيرهما. وتذكر بعض النصوص أن الراهب "بحيرة" أصر على أبي طالب أن يعود به إلى مكة وأن يبقيه تحت رقابته خوفا عليه من اليهود وغيرهم، الذين كانوا يرون العلامات التي وردت في كتبهم متحققة في شخص محمد.
فرجع به أبو طالب إلى مكة ولم يكمل الرحلة إلى الشام. ويذكر المؤرخون والمؤلفون في سيرة النبي (ص) أنه ظهر للنبي (ص)، في هذه الرحلة التي ضمت أعيان المكيين والقرشين، كرامات وفضائل كثيرة، من قبيل الغمامة التي كانت تظلله من الشمس، والمياه التي اندفعت من بطون الصحراء، والأشجار اليابسة التي كانت تعود إليها الحياة بعدما يجلس تحتها الرسول (ص) فتثمر من جديد، وغير ذلك مما هو مذكور في كتب السيرة والتاريخ. استغلال المستشرقين لقاء الراهب بحيرة بالنبي (ص) إن قضية اللقاء الذي جمع بين النبي (ص) والراهب بحيرة في منطقة "نصرة"، لم تكن سوى قضية بسيطة وحادثة عابرة قصيرة، لم يتحقق فيها أكثر من إخبار أبي طالب ومن معه بنبوة محمد (ص) وتوجيه نصيحة لأبي طالب بأن يعود به إلى مكة خوفا عليه من اليهود وغيرهم الذين كانوا يضمرون السوء له، ولكل مصلح يحاول وضع حد لعدوانهم واستغلالهم للناس.
إلا أن هذه القضية وقعت في ما بعد ذريعة بأيدي بعض المستشرقين الذين أصروا على أن ما أظهره النبي (ص) بعد ثمانية وعشرين عاماً من هذه الحادثة من تعاليم سامية والتي استطاع من خلالها أن ينقل الناس من حضيض الجاهلية إلى قمة الحضارة، ومن الظلمات إلى النور، كان قد تلقاها من الراهب بحيرة في هذه السفرة.
ويقولون إن محمداً بما كان يتمتع به من روح عظيمة وقوة في الذاكرة وصفاء في النفس ودقة في الفكر استطاع أن يأخذ في هذا اللقاء من بحيرة الراهب قصص الأنبياء السابقين والكثير من تعالميه الحيوية.
ولا ريب في أن هذا الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلائم ولا ينسجم مع واقع حياة النبي (ص)، بل تكذّبه الموازين العقلية والحقائق الموضوعية والتاريخية. وإليكم بعض الشواهد على ذلك.
أولا: إنه من الثابت باجماع المؤرخين أن النبي محمد (ص) كان أميّاً، لم يتعلم القراءة والكتابة، وكان عند سفره إلى الشام ولقائه ببحيرة الراهب لم يتجاوز الثانية عشر أو الثالثة عشر من عمره الشريف بعد، فهل يصدق إنسان عاقل والحال هذه أن يستطيع صبي في هذا السن، ولم يدرس ولم يتعلم القراءة والكتابة، أن يستوعب تلك الحقائق من التوارة والأنجيل ثم يعرضها في سن الأربعين على الناس بعنوان الوحي الإلهي والشريعة السماوية؟!.. إن هذا خارج عن الموازين العقلية العادية بل ربما يكون من الأمور المستحيلة إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم الاعداد البشري أنذاك.
ثانيا : إن مدة هذا اللقاء كان أقل بكثير مما يستطيع النبي (ص)، في تلك المدة الزمنية القصيرة، أن يستوعب التوارة والأنجيل لأن اللقاء الذي وقع مصادفة في "نصرة" بين النبي والراهب لم يستغرق سوى عدة ساعات قليلة لا أكثر.. فكيف يستطيع الراهب الأستاذ أن يعطي كل هذه العلوم والمعارف في بضع ساعات؟!.. وكيف يمكن لصبي لم يتعلم القراءة والكتابة أن يستوعبها في هذه الساعات القليلة؟!.. ولا يصح أن يقال هنا إنه من الممكن أن يكون النبي قد مكث فترة طويلة نسبياً في تلك المنطقة وحصّل فيها علوم التوارة والإنجيل ومعارفهما.. لأن هذا القول خلاف كل روايات والنصوص التاريخية التي روت هذه السفرة للنبي (ص) مع عمه أبي طالب إلى الشام.
فإن النصوص تفيد بأن أبا طالب قطع رحلته إلى الشام ورجع بالنبي إلى مكة بعدما نصحة بحيرة الراهب بذلك. وحتى على فرض أن أبا طالب أكمل رحلته والنبي معه، فإن هذه الرحلة رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب والإياب والإقامة فيها أكثر من أربعة أشهر ولا يستطيع أكبر العلماء والأذكياء الاستيعاب في مثل تلك المدة القصيرة محتويات التوارة والأنجيل فضلا عن صبي لم يدرس ولم يتعلم القراءة والكتابة من أحد..
ثالثا: لو كان النبي (ص) تلقة تعالميه ومعارفه من الراهب بحيرة لأشتهر ذلك بين قريش حتماً، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة من تلك الرحلة مع أن ذلك لم يحصل أبداً.. أضف إلى ذلك لو أن النبي (ص) تعلّم لدى بحيرة ما كان ليستطيع أن يدعي فيما بعد أمام قومه بأنه أمّي لم يدرس في كتاب ولم يتتلمذ على يد أحد .. لقد وجّه مشركو مكة جميع أنواع التهم لرسول الله (ص) وكانوا يبحثون عن أي نقطة ضعف في شخصية النبي (ص) وفي رسالته وفي القرآن الكريم الذي جاء به من أجل أن يفندوا دعوته ونبوته، ومع ذلك فلم نسمع أو نقرأ أن أحداً من المشركين واجه النبي (ص) بأنه تلقّى معارفه وعلومه وتعاليمه من الراهب بحيرة.. أو أنه درس عنده وتلقّى الحقائق منه.. وهذا بعينه دليل قاطع على أن هذا الإفتراء من المستشرقين هو من نسج خيالهم.
رابعا: إن قصص الأنبياء (عليهم السلام) التي جاءت في القرآن الكريم تتعارض وتتنافى مع ما جاء حول الأنبياء في التوارة والأنجيل.