المرجئة

قيم هذا المقال
(0 صوت)

وهو مأخوذ من الإرجاء بمعنى التأخير، وقد قيل في تسمية هؤلاء بالمرجئة انّهم يقدّمون الإيمان ويؤخّرون العمل، فالإيمان عندهم عبارة عن مجرّد الإقرار بالقول وإن لم يكن مصاحباً للعمل، فأخذوا منه جانب القول وطردوا جانب العمل، فاشتهروا بالمرجئة أي المؤخرة، وشعارهم: «لا تضرّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة»، وهؤلاء والخوارج في هذه المسألة على جانبي نقيض، فالمرجئة لا تشترط العمل في حقيقة الإيمان وترى العاصي مؤمناً وإن ترك الصلاة والصوم، ولكن الخوارج يضيّقون الأمر فيرون مرتكب الكبيرة كافراً مخلداً في النار.

ويقابلهما المعتزلة فانّ مرتكب الكبيرة عندهم لا مؤمن ولا فاسق بل في منزلة بين الأمرين، فزعمت انّها أخذت بالقول الوسط بين المرجئة والخوارج.

والمعروف بين المسلمين انّ مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق. وبتقييد الإيمان بالفسق خالفت المرجئة، وبوصفه بالإيمان خالفوا الخوارج والمعتزلة.

والحاصل: انّ تحديد الإيمان بالإقرار دون العمل، أو تحديده بالمعرفة القلبية دون القيام بالأركان، يعدّ ركناً ركيناً لهذه الطائفة، بحيث كلّما أُطلقت المرجئة لا يتبادر منها إلاّ من تبنّى هذا المعنى .

ثم إنّهم رتّبوا على تلك العقيدة أُموراً :

1-انّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأنّ أمر التصديق دائر بين الوجود والعدم، ومثله تفسير الإيمان بالإقرار باللسان فهو أيضاً كذلك، وليس العمل داخلاً في حقيقته حتّى يقال انّ العمل يكثر ويقل .

2-انّ مرتكب الكبيرة مؤمن حقيقة، لكفاية التصديق القلبي أو الإقرار باللسان في الاتّصاف بالإيمان، وهؤلاء في هذه العقيدة يخالفون الخوارج والمعتزلة.

أمّا الأُولى: فلأنّهم يعدّون العمل عنصراً مؤثراً في الإيمان بحيث يكون تارك العمل كافراً، وقد اشتهر عنهم بأنّ مرتكب الكبائر كافر، وليس المؤمن إلاّ من تحرّز من الكبائر .

وأمّا الثانية: فلأنّهم يعتقدون انّ مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر. والمعتزلة أخف وطأة من الخوارج، وإن كانت الطائفتان مشتركتين في إدخال العمل في حقيقة الإيمان.

3-ان مرتكب الكبيرة لا يخلد في النار وإن لم يتب ولا يحكم عليه بالوعيد والعذاب قطعاً لاحتمال شمول عفوه سبحانه له، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أنّ صاحب الكبيرة يستحقّ العقوبة إذا لم يتب، وانّ من مات بلا توبة يدخل النار، وقد كتبه الله على نفسه فلا يعفو. ( [1])

مؤسّس المرجئة :

إنّ التاريخ لم يسجّل مبدأ تكوّن فكرة الإرجاء، والمؤّرخون ينسبونه إلى الحسن بن محمد بن الحنفية (المتوفّى عام 99 هـ)، ولكنّه بعد غيرثابت، وعلى فرض ثبوته فالإرجاء الّذي قال به غير الإرجاء المعروف، فقد نقلوا عنه أنّه تكلّم في علي وعثمان وطلحة والزبير في محضره فأكثروا وهو ساكت، ثم تكلَّم فقال: قد سمعت مقالكم، أرى أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولا يتبرى منهم. ( [2])

غير أنّ الإرجاء الّذي تكلّم فيه الحسن بن محمد غير الإرجاء المعروف عند أهل السنّة المتعلّق بالإيمان، فإنّ الإرجاء عند أهل السنّة هو تقديم الإيمان وتأخير العمل، ولعل الحافز لابن الحنفية إلى ترويج الإرجاء بالمعنى المذكور هو إيقاف الهجمة على جده أمير المؤمنين، والله أعلم .

ولعلّ الإرجاء بالمعنى الأوّل الّذي صدر عن ابن الحنفية عن غاية صحيحة، صار أساساً للمعنى الثاني، أمّا تقديم الإيمان وتأخير العمل فقد استعمله الأُمويّون لتبرئتهم حيث كانوا غارقين في العصيان والفساد.

وبذلك يعلم أنّ أصل الإرجاء هو التوقف وترك الكلام في حق بعض الصحابة، لكن نسي الإرجاء بهذا المعنى وأخذ أصل آخر مكانه، وهو تحديد الإيمان بالإقرار دون العمل، أو المعرفة القلبية دون القيام بالأركان. ولمّا كان كلا الأصلين لصالح الأُمويّين حيث يلزم التوقّف في حق عثمان وأعماله، كما أنّه يبرر ما اقترفه الأُمويّون من الجرائم أخذوا يروّجونه بحماس .

خطر المرجئة على أخلاق المجتمع:

إنّ تجريد الإيمان من العمل فكرة خاطئة تسير بالمجتمع ـ وخصوصاً الشباب ـ إلى الخلاعة والانحلال الأخلاقي وترك القيم، بحجّة انّه يكفي في اتّصاف الإنسان بالإيمان وانخراطه في مسلك المؤمنين الإقرار باللسان أو الإذعان بالقلب، ولا نحتاج وراء ذلك إلى شيء من الصوم والصلاة، ولا يضره شرب الخمر وفعل الميسر، ويجتمع مع حفظ العفاف وتركه.

ولو قدر لهذه الفكرة أن تسود في المجتمع لم يبق من الإسلام إلاّ رسمه ومن الدين إلاّ اسمه، ويكون المتديّن بهذه الفكرة كافراً واقعياً، اتّخذها واجهة لما يكنّ في ضميره .

ولقد شعر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بخطورة الموقف وعلموا بأنّ إشاعة هذه الفكرة بين المسلمين عامّة والشيعة بوجه خاص سترجعهم إلى الجاهلية، فقاموا بتحذير الشيعة وأولادهم من خطر المرجئة فقالوا:

«بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة».( [3])

وفكرة الإرجاء فكرة خاطئة تضر بالمجتمع عامّة، وانّما خصّ الإمام منهم الشباب لكونهم سريعي التقبّل لهذه الفكرة، لما فيها من إعطاء الضوء الأخضر للشباب باقتراف الذنوب، والانحلال الأخلاقي، والانكباب وراء الشهوات مع كونهم مؤمنين.

ولو صحّ ان ما ادّعته المرجئة في الإيمان والمعرفة القلبية، والمحبّة لإله العالم، لوجب ان تكون لتلك المحبة القلبية مظاهر في الحياة، فانّها رائدة الإنسان وراسمة حياته، والإنسان أسير الحب وسجين العشق، فلو كان عارفاً بالله محباً له، لاتبع أوامره ونواهيه، وتجنّب ما يسخطه وتبع ما يرضيه، فما معنى هذه المحبّة للخالق وليس لها أثر في حياة المحب؟! ولقد وردت الإشارة إلى التأثير الّذي يتركه الحب والود في نفس المحب في كلام الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال:

«ما أحب الله عزّوجل من عصاه» ثم أنشد الإمام (عليه السلام) قائلاً:

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه *** هذا محال في الفعال بديع

لو كان حبك صادق لأطعته *** ان المحب لمن يحب مطيع( [4])

 



[1] . لاحظ مقالات الإسلاميين: 126- 147 .

 

[2] . تاريخ ابن عساكر: 4 / 246، ط دمشق، 1332 هـ .

[3] . الكافي: 6 / 47، الحديث 5 .

[4] . سفينة البحار: 1 / 199، مادة حبب .

قراءة 3274 مرة