الصبر والثبات

قيم هذا المقال
(12 صوت)
الصبر والثبات

معنى الصّبر
الصّبر هو"كفُّ النفس عن الجزع عند حلول مكروه"، وقيل إنّه: "امتناع النفس عن الشكوى على الجزع المستور". والمراد من الشكوى هنا الشكوى إلى المخلوق، وأمّا الشكوى عند الخالق المتعالي وإظهار الجّزع والفزع أمام قدسيّته فلا تتنافى مع الصّبر. كما اشتكى النبيّ أيوب عليه السلام عند الحقّ سبحانه قائلاً: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾1 رغم أنَّ الله تعالى أثنى عليه بقوله ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾2. وقال النبيّ يعقوب عليه السلام: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ﴾3 مع أنّه كان مع الصّابرين. بل إنّ ترك الشكوى إلى الحقّ المتعالي إظهارٌ للجلادة وللدعوى.

ويبدو من تراجم حياة الأنبياء العظام والأئمة المعصومين - صلوات الله عليهم أجمعين - أنّهم على الرغم من أنّ مقاماتهم كانت أرفع من مقام الصّبر ومقام الرضا والتسليم، إلَّا أنهم لم يمتنعوا عن الدعاء والتضرّع والعجز أمام المعبود. وكانوا يطلبون حاجاتهم من الحقّ سبحانه. وهذا لا يكون مغايراً للمقامات الروحية، بل إن تذكّر الحقّ جلّ وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب وإظهار العبودية والذلّ أمام عظمة الكمال المطلق، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين. وعلى أيّ حال فالحقيقة أنَّ الصّبر هو الامتناع عن الشكوى على الجزع الكامن.

مراتب الصبر
مراتب الصّبر كثيرة، نذكر هنا بعض المراتب التي تطابق الحديث النبويّ الشريف: عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الصّبر ثلاثة: صبرٌ عند المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتّى يردّها بحسن عزائها، كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض. ومن صبر على الطاعة، كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش. ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش"4.

ونعلم من هذا الحديث الشريف ثلاث درجات للصبر، وهي مبادئ الصّبر:

المرتبة الأولى: الصّبر على البليّات والمصائب
وذلك بأن يكون الإنسان في هذا النوع من الواردات متملّكاّ نفسه، فلا يجزع ولا يشكو عند الخلق. أمّا الجزع والشكاية عند الخالق فهي ليست نقصاً. وإن كانت عيباً عند أهل المعرفة، لأنّه تجلّد وتصلّب، وفي مذهب العشق والمحبة يعتبر التجلّد عيباً كبيراً، لأنّ المطلوب هو فقط إظهار العجز والفقر، والتجلّد هو الغرور وإظهار الوجود، وهذا عند أهل المعرفة من أكبر الجنايات. وللصّبر في المصيبات ثلاثمائة درجة من الثواب ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض.

المرتبة الثانية: الصّبر على الطاعة
وذلك بأن يكون الإنسان في طاعة الحقّ تعالى متمالكاً لنفسه، فلا تأخذ النفس الأمّارة بالسوء الزّمام من يد الإنسان ويطلق لها العنان. وإطلاق العنان بشكلٍ عام يكون في مقامين، والصّبر في أحدهما أصعب كثيراً منه في الآخر:

المقام الأوّل: وهو الذي يكون الصّبر فيه سهلاً، وهو الصّبر عن إطلاق العنان للنّفس في ترك الطاعات. والصّبر في هذه المرحلة عبارة عن مقاومة النفس الأمّارة والشيطان، والإتيان بالوظائف الإلهية بحدودها الشرعيّة وآدابها القلبية، وهذا من المصاعب.

المقام الثاني: والصّبر فيه يكون أصعب، وهو منع إطلاق العنان للنفس بعد الإتيان بالعمل والطاعات، وهو حبس النفس بعد القيام بآداب العمل وشرائطه الظاهرة والباطنة لكي لا تبتلى بالعجب والكبر وغيرهما. وربما يدعو الشيطان والنفس الأمّارة الإنسان إلى الأعمال الصالحة، والأخلاق الحميدة والتبعيّة للشريعة المطهّرة لسنواتٍ طويلة رجاء أن يبتلى بالإعجاب وحب النفس فيسقط رغم جميع مشقّاته ورياضاته.

المرتبة الثالثة: الصّبر عن المعصية
بمعنى أنّ الإنسان يصبر في مجاهدة نفسه وجنود إبليس، وبواسطة الاستقامة والمثابرة يتغلّب عليهم. ولهذه الدرجة مقاماتٌ وحقائق ولطائف كثيرة، والصّبر في كل درجةٍ منها أصعب وأدقّ من الصّبر على الطاعات. بل إنّ الموفّق في الصّبر في هذه المرتبة يسهل عليه الصّبر على الطاعات.

آثار الصّبر ونتائجه
للصّبر نتائج كثيرةٌ أهمها:

1- ترويض النفس وتربيتها:
فالإنسان إذا صبر حيناً من الوقت على المفاجآت المزعجة ونوائب الدهر، وعلى مشاقّ العبادات والمناسك، وعلى مرارة ترك الملذّات النفسيّة امتثالاً لأوامر وليّ النعم، وتحمّل الصّعاب مهما كانت شديدة ومؤلمة، اعتادت النفس شيئاً فشيئاً وتروّضت، وتخلّت عن التمرّد، وتذلّلت صعوبة تحمّل المشاق عليها، وحصلت للنفس ملكةٌ راسخة نورانية، بها يتجاوز الإنسان مقام الصّبر ليبلغ المقامات الأخرى الشامخة. بل إنّ الصّبر على المعصية يبعث على تقوى النفس، والصّبر على الطاعة يسبّب الاستيناس بالحق عزّ وجلّ، والصّبر على البلايا يوجب الرضا بالقضاء الإلهيّ. وكل ذلك من المقامات الشامخة لأهل الإيمان، بل لأهل العرفان.

يقول المحقّق الخبير نصير الدين الطوسي: "الصّبر حبس النفس عن الجزع عند المكروه. وهو يمنع الباطن عن الاضطراب، واللسان عن الشّكاية، والأعضاء عن الحركات غير المعتادة"5. وعلى العكس، فإنّ الإنسان غير الصابر، قلبه مضطرب، وباطنه موحش، ونفسه قلقة ومهزوزة. وهذا بنفسه بليّةٌ فوق جميع البلايا، ومصيبةٌ من أعظم المصائب التي تحلّ بالإنسان وتسلب منه الراحة والقرار. وأمّا بالصّبر فتخفّ الرزيّة، ويتغلّب القلب على النّوائب والبلايا، وتنتصر إرادة الإنسان على المصائب. ولذا نجد الإنسان غير الصّابر يشكو عند من هو أهلٌ للشكاية، ومن ليس بأهلٍ للشكاية، وهذا الأمر بالإضافة إلى أنّه يؤدّي إلى الفضيحة لدى الناس، والاشتهار بالضعف بينهم، وعدم الجلادة، فإنه سيسقطه من أعين الناس ويحطّ من كرامته لدى ملائكة الله، وأمام جلال القدس الربوبيّ.

2- تثبيت الإيمان في النفس:
ورد في الأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة ثناءٌ بليغٌ على الصّبر. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "الصّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصّبر ذهب الإيمان"6.

وعن الإمام السّجاد عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: "الصّبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبرَ له"7. إنّ الصّبر مفتاح أبواب السعادات، وباعثٌ للنجاة من المهالك، بل إنّ الصّبر يهوّن المصائب، ويخفّف الصعاب، ويقوّي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية مملكة الروح. وأمّا الفزع والجزع فبالإضافة إلى أنَّهما عيبٌ، وكاشفان عن الضعف في النفس، فإنّهما يجعلان الإنسان مضطرباً، والإرادة ضعيفةً والعقل موهوناً.

إنّ العبد الذي لا يتحمّل مصيبةً واحدةً نازلةً عليه من الحقّ المتعالي والحبيب المطلق، والذي إذا واجه بليّةً واحدةً رفع صوته بالشّكوى من وليّ نعمه أمام المخلوق رغم نزول البركات عليه وتلقّيه آلاف آلاف آلاف النّعم، مثل هذا العبد أيّ إيمانٍ له؟ وأيّ تسليمٍ له أمام المقام القدسيّ للحقّ؟ فيصحّ أن يقال إذاً: إنّ من لا صبر له لا إيمان له. لو كنت مؤمناً بالحضرة الربوبية، ورأيت أنّ مجاري الأمور بيد قدرته الكاملة، وأنّه لا يكون لأحدٍ يدٌ في الحوادث والأمور لما اشتكيت من حوادث الأيّام والبليّات أمام غير الحقّ تعالى، بل لاستقبلتها بكل حفاوةٍ وتكريم، وشكرت نعم الحقّ سبحانه. فكلّ الاضطرابات النفسية والشكاوى اللسانية والحركات غير اللائقة وغير المعتادة للأعضاء، تشهد بأنّنا لسنا من ذوي الإيمان.

فما دامت النّعمة موفورة، شكرنا ربنا شكراً ظاهرياً لا لبّ له، بل يكون لأجل طمع الزيادة، وحينما تواجهنا مصيبةٌ واحدةٌ أو يحلّ بنا ألمٌ ومرضٌ، اشتكينا من الحقّ تعالى لدى الناس وغمزنا فيه، واعترضنا عليه، وأبدينا الشكوى أمام كلّ من هو أهل، ومن ليس بأهل. وتتحوّل الشكاوى والجزع والفزع الحاصل في النفس، إلى بذور البغض تجاه الحقّ والقضاء الإلهيّ، ثمّ ينمو شيئاً فشيئاً، ويشتدّ حتّى يتحوّل إلى ملكة، بل لا سمح الله، تتحوّل الصورة الداخلية للذات إلى صورة البغض لقضاء الحقّ، والعداء للذات المقدّسة.

فالجزع والفزع لا يجديان نفعاً، بل لهما أضرارٌ مخيفة، ومهالك تنسف الإيمان. وأمّا الصّبر والجلادة فلهما الثواب الجزيل، والأجر الجميل، والصورة البهيّة البرزخية الشريفة، كما ورد في الحديث الشريف: "... الصّبر يعقب خيراً، فاصبروا ووطّنوا أنفسكم على الصّبر تؤجروا"8.

فعاقبة الصّبر هي الخير في هذه الدنيا، كما يستفاد من التمثيل بالنبيّ يوسف عليه السلام، ويبعث على الأجر والثواب في يوم الآخرة. وفي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من ابتلي من المؤمنين ببلاءٍ فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد"9. ووردت أحاديث كثيرة في هذا المضمار. وأمّا أنّ للصّبر صورةً بهيةً برزخية، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إذا دخل المؤمن في قبره، كانت الصلاة عن يمينه، والزكاة عن يساره، والبرّ مطلّ عليه، ويتنحّى الصّبر ناحية، فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته، قال الصّبر للصلاة والزكاة والبرّ: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه"10.

كيفيّة التحقّق بمقام الصّبر
إنّ من النتائج الكبيرة والثمار العظيمة لتحرّر الإنسان من عبودية النفس، الصّبر في البلايا والنوائب. فالإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والميول النفسية، كان رقّه وعبوديته وذلّته بقدر مقهوريّته لتلك السلطة الحاكمة عليه. ومعنى العبودية لشخصٍ هو الخضوع التّام له وإطاعته. والإنسان المطيع للشهوات المقهور للنفس الأمّارة يكون عبداً منقاداً لها. وكلّما أوحت هذه السلطات بشيءٍ أطاعها الإنسان وخضع لها منتهى الخضوع، حتى يغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً أمام تلك القوى الحاكمة. ويبلغ به الأمر إلى مستوى يفضّل طاعتها على طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها على عبودية مالك الملوك الحقيقيّ.

وفي هذه الحالة تزول عن نفسه العزّة والكرامة والحرية، ويحلّ محلها الذلّ والهوان والعبودية، ويخضع لأهل الدنيا، وينحني قلبه أمامهم وأمام ذوي الجاه والحشمة، ولأجل بلوغ شهواته النفسية يتحمّل الذلّ والمنّة، ولأجل الترفيه عن البطن والفرج يستسيغ الهوان، ولا يتضايق من اقتراف ما يخالف الشرف والفتوّة، عندما يكون أسيراً لهوى النفس والشهوة.

وينقلب إلى أداةٍ طيّعة أمام كل صالحٍ وطالح، ويقبل امتنان كلّ وضيعٍ عنده لمجرّد احتمال نيل ما يبتغيه حتّى إذا كان ذلك الشخص أحطّ وأتفه إنسان. إنّ عبيد الدنيا وعبيد الرغبات الذاتية، والذين وضعوا رسن عبودية الميول النفسية في رقابهم، يعبدون كلّ من يعلمون أنّ لديه الدنيا أو يحتملون أنّه من أهل الدنيا، ويخضعون له، وإذا تحدّثوا عن التعفّف وكبر النفس، كان حديثهم تدليساً محضاً، وإنّ أعمالهم وأقوالهم تكذب حديثهم عن عفّة النفس ومناعتها.

إنّ هذا الأسر والرّق للشهوات وأهواء النفس، من الأمور التي تجعل الإنسان دائماً في المذلّة والعذاب والنصب. ويجب على الإنسان ذي النبل والكرامة أن يلتجئ إلى كلّ وسيلةٍ لتطهير نفسه منها. ويتمّ التطّهر من هذه القذارات والتحرّر من كلّ خسّةٍ وهوانٍ بمعالجة النفس، وهي لا تكون إلَّا بواسطة العلم والعمل النافع.

أمّا العمل: فيكون بالرياضة الشرعية وبمخالفة النفس فترةً يتمّ فيها صرف النفس عن حبّها المفرط للدنيا والشهوات والأهواء حتّى تتعوّد هذه النفس على الخيرات والكمالات.

أمّا العلم: فيتمّ بتلقين النفس وإبلاغ القلب بأنّ الناس الآخرين يضاهونه في الفقر والضعف والحاجة والعجز، وأنّهم يشبهونه أيضاً في الاحتياج إلى الغنيّ المطلق القادر على جميع الأمور الجزئية والكليّة. وأنّهم غير قادرين على إنجاز حاجة أحدٍ أبداً، وأنّهم أتفه من أن تنعطف النفس إليهم ويخشع القلب أمامهم. وإنّ القادر الذي منحهم العزّة والشرف والمال والوجاهة قادرٌ على أن يمنح الجميع.

ومن العار حقيقةً على الإنسان أن يتذلّل وينحطّ في سبيل بطنه وشهوته ويتحمّل الامتنان من مخلوقٍ فقيرٍ ذليلٍ لا حول له ولا علم ولا وعي. إذا أردت أيّها الإنسان أن تقبل المنّة فلتكن من الغنيّ المطلق وخالق السموات والأرض، فإنّك إذا وجّهت وجهك إلى الذات المقدسة، وخشع في محضره قلبك، تحرّرت من العالمين11، وخلعت من رقبتك طوق العبودية للمخلوق لأنّ العبودية لله وحده لا شريك له.

* أخلاقنا الإسلامية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة ص، الآية 41.
2- سورة ص، الآية 44.
3- سورة يوسف، الآية 86.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 91.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 68.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 87.
7- م.ن، ص 89.
8- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 89.
9- م.ن، ص 92.
10- م.ن، ص 90.
11- أي كل ما سوى الله عزّ وجل

قراءة 7766 مرة