الخطوة الثانية من الدعوة العلنية للإسلام كانت عامة، بعدما اقتصرت في الخطوة الأولى على دعوة الأقربين. فدعا عامة الناس إلى الدخول في الإسلام. فقد ذكر المؤرخون أنه بعد إنذار العشيرة والأقربين، وبعدما انتشر أمر نبوته في وسط الناس ولم يعد أمرها خافياً على أحد بدأت قريش تتعرض لشخص النبي (ص) بالاستهزاء والسخرية ومختلف أنواع التهم من قبيل إنه ساحر ومجنون وما شابه ذلك. وفي هذه الأثناء أنزل الله تعالى على رسوله قوله تعالى :" فاصدع بما تؤمر". فكانت هذه الاية المباركة تمثّل الامر الالهي للنبي (ص) الاعلان عن الدعوة أمام جميع الناس بشكل صريح وواضح مهما كانت النتائج. فامتثل الرسول لأمر الله وأظهر دعوته أمام الرأي العام فدعا الناس جمعيا إلى الإسلام.
الرسول ينادي قريشاً وتذكر بعض النصوص أنه لمّا نزلت هذه الأية الكريمة صعد النبي (ص) على الصفا بالقرب من الكعبة المشرفة ونادى قريشاً وسائر القبائل، فأقبلوا إليه من كل ناحية، يتزاحمون لسماع كلامه، فلما اجتمعوا له قال لهم :"إرايتم لو أخبرتكم أن خيلا في سفح هذا الجبل قد طلعت عليكم أكنتم مصدقي ؟".. فقالوا بصوت واحد :"نعم، أنت عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذبا قط". فقال :" إني نذير لكم من عذاب شديد إن الله أمرني أن أنذركم من عقابه، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الأخرة نصيباً إلا أن تقولوا لا إله إلا الله". فنهض أبو لهب وصاح به :"تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعت الناس؟!". فتفرق القوم من حول النبي (ص) وانصرفوا لشؤونهم.
ويبدو أن ردود فعل قريش الأولية على هذه الخطوة العلنية اقتصرت على مواجهة النبي (ص) بالتكذيب والسخرية والاستخفاف. فقد ورد في رواية عن الإمام الصادق (ع) أنه قال :"اكتتم رسول الله صلى الله عليه واله، بمكة سنين لا يظهر أمره ثم أمره الله ان يصدع بما يؤمر فأظهر رسول الله دعوته وجعل يعرض نفسه على قبائل العرب، فكان إذا أتاهم قالوا له كذاب امض عنا ".
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو حول هذا الموقف السلبي لقريش من دعوة النبي (ص)، فما هو السر في استكبار قريش وعنادها وتكذيبها لرسول الله (ص) مع أنها كانت تراه الصادق الأمين، ولم تعهد منه كذباً أو انحرافاً أو خطأً قبل النبوة ؟.. والجواب أن تكذيب قريش للنبي (ص) يعود إلى عدة أسباب.
أسباب عدم قبول قريش بالرسالة
السبب الأول: هو حسدهم لرسول الله (ص)، فقد عارض من عارضه من وجوه قريش بسبب حسدهم له. فقد كان بعض زعمائهم يتمنى لو كان هو نبي هذه الأمة، وصاحب هذه المنزلة بدل محمد بن عبدالله. فقد قال المفسرون عند الحديث حول قوله تعالى في سورة الزخرف الكريمة، الأية 31، حكاية عن المشركين :"وقالوا لولا نزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم".
قال المفسرون إن الوليد ابن المغيرة وهو أحد زعماء المشركين في مكة قال :"أينزل على محمد وأترك أنا ؟!.. وأنا كبير قريش وسيدها .. ويترك سيد سقيف عمر ابن عمير في الطائف ونحن عظيما القريتين (أي مكة والطائف) ؟.".
وروي أيضاً أن هذا الرجل نفسه قال للنبي (ص) ذات يوم مستنكراً :"والله لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك، لأنني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً ". وكذلك كان أمية ابن أبي الصلت يقول مثل هذا الكلام لرسول الله (ص)، وقد كان يتمنى هو هذا المقام الإلهي العظيم، وكذلك أبو جهل وغيره. إن هذا المنطق يكشف عن أن هؤلاء إنما تمرّدوا على رسول الله وكذّبوه حسداً من أنفسهم.
والحسد بالذات هو الذي كان يمنعهم من اتباع النبي (ص) وتصديق رسالته.
السبب الثاني: هو معارضة الدعوة لشهواتهم وامتيازاتهم وأوضاعهم غير الإنسانية وغير الإخلاقية. فمن المعروف أن المشركين كانوا أصحاب لهو وفسق ومجون، وأمضوا عقود عديدة على هذا النحو دون أن يقيدهم شيء. فوجدوا في دعوة النبي (ص) أنها تخالف عاداتهم وتقاليهم وسوف تقيدهم وتحدّ من انفلاتهم الاخلاقي والإنساني.
وكان ترك تلك العادات التي تنسجم مع أهوائهم ورغباتهم تحتاج إلى تضحية وجهد ليسوا مستعدين له. ومن المعروف أيضاً أن المشتركين كانوا يستغلون الفقراء والعبيد الضعفاء في مكة وفي غيرها في مصالحهم. وجاء النبي (ص) وبدأ يبث في هؤلاء الفقراء والمساكين روحاً جديدة، وبدأ يؤكد لهم مفهوم كرامة الإنسان وحريته ويشجعهم على وجوب تحررهم من سيطرة هؤلاء الطغاة والمستكبرين. فلقد أدرك هؤلاء المستكبرون والطغاة أنهم في ظل ما يدعو إليه محمد مفاهيم جديدة لن تسمح لهم من الإبقاء على امتيازاتهم وأرباحهم. ولأن النبي (ص) كان يؤكد أن الناس كلهم سواسية أمام العدالة وفي مقايس الحكم والقضاء، أدركوا ان أهداف هذه الدعوة، التي جاءت لتمم مكارم الأخلاق، في الاستمرار بممارستهم غير الاخلاقية والإنسانية، إذ كانوا يحرصون عليها ويتمسكون بها. لذلك رفضوا الدعوة الإسلامية ووقفوا في وجهها وحاولوا باستمرار القضاء على الإسلام. السبب الثالث: فقد كانوا يخافون من القبائل العربية المشركة من أن تطردهم من أرضهم إن هم أمنوا برسالة محمد.
فقد قال الحارث ابن نوفل أحد وجوه قريش البارزين لرسول الله (ص):" إننا نعرف ما تقوله حق، لكنا الذي يمنعنا من اتباعيك والإيمان بك خوفنا من هجوم العرب علينا ليطردونا من أرضنا ولا طاقة لنا على ردهم".
ولقد أنزل الله سبحانه في ذلك قوله تعالى :"وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا" فاجاب الله على قولهم : "ألم نمكّن حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات من كل شيء رزقاً من لدّنا ". أي أن الله الذي مكّنكم طيلة تلك السنوات في هذه الأرض وجعلها حرماً تهفو إليه القلوب ويؤتى إليه من الثمرات من مختلف بقاع العالم، هو قادر على أن يحفظكم من هجوم الجاهليين والمشركين والوثنيين بعد إيمانكم وإسلامكم. فلا تبرروا عدم قبولكم بالإسلام بخوفكم من هجوم العرب عليكم. ثبات النبي (ص) وبدء انتشار الدعوة وهكذا، فإن خوف قريش من العرب الوثنيين كان أحد الأسباب التي منعتهم من الإيمان بالدعوة الإسلامية.
وهذه أهم الأسباب التي جعلت قريشاً تحجب عن الإيمان بالنبي (ص) وتصديقه بالرسالة السماوية. ولكن رغم كل المحاولات فقد استمر النبي (ص) في طريقه يدعو إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويعرض مبادئ رسالته، ولا يبالي بما يسمع ويرى من التحدي والمواجهة ومحاولات نكذيبه المتكررة، فظل صامدا مستمرا في دعوته الإسلامية للناس عامة، للأفراد والجماعات، من دون يأس أو شك في ما وعده الله سبحانه به من النصر في نهاية المطاف.
فراحت تعاليم النبي (ص) ومبادئه تنتشر بين المكيين وغيرهم من الناس بفعل ثبات النبي (ص) واستمراره بالسعي إلى أهدافه العظيمة. وكانت الأيام الأولى من اعلان الدعوة عامة تشهد دخول أشخاص جدد في الإسلام.
وقد أسلم خلال تلك المدة جماعة من العرب والموالين منهم أبو ذر الغفاري وعمّار بن ياسر وأبواه وبلال الحبشي وغيرهم.