لقد رأى بعض المؤرخين أن النبي (ص) مرّ بأربع مراحل خلال دعوته وتبليغه للرسالة الإسلامية. الأولى المرحلة السرية، واستمرت ثلاث سنوات. والمرحلة الثانية وهي مرحلة إعلان الدعوة إلى الله بالقول حصراً والأساليب السلمية دون اللجوء إلى القتال، واستمرت هذه المرحلة حتى السنة الرابعة بعد البعثة حتى الهجرة إلى المدينة المنورة. والمرحلة الثالثة هي مرحلة تأسيس المجتمع والدولة الإسلامية، والدفاع عن الإسلام بالسيف، واستمرت هذه المرحلة من الهجرة إلى صلح الحديبية حتى السنة السادسة بعد البعثة.
والمرحلة الرابعة هي مرحلة قتال كل من وقف بوجه الدعوة الإسلامية ووقف في طريقها بالعنف من الوثنيين والمشركين وغيرهم. المرحلة السرية يقصد بها تلك المدة التي كان يدعو فيها النبي (ص) إلى الإسلام خفية. فقد بقي بعدما بعثه الله بالرسالة مدة ثلاث سنوات تقريباً، يتستر في دعوته ويتحاشى الإعلان عن رسالته أمام الرأي العام.
وكان يدعو إلى الدين خلال هذه المرحلة بعض الأشخاص بصورة طوعية، وعفوية دون لفت الأنظار إلى الأمر. فآمن عدد من الناس تباعاً حتى وصل عددهم إلى أربعين رجلاً تقريباً كي لا يتعرضوا للتعذيب والتنكيل.
وقد كان هذا الأسلوب ضرورياً للأسباب الأتية :
أولاً : من أجل الحفاظ على مستقبل الدعوة، كي لا تتعرض لعمل مسلح يقضي عليها في مهدها، فكان لا بد من إيجاد مجموعة من المؤمنين من مختلف القبائل والجماعات السياسية بعيداً عن الأنظار يحملون هذه العقيدة ويدافعون عنها حى لا يبقى مجال لتصفيتهم بصورة سريعة من قبل أعدائهم. فلو أن النبي (ص) أعلن عن دعوته فور البعثة لانتفضت قريش وقضت على هذه الدعوة وعناصرها بشكل سريع وحاسم من أول الطريق.
ثانياً: هدف الإسلام والنبي (ص) هي القيام بعملية تبليغ شاملة لكل الواقع الجاهل الديني والأخلاقي والاجتماعي والسياسي واستبداله بواقع جديد يستند إلى مبادئ الإسلام وعقائده ومفاهيمه. وإذا كانت هذه هي الغاية من البعثة النبوية، فلا بد له من إتاحة فرصة لتهئية وإعداد الكوادر والقوى التي تستطيع تحقيق هدف كبير مثل هذا، والاحتفاظ بالوجود الفعّال والمؤثر، في بقاء واستمرار ذلك الهدف.
والمرحلة السرية هي أفضل فرصة لإعداد القوى المطلوبة لتحقيق كل هذا.
ثالثا : إن مدة المرحلة السرية كانت بمثابة إعداد نفسي وتربية عقيدية وروحية وجهادية لتلك الصفوة والجماعة التي دخلت في الإسلام وآمنت بربها وبرسالة نبيها الأكرم. وكان لا بد في هذه المرحلة أن يقوم النبي (ص) بمثل هذه التربية، التي تمكّن من الصمود في وجه التحديات المنتظرة. تسرّب خبر الدعوة إلى قريش ويقول المؤرخون، إنه رغم سرية هذه المرحلة عرف المشركون بنبوة الرسول (ص) وتسرّبت إليهم أخبار عن الدعوة من هنا وهناك، فقد راح الناس يتحدثون عنها في مجالسهم. وكانوا يقولون إن فتى عبد المطلب ليُكلّم من السماء.
ولكنهم في تلك المرحلة لم يهتموا للأمر أو يحملوا القضية على محمل الجد. ربما لأنهم ظنوا أن قضية النبي (ص) لا تزيد عن قضية بعض الأشخاص الذين تركوا عبادة الأصنام وخرجوا من دين أبائهم يبحثون عن دين جديد تقبله عقولهم وتطمئن إليه نفوسهم، أمثال قس ابن ساعدة وأمية ابن أبي الصلت، وغيرهما، وأن محمداً وأتباعه مثل هؤلاء سوف يعودون في نهاية المطاف إلى دين أبائهم وأجدادهم. اختيار دار الأرقم مكاناً سرياً للدعوة ويضيف المؤرخون في الحديث عن المرحلة السرية من الدعوة أنه عندما أصبح عدد المسلمين ثلاثين رجلاً،
وصار بعض المسلمين يخرجون إلى الشعاب والجبال خارج مكة، لأداء الصلاة وإقامة الشعائر الدينية، وأنه عندما راحت تحدث صدامات بينهم وبين بعض المشركين الذين كانوا يرفضونهم ويتعمدون إيذائهم، عندئذ قرر النبي (ص) اختيار دار الأرقم، الواقعة عند الصفا في مكة، لتكون مركزاً لدعوته ومحلاً لاجتماع أصحابه فيه، ومقراً يقيمون فيه عبادتهم وشؤونهم بعيداً عن أنظار المشركين بدلاً من الخروج إلى الشعاب والجلال لإداء الصلاة.
وهكذا تحولت دار الأرقم في أواخر المرحلة السرية إلى مركز يجتمع فيه النبي (ص) بأصحابه، ويقوم فيه بحركاته ونشاطاته بصورة خفية بعيدة عن أنظار أهل مكة. ويقال إن النبي (ص) بقي في دار الأرقم شهراً كاملاً لا يخرج منها حتى صار عدد المسلمين أربعين رجلاً. عندئذ خرج الرسول (ص) من الدار ليعلن دعوته ويظهر رسالته أمام الرأي العام وليبدأ مرحلة جديدة من مراحل الدعوة الإسلامية هي الأكثر صعوبة وخطراً، وأشد عنفاً وبلاءً من المرحلة السرية السابقة.